تتفاعل تركيا مع تطورات جديدة فيما يتعلق بالملف السوري، وتتجه لتبني مواقف أكثر حسماً من سوابقها بخصوص الفواعل المختلفة المنخرطة في القضية السورية من منطلقات أمنية ومصلحية.
وقد عزز هذا التوجه بروز إشكاليات إضافية قد لا تكون رئيسية لكنها مثقلة: منها الضغوط الحزبية على الحكومة حول الموقف السياسي التركي من بوابة اللاجئين، وأزمة الاعتداءات على السوريين في ولايات تركية مختلفة من قبل مجموعات تحاول أن تأخذ شكلاً من التنظيم، بينما أبرز التطورات تلك تكمن في احتجاجات شمال غربي سوريا، مع وجود حالة من عدم الرضى إزاء المواقف التركية تجاه القضية السورية.
أشار ذلك إلى تحولات عميقة في الموقف التركي ليس فقط تجاه الملف نفسه وإنما في السياسات الخارجية. وقد عبّرت الخارجية التركية في بيان نشرته عن هذه التحولات بتأكيد ضرورتها بما يندرج ضمن مصلحتها الأمنية، لكن على أهمية تلك العوامل، يبقى التحول التركي الأساسي ينطلق من بوابة سؤال "الأمن" وتناسقه مع متغيرات المنطقة، خاصةً في ظل تبدل مواقف إقليمية عديدة تجاه القضية السورية. هذه التبدلات نفسها كنسق تعاملت معها تركيا بإيجابية عند إعلان قطع العلاقات مع نظام الأسد لدى اندلاع الثورة السورية كنتيجة طبيعية مرتبطة بأمن الإقليم.
اللافت أن تلك التحولات تأتي عقب تطورات دولية وإقليمية عميقة والتي تركت آثاراً أمنية هناك إلحاح للتعامل معها، كالقضية الفلسطينية وقبلها الأوكرانية، تلك القضايا التي لا يمكن فصل عوامل تأثيرها عن الملف السوري.
بجانب ذلك، قد يكون من المهم وضع الملف السوري في سياق أضيق لمحاولة معالجة مواقف الدول منه، فلم يكن تغيّر الموقف التركي الذي يعتبر تطوراً أكثر من تغير، متأثراً بعوامل الإقليم فحسب؛ وما كان ليصل لهذه المرحلة لولا وجود عوامل ذاتية تساعد على تطور الموقف من القضية السورية، خاصةً لدى معاينة الموقف التركي تجاه الملف السوري منذ أول عملية عسكرية تركية في سوريا عام 2016، حيث بررتها أنقرة من دوافعها الكامنة في حماية الأمن القومي التركي؛ أي أنّ التدخل التركي في سوريا كان واضحاً بما يكفي لمعاينته من هذه المنطلقات من دون تحميله مبادئ ومنطلقات رغبوية وتفاؤلية يغلب عليها الجانب القيمي أكثر منه التقني والأمني، ما يعني وجود مصالح مشتركة ضمن مرحلة معينة بين قوى المعارضة السورية والجانب التركي.
يمكن اعتبار التصريحات الجديدة للرئاسة التركية في تموز 2024، التي تزامنت مع توترات كبيرة تجاه ملف اللاجئين وشمال غربي سوريا، هي الأكثر وضوحاً وقرباً من نظام الأسد وتشي بتقدّم كبير يحصل في ملف الوساطة الروسية.
ثنائية "الأمن والموقف السياسي"
سعت تركيا لحفظ ثنائية "الأمن والموقف السياسي" بخصوص القضية السورية وقد برز ذلك عبر العمليات العسكرية التي عنونتها بالأمن وتصورت للسوريين المعارضة على أنّها تقاطعات تخص الموقف التركي من الثورة السورية. خلق هذا الموقف فرصاً عديدة لأنقرة سمحت لها بتنفيذ عمليات عسكرية وتوسيع نفوذها في سوريا، فضلاً عن اكتسابها ثقة الشارع السوري المعارض، مما مكّنها من ملفات مهمة بخصوص الملف السوري ارتبطت بمرحلة أصبحت مع الوقت قابلة للتغيير.
فلم تنجح أنقرة بعد توافقات سوتشي وملاحقها آخرها الخاص بمنطقة شمال شرقي سوريا بعمليات "نبع السلام" في تحصيل مكاسب أكبر لا من روسيا ولا من واشنطن، دفعها ذلك لتغيير تكتيك التعامل مع تحدياتها الأمنية، وفتحت مساحات جديدة للتعاطي مع الملف من خلال مفاوضات مع روسيا لأجل تمرير عمليات عسكرية بالتوافق مع دمشق، مما يساعدها على القفز على محاولة إيجاد صيغ توافق معقدة بين موسكو وواشنطن واستعادة قدرة الردع الاستراتيجية.
تُرجمت هذه التطورات بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية التركية 2024 بلقاء على مستوى الاستخبارات ومن ثم الخارجية مما يجعلها من كبرى مؤشرات الانخراط التركي في المسار الجديد، بينما يمكن اعتبار التصريحات الجديدة للرئاسة التركية في تموز 2024، التي تزامنت مع توترات كبيرة تجاه ملف اللاجئين وشمال غربي سوريا، هي الأكثر وضوحاً وقرباً من نظام الأسد وتشي بتقدّم كبير يحصل في ملف الوساطة الروسية.
فضلاً عن أنّها تجسيد لمقولات الأمن المجرّد ولتحولات عميقة في السياسات الخارجية التركية خاصة بخصوص المنطقة؛ التي بات عنوان الأمن فيها أهم من كل عناوين التغيير السياسي على مستوى الأنظمة السياسية لكي تطوى حقبة الربيع العربي، التي لم تنجح في تقديم إجابات مقنعة على مستوى أمن النظام الإقليمي، بل شكّلت تحديات أمنية هددت مصالح الدول كما في الحالة التركية.
إعادة النظر في التحولات التركية
إنّ الأهداف التركية واضحة منذ لحظة تنفيذ أول عملية عسكرية. والتقاطعات الماضية مع القوى المحلية السورية كانت طارئة وليست مستدامة بينما الدوافع التركية لم تكن تتعلق بدعم قوى المعارضة العسكرية بمساعيها الذاتية في تلك الآونة أي تغيير نظام الأسد، وإنما تنفيذ التطلعات التركية الأمنية عبر حماية الأمن القومي التركي، من هذا التفسير ينبغي قراءة الموقف السياسي التركي. ما يعني، أن التطلعات ذاتها تعمل أنقرة على استكمالها لكن هذه المرة عبر دمشق وليس عبر المعارضة السورية فقط، مما قد يتطلب إعادة النظر بمرحلة ما بعد الاستقرار التي وصفها الرئيس التركي بأنها مرحلة سورية جديدة بالنسبة لبلاده. هذه المرحلة تتجاوز تفسيرات التواصل السياسي مع نظام الأسد وتعلي من منطلقات أمنية وسياساتية أي التواصل التقني وديناميات الأمن، كما تجيب عن تخوفات تركيا الأمنية وتنهي أو تخفف حالة الإرباك والقلق، بما قد يشمل عودة أجهزة الدولة التابعة لنظام الأسد للشمال أي عبر معابر الحدود وفتح معابر الخطوط، الخطوة التي بالفعل أقدمت عليها أنقرة.
تبقى فرص التوجه التركي المتغير أوسع لأنه يراعي مفاهيم "الدولة" و"السيادة" و"القانون الدولي"، بينما يبقى هذا المناخ السائد بكل تجلياته يمثل "صدمة استراتيجية" جديدة للمعارضة السورية ربما لا تكون الأخيرة.
التحولات والتحديات
يُعتبر هذا التوجه مماثلاً إلى حد بعيد لما حصل في الجنوب السوري كحالة قابلة للاستفادة والتطوير والتطبيق مع تفهم سياق الشمال الغربي وتحدياته. بالتالي، لا متغير في الأهداف الرئيسية، لأن معارضة الأسد كانت من متطلبات مرحلة ودعم المعارضة بما يحفظ مكاسب سياسة "الحياد الإيجابي" التي قد تفوقها في الحالة السورية. مع ذلك، لا ينبغي الاستهانة بالسيناريو المطروح لأنّه لا يقل صعوبةً عن السياسات الأولى لأنقرة التي أشارت إلى تعقيد السيناريو، حيث تكمن صعوبته في موقف واشنطن، الذي إمّا أن يُسهم في تذليل الصعوبات التركية الروسية مع دمشق أو ترسيخها، فضلاً عن تحديات الفواعل المحليين ضمن معادلة هذه الانزياحات الملحة أمنياً أو "الاستدارة"، لكن تبقى فرص التوجه التركي المتغير أوسع لأنه يراعي مفاهيم "الدولة" و"السيادة" و"القانون الدولي"، بينما يبقى هذا المناخ السائد بكل تجلياته يمثل "صدمة استراتيجية" جديدة للمعارضة السورية ربما لا تكون الأخيرة.