كلما ارتفع صوت لأحد السوريين الذين يعيشون تحت قبضة النظام، منتقداً إياه، بادر معارضون للنظام خارج سيطرته، لتداوله وتحليله، والبناء عليه.
أسباب هذا الاهتمام والتركيز على هذه الأصوات متعددة، ومتباينة، فهي عند قسم محاولة لفهم ما يجري في البيئة "الخاضعة"، وعند قسم ثانٍ للشماتة، وعند قسم ثالث لإثبات وجهة نظره، والخ، إلا أن الدافع الأهم لهذا الاهتمام يكمن في انتظار تغيير موقف هذه البيئة، وانقلاب المعادلة التي تبقي سوريا على حالها المأساوي الراهن، ففي تغير هذه المعادلة قد يكون الخلاص الوحيد بعدما أدرك السوريون جميعاً أن خروجهم من مأساتهم لن يكون إلا بأيديهم.
لست هنا لأناقش أيا من هذه الدوافع، لكنني أحاول أن أردَّ الأمر إلى طبيعته وجوهره بعيدا عن الرغبات والعواطف.
أن تظهر المذيعة "رنا العلي" في فيديو "التوبة" بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على فيديو انتفاضتها "فيديو جرة الغاز" هو الاحتمال الأرجح إن لم يكن الوحيد، وتوقع حصوله يجب ألا يقل عن نسبة 95،1% التي فاز فيها من وقفت تحت صورته في فيديو التوبة لتخبرنا أنه يحميها، وأنه يحمي حرية الكلمة والتعبير!
وأن ينهي أهالي قرى "الزرقات"، و"يحمور"، وبعض القرى المحيطة بهما احتجاجهم وقطعهم لطريق عام "طرطوس / صافيتا" بسبب تلوث مياه شربهم، وبسبب مهانتهم من الواقع المعيشي المتردي، والذي يزداد سوءا كل يوم، مرددين "بالروح بالدم نفديك يا بشار" أيضاً هو الاحتمال الوحيد.
وأن يخرج أحد ممن يصنفون بذوي الصوت العالي ليطلب من السلطة أن تسمح له بالعواء، وأن تدعو شخصية نسائية لعبت دورا مهما في مواقع إعلامية لهذا النظام للهجرة، وأن يقطع أهالي "عين شقاق، (قرية قريبة من جبلة)" الطريق، وأن لا "يبق البحصة" كاتب وصحفي وشاعر دافع حتى الابتذال عن الجيش والقيادة، إلا بعد الظهور الإعلامي المخزي لـ "لونا الشبل" فتنتفض كرامته ويعلن موقفاً مغايراً لموقفه الذي امتد لسنوات، وأن.. وأن، كل هذا ليس له معنى، وليس أكثر من استجداء رخيص ومبتذل لأناس يريدون تحسين شرط عبوديتهم.
من يرفق احتجاجه بمناشدة لرأس الفساد، ولرأس العصابة التي فتكت، ولاتزال تفتك، بسوريا، ومن لايزال يعتبر الجيش السوري الذي دمر سوريا على أنه ركن الأساس المقدس الذي لا يجوز اتهامه أو النيل منه، لا يمكن التعويل عليه، وهو بالتأكيد سيرى بشار الأسد كفاتح عظيم عندما تزيد ساعات التغذية بالتيار الكهربائي ساعة واحدة عما هو عليه الواقع الآن، وقد يحمل بندقيته دفاعا عن هذا النظام فيما لو زادت مخصصات الخبز رغيفاً في اليوم، وسينسى الجولان وسينسى احتلال الروس وإيران وأميركا وتركيا لمناطق في سوريا لو وصل دخله اليومي إلى دولار واحد.
الوطن والمؤامرة والكرامة والحرية ليس لها معنى خارج معادلة ارتهانهم للسلطة التي تستعبدهم، وتتحكم بلقمة خبزهم
لنعترف بهذه الحقيقة رغم كل قسوتها، حقيقة قابلية الخضوع غير المحدود، وحقيقة الاستعداد لتقبل الذل والمهانة، بل والتمتع بذلك الذل وتلك المهانة، حقيقة أن هؤلاء ليسوا فقط أشخاصا معوزين ومحرومين من وسائل العيش الضرورية، بل هم أيضا أشخاص تعساء ومهانون، وقد يثيرون العطف والرحمة والشفقة عليهم، وهم - وهنا الأهم- غير معنيين أبداً بالشعارات الكبرى التي يتداولونها، فالوطن والمؤامرة والكرامة والحرية ليس لها معنى خارج معادلة ارتهانهم للسلطة التي تستعبدهم، وتتحكم بلقمة خبزهم.
من يكون الخلاص الفردي، أو الطائفي، بوصلته الوحيدة في وقت الكارثة التي تهدد مصير وطنه لسنوات طويلة، يصبح من الحماقة أن ننتظر منه أن يعلي الوطن يوماً، ومن يتجاهل وطنه طويلا، ولا يتذكره إلا حين يستنفد فرص خلاصه الفردي، لن يكون يوما حريصا على هذا الوطن، ولا مدافعا عنه، ومن يرى الوطن راية يرفعها حين يتهدد وجوده فقط، سينزل هذه الراية عندما يشعر أنه أصبح آمناً، ورايته الحقيقية الوحيدة هي فسحة ضيقة للحياة حتى لو كانت على أشلاء الآخرين.
لنعترف إذاً، أن كل هذه الصرخات التي تعلو اليوم، بعد عشر سنوات من تدمير ممنهج لوطن، أنها ليست أكثر من صرخات لحماية الذات، وليست بحثا عن خلاص وطن، وأن اعتبارها مؤشراً على انتقال مطلقها إلى صف الرافضين للسلطة التي تحكم الوطن هو مجرد وهم، نعم مجرد وهم أو أمنية ناكثة، إنها الحقيقة بكل قسوتها، وبكل فجاجتها.
الاختلاف الذي يبنى عليه، ويمكن اعتباره مهما، إنما يكمن أساسا في أولئك الذين يدركون جيدا دور العصابة التي تحكم دمشق، والباحثين عن خلاص جمعي، يرتكز على معنى الوطن والمواطنة، ومعنى الدولة ودورها، أما من لايزال مقتنعاً أن شخص الرئيس يختصر الدولة والوطن والمستقبل فليس لصرخته أي معنى، والوطن بالنسبة له ليس أكثر من مساحة ذاتية آمنة قد يوفرها له الرئيس، أو توفرها الطائفة، أو العشيرة، أو العائلة.
معركة السوريين لم تكن لمواجهة مؤامرة كونية، ولا لإسقاط نظام "مقاوم"، بل كانت ولاتزال معركة ضد من جعل من الوطن مزرعته الخاصة، ونهبه، وباعه
لست متعاطفاً مع جوع من يناشد الرئيس ليزيد حصته من الخبز، وأحتقر ثقافة "مثقف" يضع جيش "التعفيش" خطاً أحمر، ولست متعاطفاً مع من يكشف عن يده أو قدمه المبتورة مذكرا ببطولاته المتوهمة ومستجديا ثمن الدواء.
لم يعد هناك عذر لأحد، فحقائق هذه السنوات العشر الفاجعة تفقأ عين الأعمى، ومن يريد الحقيقة فهي واضحة في كل مكان، وفي كل حدث، وفي كل فاجعة. ومعركة السوريين لم تكن لمواجهة مؤامرة كونية، ولا لإسقاط نظام "مقاوم"، بل كانت ولاتزال معركة ضد من جعل من الوطن مزرعته الخاصة، ونهبه، وباعه، وها هو يساوم على بقية الدم في عروقه.
على مشارف الموت، وفي آخر خطوة من طريق طويل من الذل مشي خطوة خطوة، لا معنى لصحوة الكرامة المفاجئ هذا، ولا معنى للتشدق بعبارات الوطن والولاء له.
"مذلون مهانون" عنوان رواية كتبها الروائي الروسي الشهير "دوستويفسكي" 1861.