حين وصل إلى السويد منذ سنين طويلة، كان يعتقد أن لغة الفن التشكيلي ستكون كافية للتواصل مع الآخرين الذين وجد نفسه في قلب ثقافتهم وحضارتهم، قادما من بلاد تهمش مبدعيها وتضيق الخناق على أصوات مواطنيها.
لكنه مع الوقت اكتشف أن الفن التشكيلي ليس كافيا ليكون تعبيرا وأداة للتواصل مع (الجمهور) الجديد، والعلاقات الجديدة. إذ لا بدّ من اللغة.
أما في سوريا التي غادرها، وفي مسقط رأسه (عامودا) فكان التعبير عن الذات أيضا ليس على ما يرام، فهناك يواجه المواطن صراع ثنائيةِ اللغة الكردية والعربية، هذه الثنائية التي حكمت مرحلة طويلة من البعثية والعروبة القسرية.
وضمن هذه البعثية التي أنتجت ثقافة باتجاه واحد، جرت أدلجة الفن والنتاج الإبداعي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وفي هذا الإطار طُلِبَ من محمد سيدا ذات يوم أن يرسم لصحيفة سورية معروفة لوحات كاريكاتير بشكل شبه يوميّ على أن تكون اللوحات ذات موضوع واحد هو مقاومة إسرائيل! وقد رفض بطبيعة الحال فهناك مواضيع غير إسرائيل يمكنها أن تملأ رأس الفنان وخياله.
تخضع هذه الذكريات لنوع من مقارنات لا مفرّ منها حين يراقب الفنان كيفية تلقي الجمهور السويدي لأعماله بكل احتفاء وتقدير، مقارنات توضّح للمهاجر اللاجئ حجم ألمه وغربته في قلب ثقافته.
ففي عامودا مع شلة أصدقاء (هو مع شعراء وموسيقيين) كانوا منخرطين في العمل الفني دون اهتمام بإرضاء (الجمهور) أو تقييم الآخرين وأحكامهم، بل ثمة قناعة مشروعة في تلك المرحلة أن الهدف هو تحقيق الرضى الذاتي المتحقق من تطوير التجربة وفهمها. لهذا ليس هناك تلبية لمتطلبات الجمهور الفني من لوحاته.
بل إن هذا الجمهور بصورة عامة كان على سجال وتوتر مع موضوعاته الإشكالية، خاصة في رسوم الكاريكاتير. ففن الكاريكاتير قام بالأساس على تقنية السخرية والاستهزاء من ظواهر سياسية بالدرجة الأولى ثم نال الظواهر الدينية المغلوطة والاجتماعية. وهذا ما برع فيه محمد حين أفرد حيزا واضحا من رسومه تلك لتقديم أقسى أنواع الانتقاد والسخرية مع حالات التخلف الفكري والثقافي التي تعاني منه ثقافتنا الشرقية لأسباب كثيرة ليس من طبيعة العمل الفني أن يشرحها بل تقتضي طبيعته أن يشير إليها وينبه على خطورتها.
محمد سيدا مرّ بمراحل عديدة كغيره من زملاء التشكيل والكاريكاتير، وحافظ في تجربته دائما على البعد الجمالي الحرّ للفنّ بمعنى أنه لم ينجرف وراء مغريات السوق ومتطلباته خاصة أن (سوق اللوحة) في أوربا يشكل حالة مغرية للفنان. وإذا كان هناك اهتمامٌ مشروع بالتسويق كنوع من التواصل، لكنه يرى للمسألة من موقفه ووجهة نظره، أي يطرح ما لديه وليس مستعدا لتلبية طلبات من نوع ما.
يميل سيدا إلى عدم الانشغال بالمجاملات في اختيار أفكار لوحاته خاصة لوحات الكاريكاتير، التي مارس من خلالها تعبيرا عن موقف شجاع وعلمانيّ مناهض للاستبداد السياسي والديني والثقافي، وكان يمكن أن يهادن في هذه المسألة ليكسب حضورا جماهيريا أوسع في أوساط معينة في السويد مثلا، أوساط ما زالت تنظر لمسائل الحضارة والسياسة من منظور شرقيّ يعاني من عدم قدرته على معايشة العالم المعاصر. لهذا تثير أفكاره في محاربة الاستبداد الدينيّ رغبة في المجابهة والتحدي. وقد لفت شغله الفني وتعبيراته الفكرية فنيا اهتمام الإعلام الثقافي في السويد، فلاقى ترحيبا جديرا به من عدة قنوات تلفزيونية وصحف سويدية، وتم تأكيد حضوره كفنان أول من بلاد المشرق يطلب منه المتحف السويديّ اقتناء عدد من أعماله، الأمر الذي يعتبر نقطة مضيئة في تجربته وانتشاره. فعادة ما يقتني متحف ما لوحة أو لوحتين، لكن مع محمد سيدا طلب منه المتحف السويدي سبع لوحات. من بينها لوحات تطرح موقفا مع المرأة ضد استغلالها وكبتها الفكري والعاطفي، ومنها لوحة لاقت صدى واسعا حول معاناة أوكرانيا، ومنها لوحات تعبر عن حرية الرأي والتعبير.
ولو شاء انتهاز موضوعة أوكرانيا لرسم لوحات كثيرة ليحقق مزيدا من القبول والجماهيرية، لكنه اكتفى بعمل فني واحد يعتبره كافيا ليقول كل ما يريد قوله. غير مكترث بمتطلبات اللحظة الإعلامية الراهنة. وكان يمكن أيضا أن يستغل ثقافته الكردية فيرسم كثيرا عن الكرد وواقعهم، لكنه كما يقول اكتفى بأربع لوحات فقط. إنه يفعل ذلك كي يبتعد عن ثقافة السوق. ومن هنا نفهم موقفه من عدم المشاركة في مسابقات كاريكاتير رغم كثرتها وإغراءاتها المادية، ويستغرب على سبيل المثال كيف يقبل فنان كاريكاتير تكريما من سلطة يدّعي هذا الفنان أنه ينتقدها في أعماله؟ هو يعتقد أن اقتناء المتحف السويدي لبعض أعماله أهمّ تكريم وجائزة.
يستمد سيدا أفكاره من تجاربه الحياتية والمجتمعية وذاكرته، ومن معاينته لأزمات العالم ومشاكله
إذا استعدنا التركيز على فن الكاريكاتير، نقول إنه نشأ ساخرا هازئا لاذعا، أي أنه يحقق وظيفته عبر الإضحاك والسخرية، لكن ثمة مناحٍ للكاريكاتير تحررت من عنصر السخرية وصار الكاريكاتير فرعا من فروع الفن التشكيلي قائما بذاته يختار مواضيعه وأفكاره المختلفة وينوّع في أشكال التعبير ولا يقف عند خلق حالة كوميدية ضاحكة، ففي بعض أعمال محمد سيدا الكاريكاتير ثمة أفكار تثير الألم والغضب مثلا.
اللوحة عنده في فن الكاريكاتير تقول أطروحتها ومقولتها ورأيها من غير أن يلجأ لوضع كلام وتفسيرات مع اللوحة، كما يفعل بعض رسامي الكاريكاتير فيضعفون القيمة الفنية الجمالية للوحتهم، خاصة أولئك الذين يملؤون لوحتهم بعشرات الكلمات وكأنها تبدو نصا لغويا مقحما على لوحة لا يؤمنون بمقدرتها على التعبير فيضطرون لوضع شروح عليها. قد يضع محمد سيدا كلمة أو اثنتين في حالات نادرة جدا، لكنه لا يعتبر الكلام في رسم الكاريكاتير شيئا إيجابيا.
يستمد سيدا أفكاره من تجاربه الحياتية والمجتمعية وذاكرته، ومن معاينته لأزمات العالم ومشاكله. فإذا رأينا في أعماله موضوع حرية المرأة واضطهادها الذكوريّ، فسوف يقول لنا محمد إن ذلك عائد لمشاهداته منذ طفولته لأحوال المرأة الشرقية التي تعتبر أداة عمل وتفريغ للقهر الذكوريّ، ولا يسمح لها برفع صوتها أو اتخاذ قرار أو إبداء رأي مناهض. لذلك لا يمكن أن نوافق منتقديه على أنه يركز على هذه الموضوعات لأنه يعيش في بلد أوروبي يدافع عن حقوق المرأة كاملة، فتلك موضوعاته من قبل أن يخرج من سوريا. وهو ابن مجتمعٍ يعاني مشكلاته الخاصة وليس محتاجا للبحث عن فقاعات غربية ليركب موجتها.
أحد صحفيي السويد رأى أن محمد سيدا يحقق في الكاريكاتير بسمة للمتلقي، مع أن سيدا قادم من بلدٍ يقوم نظامه بتصفية أحد ما على كلمة قالها! لهذا رأى هذا الصحفي أن الضحك هنا صار نوعا من المقاومة.
ثمة من يرى في فن الكاريكاتير امتدادا للسوريالية في الفن التشكيلي، منطلقا من أن الاثنين يعتمدان على خطوك وتحديدات واضحة في اللوحة، لا سيما أن الأشكال في الكاريكاتير تبدو مضخّمة بشكل مبالغ فيه، من أجل خلق الاستغراب الفني لدى المشاهد، وفي هذا سيلتقي الكاريكاتير مع السوريالية في المبالغة في الشكل أيضا. وهذا ما يفسر لنا تأكيد محمد سيدا على التضخيم والمبالغة في إظهار الشاربين مثلا، أو المبالغة في رسم كتف الديكتاتور ليجعل من الكتف تابوتا يحمل جثث ضحاياه!
إن سوريالية الكاريكاتير نابعة إضافة لذلك من الغرابة التي يجد المشاهد نفسه واقعا فيها وهو يحدق في أشكال بالفعل غريبة ومثيرة للدهشة. بمعنى من المعاني يمكننا اعتبار ذلك تقنية ذاتية في الكاريكاتير تحقق مباشرة تواصلا مع الجمهور، كما فعل سيدا في أعماله تلك.
لكن الكاريكاتير عنده كما يفعل في اللوحة وكما تحدث في أكثر من حوار معه، يقترب بصورة ما من (التشكيل) أحيانا، فيقدم لوحة فيها عنصرا التشكيل والكاريكاتير لهذا قد يستعمل في بعض هذه الأعمال التلوين من باب أنه يخص التشكيل أكثر.
رحلة محمد سيدا من عامودا إلى السويد منذ عشرين عاما، رحلة لم تقتصر على الهجرة واللجوء فقط، بل هي هجرة نحو فضاء من الحرية واكتشاف الذات وتنويع مصادر الهوية والانتماء.
والآن فالمهتمون حاضرا ومستقبلا بالفنون التشكيلية في السويد، سوف يقولون لقد مرّ من هنا فنان مبدع من الشرق وترك فينا أثرا.