قبل تسع سنوات وفي يوم الإثنين 20 آب 2012 وعندما كان المسلمون يحتفلون بثاني أيام عيد الفطر، تحركت الجرافات لإغلاق كل مداخل ومخارج مدينة داريا في الغوطة الغربية، لتبدأ قوات النظام وميليشياته حملة تطهير جماعي استمرت 7 أيام، قُتل فيها أكثر من 700 شخص بينهم 524 شخصاً موثقاً بالاسم، واعتقلت ميليشيات النظام المئات وجُرح في القصف أكثر من 1500 شخص.
حاصرت قوات النظام في ذلك اليوم نحو ربع مليون شخص في المدينة ومنعت خروج أي شخص منها ليكون العقاب جماعياً بالمطلق بحق مدينة ثارت على نظام بشار الأسد. وبعد ذلك كان القتل والموت والقهر والإعدامات الميدانية والحالة الإنسانية المزرية، وكان صوت القصف أعلى من صوت صليل السواطير والسكاكين التي كان يحملها الشبيحة في طريقهم لبيوت الناس، وكان الشحوب والخوف والحزن ظاهراً بشكل جلي على وجوه الناس، كل منهم ينتظر ماذا سيحل به وبأهل بيته، حتى إن الآباء صاروا يدفعون بأبنائهم إلى خارج المنازل للهرب إلى المجهول خوفاً مما سيحصل.
بداية المجزرة وأول الضحايا سقطوا نتيجة القصف الكثيف على الأحياء السكينة في الجزء الغربي من المدينة وتحديدا في منطقة "فشوخ" وهي المنطقة الفاصلة بين داريا ومدينة معضمية الشام، وكان هذا العدد من الجرحى في أول لحظات المجزرة كافياً ليمتلئ المستشفى الميداني بالجرحى والمصابين، والفريق الطبي يعمل ضمن نقص المعدات ونقص الممرضين، ومع وصول مزيد من الجرحى بات على المسعفين والأطباء اختيار جريح من كل عشرة جرحى لمعالجته، على أمل أن تكون حالته ممكنة للتدخل الإسعافي.
قصفت قوات النظام المستشفى الميداني ذاته الذي كان مقاماً في المدرسة التجارية ومن ثم نُقل إلى أحد الأقبية غير المجهزة بأي شيء، وافترش الفريق الطبي التراب إذ إن البناء كان حديث الإنشاء.
تسلسل زمني للمجزرة على مدار أسبوع
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تفاصيل وتطورات الواقع الميداني لمجزرة داريا الكبرى، وفي صباح يوم الثلاثاء الموافق 21 آب 2012 وصلت 30 دبابة لقوات النظام وانتشرت على الطريق الدولي لمدينة درعا وبالقرب من جسر صحنايا ومنعت الناس من الدخول أو الخروج من المدينة.
بدأت قوات النظام بالتقدم لاجتياح مدينة داريا من جهة طريق الكورنيش الجديد وحاولت قوات من الجيش السوري الحر التصدي لهم ودارت بينهم اشتباكات واسعة سقط فيها عدد من القتلى والجرحى من الطرفين.
في الساعة السابعة صباحا من يوم الأربعاء والذي كان اليوم الأفظع والأشد قصفاً، كثفت قوات النظام قصفها المدفعي بكل أنواع الأسلحة وخلف هذا القصف دماراً واسعاً، وقتل عشرات المدنيين داخل منازلهم، وأصيب عشرات آخرون.
لم ينم أهالي داريا ليلة الأربعاء – الخميس نتيجة القصف والذعر، وفي الصباح عثر الأهالي على مزيد من جثث القتلى المدنيين في المنازل والشوارع.
الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة اقتحمت قوات من المخابرات الجوية معززة بقوات النظام ومدعومة بعدد كبير من الدبابات وتحت غطاء جوي من المروحيات من جهة مطار المزة العسكري وبدأ قصف عنيف على الجهة الغربية للمدينة وعلى وسط المدينة، وشنت حملة مداهمات واسعة لمنازل المدنيين واعتقلت العشرات منهم.
ومع استمرار تقدم قوات النظام واستمرارها في عمليات خطف الأهالي، حاولت مجموعات الجيش السوري الحر صد الاقتحام، ودارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين سقط خلالها قتلى وجرحى من الجانبين.
ودفعت هذه المواجهة قوات النظام لاتباع سياسة الأرض المحروقة، وشملت القصف المدفعي المكثف كامل أحياء المدينة، ما تسبب بمقتل وجرح أعداد هائلة بين صفوف المدنيين.
وانسحب عند هذا المشهد الجيش السوري الحر بشكل كامل من المدينة الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الجمعة، لكن وبعد انسحابهم اجتاحت أعداد هائلة من قوات الجيش والمخابرات المدينة، وبدأت بعمليات حرق للمنازل والمحال التجارية ولعدد من السيارات وحرق مستودعات أدوية في المدينة ونشر القناصين على أسطح الأبنية العالية.
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان علميات إعدام جماعي بحق عائلات بكاملها كعائلة السقا والون وقفاعة، ولم تكتف ميليشيات النظام بالإعدام فأحرقت الجثث كي لا يتمكن الأهالي من التعرف على ذويهم القتلى.
ومن المجازر الكبيرة في ذلك اليوم ما حصل في داخل ومحيط جامع أبو سليمان الداراني حيث كان بالقرب منه منزل بداخله ملجأ هرب إليه 156 مدنيا، وجدوا جميعهم مقتولين وجثثهم متراكمة فوق بعضها البعض، بينهم 19 امرأة و3 أطفال موثقين بالاسم.
ملاحظة: في التغريدة مجموعة من الفيديوهات المروعة والتي لا تناسب جميع الأعمار
مقطع مؤلم جدًا من #مجزرة_داريا، صورته في المشفى الميداني، تخيلو حجم العجز والقهر الذي كنا فيه.
— تمام أبو الخير (@RevTamam) August 25, 2021
في المقطع صوت لأم مكلومة تصرخ وتقول "بدو حط عالمنفسة لك بيعيش"، ونحن لاحول لنا ولاقوة! pic.twitter.com/6ebmp2tGSv
في يوم الإثنين بدأت قوات النظام بالتراجع والتمركز على أطرف مدينة داريا، وعثر الأهالي بعد خروج قوات الجيش والمدرعات من المدينة على 35 جثة لأهالي المدينة كانت قوات المخابرات قد اعتقلتهم ثم أعدمتهم ميدانياً بينهم 4 نساء و3 أطفال.
لكل ضحية من ضحايا المجزرة قصة ولكل شخص كان في المدينة بتلك اللحظات حكاية، ولكل عائلة لحظات مريرة تأبى الذاكرة نسيانها، وبعد مرور 9 سنوات على المجزرة الكبرى ما زالت الشهادات المروعة لمن عاشها تُظهر حجم الجريمة والحقد لدى النظام، وهنا سنعرض بعض.
نحن نقتل وأنتم تحضّرون الكفن
دخلت قوات النظام يوم الـ 25 من آب/أغسطس عام 2012 إلى بيت الحاجة أم أسعد، حيث كانت في المنزل مع زوجها وثلاثة من أولادها الشباب وطفلها البالغ من العمر أحد عشر ربيعاً، وبالطبع كان دخول ميليشيات النظام إلى المنزل بكل همجية وعنجهية وبدؤوا بتفتيش البيت، عند ذلك رأت أم أسعد بأن من دخلوا إلى بيتها كانوا يقصدون قتل من في المنزل، وتقول الحاجة "رأيت النار عم تطلع من عيون الشبيحة والشخص المسؤول عنهم".
ومن شدة خوفها على زوجها وأولادها قامت بالتوسل إلى عناصر الشبيحة بأن لا يقتلوا أولادها وهنا قال الضابط لها "نحنا أوادم.. من قال لك أننا نقتل أحد"، وطلب منها أن تقوم بإعداد القهوة لهم، حينذاك أدخل الشبيحة زوجها وأولادها الثلاث إلى صالون المنزل وهي ذهبت برفقة طفلها إلى المطبخ لإعداد القهوة، وبعد تقديم القهوة لهم لم يسمح لها العناصر بالجلوس معهم فذهبت برفقة طفلها إلى الغرفة الثانية.
وبعد بضع دقائق سمعت أم أسعد صوت رصاص فهرعت إلى الصالون لترى أحد العناصر يطلب منها أن تحضر شرشفاً واشترط عليها أن يكون أبيض اللون. هنا أدركت أم أسعد أنهم قاموا بقتل زوجها وفلذة أكبادها وعندما أحضرت الشرشف قالت للعسكري بصوت منكسر والدموع تملأ عينيها أتوسل إليك إن قتلتهم فاترك لي هذا الطفل فهو صغير ولم يبق لدي غيره، ليقول العنصر "لا لا عم قلك ما ما نقتل حدا نحنا".
طلب الشبيح منها الانصراف، وغادرت قوات النظام المنزل لتدخل أم أسعد الصالون وترى جثامين زوجها وأولادها الثلاث على الأرض والشرشف الأبيض الذي أحضرته موضوعاً فوقهم.
انهارت أم أسعد من هول ما رأته فهي لم تكن تدرك أن يصل إجرام هذه العناصر إلى أن يطلبوا منها أن تحضر كفن أولادها وزوجها بيدها إليهم، وظل الطفل الصغير يعاني من حالة نفسية سيئة منذ ذلك الوقت، بعد الذي رآه ذلك اليوم.
دفنت أولادها خوفاً من خطف جثامينهم
دخلت قوات النظام منزل أم أحمد في الجزء الشرقي من مدينة داريا وكانت في المنزل برفقة أولادها الثلاث وبدأ العناصر تفتيش المنزل، بعد ذلك بدؤوا بتعذيب أولادها أمام عينيها وقتلوهم بكل دم بارد أمام أمهم التي لم تستوعب ما الذي يحصل، وبعد ما خرج عناصر النظام من المنزل وبسبب الحصار المفروض على المدينة وصعوبة الحركة في ذلك الوقت قامت أم أحمد بسرعة كبيرة بحفر قبر في حديقة منزلها.
سارعت أم احمد لدفن أبنائها الثلاثة خوفاً من عودة قوات النظام وخطف جثامينهم، فهي تدرك تماماً كمية الحقد والإجرام عند قوات النظام.
بعد عدة أيام وبعد انسحاب قوات النظام دخل الجيران على أم أحمد وبدؤوا يسألونها عن أولادها بعد سماعهم أصوات التعذيب والرصاص الصادر من منزلها، لكن أم أحمد تجيبهم في كل مرة أن أولادها غادروا المدينة منذ مدة وذلك بسبب الحالة النفسية التي أصابت أم أحمد وخوفها أن يعلم أحد أنها دفنتهم في حديقة المنزل ويعود عناصر النظام ويسلبوا الجثامين منها ويكسروا قلبها مرة أخرى.
بقيت أم أحمد على حالة الإنكار هذه حتى جاء العم أبو صياح وهو مسؤول الدفن في المدينة برفقة بعض من جيرانها وتكلموا معها كثيراً وسألوها إن كانت تعلم عن أولادها شيئاً، حينذاك انهارت أم أحمد بالبكاء وأخبرتهم بمكان جثامين أولادها الـ 3 ليتم نقلهم إلى مقبرة الشهداء.
الإعدام بالبلطة
كان يقطن عبد الله وزوجته في إحدى مزارع داريا، وعندما دهمتهم قوات النظام قامت الزوجة بتقديم الفواكه والعنب لعناصر النظام لكسب ودهم، لكن عبد الله كان يدرك خطورة الموقف، وخوفاً منه على زوجته طلب منها أن تغادر المنزل إلى بيت أهلها.
وبالفعل غادرت الزوجة المنزل وبعد وصولها إلى بيت أهلها بدأت بالاتصال إلى البيت ليرفع السماعة شخص مجهول دون أن يجيب، ظلت تحاول عدة مرات دون أن تتمكن من سماع صوت زوجها.
عادت الزوجة في المساء بعد خروج قوات النظام من الحي إلى منزلها لتجده فارغاً دون أي أثر عن زوجها فظنت أنهم قاموا باعتقاله، وبعد عدة أيام قامت الزوجة وبمساعدة إخوة زوجها بفتح كاميرات المراقبة في المنزل لترى هذا المنظر الشنيع، رأت أن قوات النظام طلبوا من زوجها أن يذهب باتجاه باب المزرعة وعند وصوله للخارج قام أحد العناصر بضربه "ببلطة تكسير الخشب" من الخلف ثم قام العناصر الآخرون بإطلاق الرصاص على رأسه.
بدأت عملية البحث عن الجثمان حتى وجدوه في أحد أماكن رمي القمامة خلف منزلهم.
ما زالت الزوجة بحالة نفسية سيئة ولا تستطيع رواية القصة وحتى إن قامت بروايتها لأحد ما فهي تقوم بالهمس في إذنه خوفاً وذعراً من شدة ما حصل.
الأهالي غطوا على الشبان المصابين بالذهب واللباس والهويات
في مشهد آخر يروي ناشط من المدينة قصته أيام مجزرة داريا، فهو كان مصاباً قبل المجزرة بأيام وذلك خلال اشتباكات على أطراف المدينة، وكان وضعه الصحي سيئاً، وفي أيام الاقتحامات كان موجوداً في منزل لرعاية الجرحى.
يقول: "طُرق باب البيت علينا بقوة.. كان فتى صغيراً أخبرنا أن الشبيحة اقتربوا من المكان الذي نوجد به.. كنا أربعة جرحى، شاب من حمص فقد عينيه، وشاب آخر من بلدة جديدة عرطوز يده مصابة ومعرضة للبتر، وآخر فلسطيني تنتشر في جسده شظايا الإجرام ولا يستطيع الحركة، وبرفقتنا شابان من الكادر الطبي".
وتابع: "لم نستطع اتخاذ أي قرار بالبقاء في دار الرعاية أو الخروج، وقد وصلتنا الأخبار أن الشبيحة يدخلون جميع البيوت ويفتشون جميع الأزقة من أجل القتل والاعتقال.. كابرنا على جراحنا وخرجنا إلى الشارع، وحينذاك رأينا الناس وهي هلعة وتملكها الخوف والرعب".
يكمل: "في مقابل الدار توجد المدرسة الشرعية ذات المساحة الواسعة والبناء الضخم.. الأبواب مفتوحة والأهالي بانتظار الموت.. صراخ الأطفال يختلط بأصوات الرصاص الكثيف في أنحاء المدينة.. نظرات الرجال والنساء لنا بحزن وخوف ماذا سوف يحدث بنا إن أمسكنا عناصر النظام.. وأسئلة مريبة من الناس بين بعضهم، إن دخل الجنود ونحن أمام المدرسة سوف يقتلوننا جميعا مع المدنيين".
يروي كمال كيف كان الناس المدنيون يحاولون تهريب الشباب كي لا يصل إليهم الشبيحة وكيف تضامنوا معهم، وكيف قالوا لهم "أنتم أولادنا وأرواحكم ليست أغلى من أرواحنا"، وقال: "كنا نحن الجرحى لا نعرف من أين جاءت هذه القوة لقوام أجسادنا، كيف هدأت الآلام دون سابق إنذار أو تداخل المسكنات في الجسم، لقد سكّنت الطمأنينة الجروح".
ويكمل: "تعاون الجميع من النساء والرجال على إخفاء ملامحنا وجراحنا المثخنة والثياب الملطخة بالدماء، حيث قاموا بتأمين وجمع الملابس النسائية لنا من نقاب ومانطو وقفازات للأيدي، وقاموا أيضاً بإعطائنا المصوغات الذهبية من أساور وخواتم، وهنا لن أنسى تلك المرأة التي قدمت ابنها الصغير الرضيع لكي أحمله وأضعه في حضني لكي أظهر حقاً بمظهر الأم، وقام الأهالي بتوزيعنا على الجدران الأربعة، ولن أنسى أيضاً تلك الامرأة الستينية من داريا حين قالت لي "امسك هويتي يا أمي، خليها معك إن طلب الشبيحة هوية منك، دبر حالك فيها، أنا بدبر حالي بخبرهم أنه نسيت هويتي في البيت أما أنت يا إمي خطي والله خايفة عليك".
كانت أصوات إطلاق النار الكثيف والسباب من جنود النظام في الحي مسموعاً ويغطي على أصوات بكاء الأطفال بازدياد، وما إن دخل عناصر النظام باب المدرسة بعد أن أعدموا شخصين طاعنين في العمر، وقفت بوجههم تلك الحاجة التي أعطت هويتها له، وبدأت تقبل الضابط وتقول له: "أنتم حماة الوطن وأنتم أمل البلد.. الأولاد كانوا خائفين جداً من الإرهابيين.. أرجوكم الأولاد يبكون ويوجد بين النساء امرأة حامل وغالباً أجهضت نتيجة الخوف".
وبهذه الحيلة الذكية من النساء لاستعطاف جنود النظام، قال الضابط إنهم لن يدخلوا بين النساء والأولاد، لكن طلب جمع هويات الشبان والرجال الموجودين.
هنا خرج جميع الشباب والرجال برفقة الضابط والشبيحة وأمامهم النساء الستينيات اللواتي أصررن على الضابط ألا يعتقل أحداً.
يتابع الناشط رواية ما حدث: "مضى أكثر من ساعة ونحن داخل الملجأ ندعو الله ألا يدخلوا بيننا ويكتشفوا أمرنا، وفعلاً خرجوا من المدرسة، وهدأت النفوس وتنفسنا الصعداء، وجثت المرأة الستينية على ركبتيها لتنهمر دموعها على خديها، وتقول لنا (يا إمي أنتو أغلى من عيونا.. يا إمي هنن شبيحة كلاب ما بيخافوا الله، والله هالشي يلي عملتوا كرمال عيونك فشروا إني بوس خنزير.. بس إنتو لا سمح الله إن عرفوا فيكن وأخدوكن ورحتو والله أمهاتكم رح يموتوا من البكا عليكن.. يا إمي الظالم إلو الله وشكيناهم لله).
وبعد خروج قوات النظام من الحي، قامت امرأة وابنتها الصغيرة يمتلكون حقيبة طبية صغيرة بالكشف على جراح الشبان المصابين وتضميدها.
لا تنقضي حكايات المجزرة عند دفن الضحايا وتهجير أهل المدينة، فمع كل ذكرى سنوية تظهر مزيد من القصص والشهادات الجديدة كيف استباحت قوات النظام داريا وأعدمت واعتقلت وأحرقت.