تعددت التقارير الأممية والدولية التي تؤكد استخدام نظام الأسد أسلحة كيمياوية ضد مناطق مدنية خارجة عن سيطرته، إذ للمرة الثانية أكد تقرير جديد، أصدرته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في 12 من شهر نيسان/ أبريل الجاري، استخدام النظام السوري أسلحة كيمياوية محرمة دولياً، وذلك في الهجوم بغاز الكلور على مدينة سراقب في 4 شباط/ فبراير 2018. وسبق للمنظمة وأن حمّل تقريرها الماضي، قبل نحو عام، قوات النظام المسؤولية عن ثلاث هجمات بالسلاح الكيمياوي باستخدام غاز السارين في بلدة اللطامنة في 24 و30 مارس/ آذار 2017 وغاز الكلور في 25 مارس 2017.
لم يُسائل أحد في المجتمع الدولي نظام الأسد عن استمرارية امتلاكه أسلحة كيمياوية
ولعل السؤال الذي لا يتعب سوريون كثر من طرحه، كلما صدر تقرير دولي يدين النظام، هو: هل يدعم هذا التقرير الآمال باقتراب أوان محاسبة المسؤولين في نظام الأسد على جرائمهم باستخدامهم الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً، تحقيقاً للعدالة وإنصافاً للضحايا وذويهم؟
الإحباط هو سيف الموقف، لأن التقارير الماضية التي أكدت مسؤولية النظام عن هجمات كيمياوية عديدة لم يُبنَ عليها الكثير، ولم يُسائل أحد في المجتمع الدولي نظام الأسد عن استمرارية امتلاكه أسلحة كيمياوية، إذ من المفترض أن يكون قد سلّمها وفق مقتضيات صفقة الكيمياوي الرخيصة، التي عقدها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما والرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، بعد هجمات النظام الكيمياوية على غوطتي دمشق في 21 آب/ أغسطس 2013، ودشنت سابقة في إفلات المجرم من العقاب مقابل تسليمه سلاح الجريمة، حيث ابتلع فيها أوباما خطه الأحمر بتخليه عن توجيه ضربة عسكرية للنظام، مقابل تسليم ترسانته من المواد الكيمياوية، وضمه إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، دون أن يطول أحداً في نظام الأسد أي عقاب، الأمر الذي شجع النظام على المضي في استخدام الأسلحة الكيمياوية وغيرها ضد السوريين.
وتبيّن خلال السنوات التي تلت مجزرة غوطتي دمشق، وبشكل لا لبس فيه، أن نظام الأسد لم يسلّم كامل ترسانته من المواد الكيمياوية بعد صفقة الكيمياوي، بل اعتبر الصفقة بمثابة الضوء الأخضر له، كي يتمادى في هجماته الكيمياوية على المناطق المدنية الخارجة عن سيطرته، وذلك باستخدام غاز الكلور في معظمها بدلاً من غاز السارين، بالرغم من أن الصفقة ما بين أوباما وبوتين توجّت بإصدار مجلس الأمن الدولي القرار 2118 في 27 أيلول/ سبتمبر 2013، الذي نص على "ألا تقوم سوريا باستخدام أسلحة كيميائية أو استحداثها أو إنتاجها أو حيازتها بأي طريقة أخرى أو تخزينها أو الاحتفاظ بها"، إلى جانب تدمير مخزونها الكيمياوي تحت إشراف الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
ومع تمادي النظام في هجماته الكيمياوية بغطاء روسي بعد مجزرة غوطتي دمشق، اضطر مجلس الأمن إلى إصدار القرار 2235 في 7 آب/ أغسطس 2015، والذي تقرَّر بموجبه إنشاء آلية تحقيق مشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، لتحديد الجهات المسؤولة عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا. وقامت اللجنة خلال سنتين مع عمرها بإصدار سبعة تقارير حول هجمات بالأسلحة الكيمياوية، حمّلت فيها النظام مسؤولية العديد من الهجمات، وخاصة المجزرة التي ارتكبها في خان شيخون في 4 نيسان/ إبريل 2017، لذلك أنهت روسيا عمل اللجنة في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، باستخدامها حق النقض (الفيتو) ضد مشروع التمديد لها.
المساعي الأوروبية والأميركية لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه ما تزال محصورة في نطاق الدعوات والتصريحات والبيانات
ولا شك في أن روسيا لعبت الدور الأساس في تشجيع نظام الأسد للقيام بهجماته الكيمياوية وفي إفلاته من العقاب والمساءلة، لكن تخاذل المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من الدول الأوروبية، شجعه على ارتكاب المزيد من الجرائم أيضاً، كما شجع روسيا على مساعدته للقيام بالهجمات، وعلى التمادي في محاولاتها التستر على كل جرائمه، وإطلاق العنان لآلتها الدعائية والدبلوماسية من أجل نفي وتكذيب قيامه بتلك الجرائم. ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقط، بل عمد الساسة الروس إلى ضرب مصداقية لجان التحقيق ولجان تقصي الحقائق، والتشكيك بجميع التقارير الدولية والأممية، التي تشير إلى مسؤولية النظام عن الهجمات، إضافة إلى محاولاتهم خلق روايات كاذبة حمّلوا فيها فصائل المعارضة والفصائل المتشددة مسؤولية القيام بهجمات كيمياوية، وتلفيق افتراءات كثيرة لإخفاء الجرائم والتستر على مجازر النظام.
بالمقابل، تبذل مؤخراً جهود أوروبية وأميركية من أجل محاسبة النظام على جرائمه، لكنها لم ليست بالمستوى المطلوب، إذ لم تثمر إلى يومنا هذا عن اجتراح آلية محددة لمعاقبته، وأقصى ما يمكن أن يواجهه النظام، في المرحلة الراهنة، هو تجميد عضويته في منظمة الأسلحة الكيمياوية، أو تعليق حقوقه وامتيازاته فيها. إضافة إلى أن المبادرة الفرنسية لعقد شراكة دولية ضد الإفلات من العقاب في استخدام الأسلحة الكيمياوية لم تتقدم كثيراً باتجاه مساءلة النظام، كما أن المساعي الأوروبية والأميركية لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه ما تزال محصورة في نطاق الدعوات والتصريحات والبيانات، ولم تنتقل إلى مرحلة الفعل والتنفيذ عبر إنشاء محاكم خاصة بجرائم الحرب في سوريا، لذلك يشعر سوريون كثر بالإحباط والخذلان من تعامل الساسة الغربيين مع الكارثة السورية، لأنهم لم يفعلوا المطلوب إنسانياً حيال ايقافها، ولم يبذلوا جهوداً كافية من أجل تشكيل محكمة دولية خاصة بسوريا للنظر في جرائم النظام، حيث لا تنحصر جرائم نظام الأسد بحق السوريين في استخدامه الأسلحة الكيمياوية، كونه ارتكب بحقهم كل أنواع جرائم القتل بمختلف أنواع الأسلحة، فضلاً عن التعذيب والتجويع حتى الموت والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني والتهجير القسري، وكلها جرائم موثقة ومدعومة بالصور إلى درجة أن رئيس "اللجنة المستقلة من أجل العدالة الدولية والمحاسبة"، ستيفن راب، أكد أن الأدلة التي جمعتها اللجنة عن مسؤولية نظام الأسد عن جرائم الحرب، تفوق تلك التي توفرت للمدّعين في محاكمات قادة النازية أو محاكمة الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، ومع ذلك كله لم يحاسب أحد نظام الأسد على جرائمه؟