icon
التغطية الحية

ما هو الشيء الذي لم يفهمه فلاديمير بوتين عن الشعب الأوكراني؟

2022.04.14 | 19:04 دمشق

20220315-ukraine.jpg
إيكونوميست - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قبل الغزو من منا حاول أن يفهم طبيعة أوكرانيا أو يعرف مكانها على الخريطة أو يبحث عما يميز شعبها؟ لعلك تتصورها على أنها ضاحية جرداء من ضواحي روسيا الكبرى، بالرغم من أن فلاديمير بوتين يزعم أنها غير موجودة على الإطلاق. لكنك لست وحدك في هذا، إذ حتى فترة قريبة بقي فهمي لتلك الدولة محدوداً، على الرغم من أنني ولدت هناك. 

من السهل اكتشاف السبب الذي يجعل من أوكرانيا أمراً محيراً في نظر الناس، إذ بالنسبة للأجنبي غير المطلع، فإن أوكرانيا تدحض كل الأفكار التي تجعل منها بلداً، وذلك لأن معظم أبناء شعبها يتحدثون لغتين بشكل عادي، كما تشتمل تلك الدولة على مآثر وقصص تاريخية متوازية لكل من الإمبراطورية الروسية والسوفييتية والنمساوية-الهنغارية، إلى جانب التاريخ البولندي والروماني وبالطبع الأوكراني نفسه، وهذه الشبكة المعقدة من الروايات والأحداث التاريخية جعلت كثيرين في الغرب يعتقدون بأن هذه الدولة غير موجودة.

ومع تفتح مدارك الناس ووعيهم، اكتشف العالم ذلك البلد البطل، من خلال رئيسه اليهودي الذي كان ممثلاً كوميدياً في وقت من الأوقات، لكنه كبر ونضج ليصبح نسخة أصغر وأشد تعاطفاً عن تشرتشل، ومن خلال تلك العجوز التي أخذت تسخر من الجنود الروس، ومن خلال عشاق موسيقا الجاز الذين حملوا البنادق الآلية، ومن خلال الأمهات المتعبات اللواتي بقين على موقفهن الواضح برفقة أولادهن الرائعين وهم يهربون إلى الملاجئ التي أقيمت تحت الأرض، ومن خلال المدونة الحسناء على تطبيق إنستغرام التي ماتت بسبب القصف الذي استهدف عنبر الولادة في مشفى النساء.

لقد أحيا الشعب الأوكراني في ذاكرتنا معنى الحرية، تلك الكلمة التي تحولت منذ زمن بعيد بالنسبة لكثيرين في الدول الديمقراطية الغنية إلى مصطلح يشوبه كثير من الابتذال. إن مقاومة الشعب الأوكراني جعلت الغرب يتأثر والكرملين يندهش، ولكن لا يحق لكل منهما أن تنتابه تلك المشاعر. إذ خلال السنوات القليلة الماضية حاولت أن أكتشف سر الهوية الأوكرانية عبر الحديث إلى أوكرانيين، ومن خلال مشروعي البحثي الذي عنونته بساحة، والذي انطلق بالأساس من LSE وانتقل اليوم إلى جامعة جونز هوبكنز، تعاملت مع صحفيين وعلماء اجتماع أوكرانيين لأبحث عن سبل لدعم الديمقراطية وتمتينها، حيث عمل فريقي على إجراء مقابلات مع الآلاف من البالغين في مختلف أنحاء أوكرانيا، ليكشف عملنا الميداني بأن للرد الحالي على الغزو الروسي جذور عميقة في التاريخ الأوكراني.

ولدت في كييف عام 1977 لأبوين أوكرانيين، ثم نفيت عائلتي من الاتحاد السوفييتي عندما كان عمري تسعة أشهر، وذلك بعد اعتقال والدي، الشاعر، على يد لجنة أمن الدولة لارتكابه جريمة مشينة وهي توزيع نسخ من كتب سولجنيتسين ونابوكوف على الأصدقاء.

ومع ذلك لم أشعر بنفسي أوكرانياً بحق، فقد ترعرعت في لندن وأنا أتحدث الروسية، ولهذا كنت اعتبر روسياً بنظر زملائي في المدرسة. زرت أوكرانيا للمرة الأولى عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، أدهشني يومها كيف تراجعت الطرقات السوفييتية لتظهر التلال والغابات مكانها، كما أعجبتني روائح البيرة والكعك المحشو الذي يعرف باسم بيروجكي وهي تعبق بين الأبنية السكنية ذات الألوان الفاتحة التي تنتهج بطرازها المعماري أسلوب الفن الحديث، أما النهر فقد كان واسعاً كالبحر، فكييف مدينة اللامبالاة، إذ بحياتها لم تأخذ نفسها على محمل الجد كثيراً، وذلك لأنها خلقت من أجل التجول سيراً على الأقدام مع تبادل القبلات. أما الشعب فيبدل بين اللغتين بأسلوب إيقاعي لدرجة أن أذنيك تطربان وأنت تصغي لموجات تشبه الغناء من الحديث باللغتين الروسية والأوكرانية. لكني عندما زرت المدينة في الأسبوع الرابع من الحرب، وجدتها خالية، بيد أن زعيق صفارات الإنذار كان يقطع حالة التوتر ويبددها، ولهذا بدت المدينة أجمل من ذي قبل، إذ بات من السهل رؤية المباني الأنيقة بغياب الناس والسيارات، كما أن خطر تعرضها لتدمير وشيك جعل من شوارعها شيئاً نفيساً للغاية أكثر مما كانت عليه سابقاً.

في عام 2014 غزت قوات بوتين أوكرانيا واحتلت الأطراف الواقعة أقصى الشرق، بعد عزل مايدان من منصب الرئاسة على يد حليفه في حكم اللصوص فيكتور يانوكوفيتش. يومها زعم بوتين أنه يدافع عن العرق الروسي، إلا أن الغزو بدا كهجوم ليس فقط على أصدقائي وعائلتي وبلد أحاول أن أعرفه، بل أيضاً على طريقة متحضرة في العيش والتفكير.

وجهت عملي باتجاه أوكرانيا والحرب الإعلامية التي يقودها الكرملين، إذ كان هدف الحكومة الروسية تقسيم البلاد وإضعافها وإعداد العدة فيها من أجل الغزو، وهذا ما اتضح اليوم. فلقد اجتمع كل من الإعلام الرسمي الروسي وشركات المتصيدين التي تسعى للسيطرة على الرأي العام عبر الشابكة وتضليله، والأخطر منها جميعاً قطيع الطبقة الأوليغارشية صاحبة النفوذ والثروة والموالية للنظام الروسي، لتقويض الإصلاحات الديمقراطية، ولتشويه سمعة الدول الغربية، ولتحطيم إحساس أوكرانيا بوحدتها وتآلفها.

مزاعم بوتين وأساسها في التاريخ الأوكراني

عندما كنا نتابع مسيرة بحثنا عبر التصويت والمجموعات المستهدفة والمقابلات المعمقة، كانت مخابرات الكرملين تجري أبحاثها هي أيضاً، وتبحث عن مواطن الضعف في أوكرانيا. ولهذا كنا نحس دوماً وكأننا في سباق لفهم الشعب الأوكراني بصورة أفضل. ومن هنا بدأ فريقنا بمحاولة فهم مواقف الشعب الأوكراني من التاريخ. وذلك لأن بوتين وصف الحكومة الأوكرانية بالنازية حتى يشرعن غزوه لها، ثم وصف هذا الغزو بأنه عملية تهدف إلى دحر النازية وتخليص البلاد منها. وهذا الافتراء عبثي لكنه استراتيجي في الوقت ذاته، وذلك لأن بعض الشخصيات القومية الأوكرانية البارزة انحازت للنازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك لأنهم اعتقدوا بأن هتلر يمكن أن يمنح أوكرانيا استقلالها، كما أن عدداً منهم ارتاح لفكرة معاداة السامية التي تبناها النازيون. ولكن بعد خيانة هتلر لهم، انقلب معظم هؤلاء على الألمان وحاربوهم كما حاربوا الاتحاد السوفييتي. ولهذا تصور الدعاية السوفييتية التي ظهرت بعد الحرب القوميين الأوكرانيين بصورة هزلية على أنهم العدو الفاشي للمواطن السوفييتي الصالح. وعليه، أصبح كل من نشأ في تلك البيئة يتقبل ذلك التأطير.

حاول بوتين ومؤيدوه تقسيم البلاد بين شرق موال للسوفييت وغرب يتبنى النزعة القومية، إلا أن التصويت الذي أجريناه كشف بأن هذا التقسيم سراب ليس إلا، إذ هنالك أربعة جماعات مميزة على الأقل، فالأوكرانيون الأشد ميلاً للسوفييت كانوا من الفئة الأكبر سناً، ومعظمهم متقاعدون وأقل تعليماً من غيرهم، ويعيش معظمهم في المناطق الريفية الواقعة جنوبي البلاد وشرقيها. وثمة نسبة ضئيلة من السكان تقل عن 5% صفقت لستالين (فيما تعادل تلك النسبة في روسيا 70% من السكان)، بيد أن ذكريات الهولودومور، تلك المجاعة التي صنعها ستالين بيده وقتل فيها ما يقارب من أربعة ملايين أوكراني بين عامي 1932-1933 ماتزال حاضرة في الأذهان.

هنالك فئة أخرى تشمل الأشخاص الأصغر والأفضل تعليماً، وقد عاش هؤلاء في المدن الكبرى الواقعة جنوبي البلاد وشرقيها مثل أوديسا وخاركيف، وكان موقف تلك الفئة من الاتحاد السوفييتي أكثر دقة ووضوحاً، إذ على الرغم من انتقاداتهم لقمعه، إلا أن الحنين كان ينتابهم تجاه "القيم" الاجتماعية التي كانت سائدة أيام الشيوعية، ويضمر هؤلاء مشاعر سلبية تجاه القوميين الأوكرانيين الذين حاربوا الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية.

أما أشد فئة كرهاً للاتحاد السوفييتي فتشمل الطبقة المتوسطة المتعلمة التي تعيش في المدن الموجودة وسط أوكرانيا وغربيها، وتمثل هذه الفئة ثلث السكان، ولعل معظمهم كانوا معجبين بستيبان بانديرا زعيم الحركة القومية الأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية الذي كان أول من وقف مع النازيين ثم اختلف معهم.

يمكن أن نصف بانديرا هذا بأنه شخصية معقدة، إذا حاولنا تلطيف مفرداتنا قدر الإمكان، فقد كانت الفاشية الإيطالية مصدر إلهامه، لكن النازيين حبسوه معظم فترة الحرب، كما أن غالبية مؤيديه كانوا متحمسين لمعاداة السامية خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن المفارقة التي اكتشفناها اليوم هي أن الليبراليين الذين اعتقدوا أنه بوسع أي شخص أن يكون أوكرانياً بصرف النظر عن أصله وبيئته، كانت نظرتهم له هي الأكثر إيجابية، فقد أعجبوا به عندما وقف في وجه الطغاة في موسكو، بدلاً من تمسكه بمعتقداته الإثنية-القومية.

"عش ودع غيرك يعيش"

 كانت تلك الانقسامات تعبر عن الانقسام بين المدن الليبرالية والريف المحافظ من الناحية الاجتماعية والذي كنا نشهده في معظم الدول الأوروبية، إلا أن ذلك لم يرق إلى الخيارات السياسية، وذلك لأن الغالبية الساحقة من سكان أوكرانيا كانت تنظر إلى المستقبل بالطريقة ذاتها، إذ كانوا يريدون ثقافة قائمة على القومية التي تعتمد مبدأ المشاركة واستعياب جميع المكونات داخل الاتحاد الأوروبي.

عندما جمعنا من لديهم حنين لأيام الاتحاد السوفييتي في غرفة واحدة مع أصحاب النزعة الوطنية الأوكرانية، ظهرت خلافات كثيرة حول الحق بهدم التماثيل التي تعود للحقبة السوفييتية، وحول الإعجاب بشخصية بانديرا. إلا أننا اكتشفنا أيضاً سرعة تقبل واستعياب هؤلاء الناس لوجهات النظر المختلفة، إذ قالت لنا امرأة من شرقي أوكرانيا: "من يريد تمثالاً بانديرا فأعطوه".

بدت كلتا الفئتين مدركتين بأن السياسيين يحاولون على الدوام تقسيم البلاد، وقد أعرب كل منهم عن قلقه إزاء فكرة تعرضه للتلاعب، إذ قال أحد المشاركين: "لا تقسيم، بل إننا متحدون، وكل ما في الأمر هو أن الحرب الإعلامية هي التي قسمتنا". قمنا بتشكيل تلك المجموعة المستهدفة بعد فترة قصيرة من انتخاب فولوديمير زيلينسكي رئيساً في نيسان 2019، فقد لعب هذا الرجل على حالة الاستياء من سياسة الاستقطاب ليفوز بنسبة مذهلة بلغت 70% من الأصوات. وبالرغم من أن عمله في مجال التلفزيون يعيد إلى الأذهان أساليب التمثيل السائدة في الحقبة السوفييتية والخيارات الكوميدية التي يفضلها الناس، إلا أنه كان يقدر الريادة في مجال الأعمال من وجهة نظر رأسمالية. لذا، وخلال حملته الانتخابية، اتهم زيلينسكي من قبل مناوئيه بأنه صاحب إيديولوجية غامضة وبأنه يرفض الحديث عن التاريخ، ولعل ذلك جزء من جاذبيته، كونه يجسد التقليد الأوكراني العميق المتمثل بمسايرة الناس الذين يسردون قصة تختلف عن القصة التي في جعبتك.

"بلاد الدم"

كشف بحثنا بأن أوكرانيا كانت تتبنى ثقافة: عش ودع غيرك يعيش، إذ تفتخر المدن التي من المفترض أنها موالية لروسيا مثل خاركيف وأوديسا بتحررها من النزعة القومية وتوجهها نحو العالمية. أما في الغرب، فمن الواضح بأن المدن القومية مثل لفيف تحاول تقليد نشاز الألسن والكنائس على الدوام، إذ من عادة الأوكرانيين الخلط بين اللغتين والمناوبة بينهما، لذا فإن ما يوحدهم هو معرفتهم باختلافاتهم.

عندما بدأنا الحديث عن التاريخ الحديث، اختفت الخلافات حول تماثيل لينين ومن حاربوا في الحرب العالمية الثانية على الفور، إذ حاول المشاركون البحث عن كلمات تصف الحياة في أواخر الحقبة السوفييتية، ليتحدثوا عن تجاربهم مع كارثة تشرنوبل النووية، وذكرياتهم عن أقاربهم الذين أرسلوا للحرب في أفغانستان، وعن الحرمان والارتباك الاقتصادي خلال تسعينيات القرن الماضي. كان من الصعب على هؤلاء الأشخاص شرح معنى تلك الأحداث، لأن الشعب يتجنب الحديث عن تلك الأمور في أغلب الأحيان، إذ يعترف أحد المشاركين بذلك عبر قوله: "إن أسرتي لا تناقش الحقبة السوفييتية على الإطلاق"، وفي بعض الأحيان كان البعض يستخدم صيغة المبني للمجهول وهو يتحدث عن تلك الأمور، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضآلة إحساسهم وتفاعلهم مع تاريخ بلدهم الحديث، حيث كانوا يستخدمون عبارات مثل: "عندما حدث الاستقلال لنا"!

تعرض الأوكرانيون للقمع والاضطهاد على يد هابسبيرغ وعلى يد الإمبراطورية الروسية، وعلى يد البولونيين، والنازيين والاتحاد السوفييتي، بل حتى تشيكسلوفاكيا سرقت جزءاً من غربي أوكرانيا ذات مرة. أما الأوليغارشية الأوكرانية فقد تصرفت تماماً مثل مجموعة أخرى من المستعمرين المستغلين منذ استقلال البلاد عام 1991. ويعتقد بأن نحو 14 مليون شخص قد قضوا في أوكرانيا بسبب عمليات التطهير والمجاعة والمحرقة (الهولوكوست) وذلك خلال القرن العشرين لوحده، ولهذا يطلق المؤرخ تيموثي سنيدر على هذه المنطقة اسم "بلاد الدم"، أما مصطلح الإبادة الجماعية فقد ابتدعه محام من لفيف.

كتبت الروائية أوكسانا زابوزكو في روايتها: (عمل ميداني حول الجنس الأوكراني) التي نشرت في عام 1996، وهي رواية تدور حول توارث الأجيال للصدمة كابراً عن كابر: "إن الخيار الأوكراني هو خيار بين اللاوجود والوجود الذي يقتلك"، وبطلة هذه الرواية كاتبة أوكرانية تعيش علاقة حب تكتنفها كثير من الإساءات ولهذا تكتب ما يلي: "ربانا رجال مورس عليهم الجنس في كل مكان وبكل طريقة"، وهذا بدوره يؤدي إلى ظهور نمط من العلاقات المسيئة يقوم من خلالها رجال يشعرون بالقرف من أنفسهم بصب جام غضبهم على النساء، وبالرغم من مجازية هذا العمل إلا أن العلاقة بين الشريكين تمثل بلداً يخترق فيه تاريخ القمع والظلم كل شيء، بدءاً من الفن وحتى العلاقات.

إن هذا التاريخ الذي يشوبه العنف والإذلال دفع الأوكرانيين للتفكير بطريقة المؤامرة. إذ يعتبر ثلثا الأشخاص الذين تحدثنا إليهم من أجل أغراض الدراسة التي أجريناها بأن هنالك "منظمات سرية" تهيمن على القرار السياسي عموماً، وذلك الموقف مفهوم لكنه مدمر، إذ حتى خلال الأيام التي سبقت 24 من شباط، كان كثير من طبقة النخبة الأوكرانية يعتقدون بأن التحذيرات الأميركية حول غزو روسي وشيك لم تكن إلا وسيلة سرية هدفها دفع أوكرانيا لتقديم تنازلات، أي أنهم لم يأخذوا نوايا بوتين على محمل الجد حتى اللحظة الأخيرة.

لا تبجيل للسلطة

بما أن الحكام يمثلون قوى استعمارية على مر التاريخ، لذا فإن ثقة الشعب الأوكراني بالحكومة بقيت ضعيفة، إذ بدأت شعبية زيلينسكي بالتراجع منذ اللحظة التي وصل فيها إلى السلطة (إذ لم تكن نسبة تقبل الشعب له تتجاوز 30% قبل الحرب). ثم إن عدم احترام السلطة يعني أنه بوسع الشعب الأوكراني أن يسقط أي حاكم بقوته، كما سبق وأن فعل في عام 2004 و2014. إلا أن هذا الوضع لا يساعد على تكوين بيروقراطية فعالة، وذلك لأن الشعب يعتبر الدولة شيئاً يجب الهروب منه أو استخدامه لتحقيق منافع شخصية. وقد سهل الفساد نجاح تلك العملية، إذ بوسع أي شخص يدفع أن يهيمن على المحاكم، بيد أن هذا الموقف أثار حفيظة المصلحين والمانحين الغربيين وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي. إذ حتى عندما نجحت الحكومة ببناء بنية تحتية جديدة، تحدث الناس عن تلك الإنجازات وكأنها حدثت بعصا سحرية، وذلك لأن الأوكرانيين لا يستطيعون أن يتخيلوا نجاح الدولة في القيام بعمل ما.

يبدو أن أجهزة الاستخبارات الروسية اكتشفت بأن هذه العقلية تمثل نقطة ضعف قاتلة، إذ بحسب ما أعلنه المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث بريطاني، فإن الكرملين بنى مخططات الغزو على أبحاث ودراسات استقصائية توقعت انهيار دعم الشعب الأوكراني للحكومة عقب الغزو. إلا أن هنالك وجه آخر لحالة انعدام الثقة هذه، وذلك لأن الشعب تعلم أن يعتمد على بعضه البعض، إذ يفتخر الأوكرانيون بصمودهم ومكرهم، وذلك لأنهم لابد وأن يكتشفوا على الدوام أساليب جديدة لينظموا بها أنفسهم. ثم إن الثقة بالمجتمع المدني والكنائس المحلية ومؤسسات المشاريع الصغيرة عالية، وهنالك أيضاً جمعيات ومؤسسات أقل شعبية، تشمل مثيري الشغب خلال مباريات كرة القدم، والعصابات الصغيرة، والميليشيات اليمينية المتطرفة التي شكلت كتائب قتالية أرسلت للقتال في إقليم الدونباس بعد عام 2014. أي أن المصيبة أجبرت الناس على التوحد سوية، وهذا ما كان يقوله لنا البعض عندما كنا نسألهم، حيث ذكروا بأن: "الكارثة والحزن قاما بتوحيد صفنا". ولقد أخبرنا كثيرا من الأشخاص الذين أجرينا مقابلات معهم كيف أخذ الناشطون على عاتقهم مهمة تأمين الطعام واللباس والتنقلات للجيش الأوكراني الذي انهزم في عام 2014.

أوكرانيا... وحيدة في المنزل!

تدور الأساطير الأوكرانية عن الهوية القومية حول فكرة موحدة جامعة ألا وهي القوزاق وهم جماعات من المقاتلين الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم والذين كانوا يجوبون السهوب في تلك المنطقة. وثمة فيلم ناجح ظهر مؤخراً وتدور قصته حول الطريقة التي اعتمدها اليهود الأوكرانيون وتتار القرم لإنشاء شبكات تحت الأرض حتى يساعد كل منهما الآخر في الحرب العالمية الثانية، حيث حارب هؤلاء النازيين أولاً ثم لجنة أمن الدولة. ثم إن من أشهر أفلام عيد الميلاد في أوكرانيا فيلم: "وحيداً في المنزل" لأن قصته تشبه قصة أوكرانيا، بما أنها بلد صغير تركه أهله بمفرده وهو يتعرض لهجمات من قبل قوى أكبر لكنه صار يدافع عن نفسه بأي شيء تصل إليه يده.

"لست بحسنائك"!

خلال هذه الحرب، أبدى الأوكرانيون استعدادهم لمقاومة الكرملين الذي يعتبر أحد أعنف المنتهكين لحدودهم وأكثرهم تكراراً لتلك الانتهاكات، فمن خلال الحديث إلى الأصدقاء شعرت بأنهم لا يقارعون هذا الغزو فحسب، بل يحاربون كل المرات التي انتهكت فيها أوكرانيا، ثم إن بوتين نفسه أشار إلى هذا الغزو على أنه اغتصاب عندما قال أمام كوكبة من الصحفيين المذهولين خلال جلسة عقدها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "أنتم يا من تنامون مع فتاتي الحسناء، عليكم أن تتحملوا هذا على أي حال". ولهذا نجد في لفيف اليوم لوحات إعلانية تظهر امرأة ترتدي زياً شعبياً أوكرانياً وهي تضع مسدساً في فم بوتين وتقول: "لست بحسنائك"!

قدمنا آخر بحث لدينا في كييف يوم الأربعاء الموافق 23 شباط، حيث قمت بالانضمام للمجموعة عبر تطبيق زووم فرأيت الإحساس بالخوف والغضب قد أطبق على الغرفة التي يوجد فيها شبان متألقون. وفي اليوم التالي اجتاحت الدبابات الروسية البلاد، فتشتت الفريق الذي أعمل معه، إذ تحول بعضهم للاجئين، وآخرون إلى صحفيين ينقلون أخبار الجبهات، فيما حمل آخرون السلاح، إذ أرسل لي دينيس كوبزين وهو كبير علماء الاجتماع في فريقنا من خاركيف صورة لنفسه ملتقطة بطريقة السيلفي وهو يحمل بندقية آلية على كتفه.

وهكذا توقف عملنا، وصرنا نخطط لمشروع مخصص للتاريخ الشفوي عبر الاستعانة بوسائط متعددة، وذلك حتى نسجل شهادات الناس حول القصف واغتصاب النساء والتهجم على اللاجئين، وبذلك سنظل نساعد الشعب الأوكراني على سرد قصته في ظل غياب الكاميرات، وذلك أمام محاكم جرائم الحرب، وفي الأفلام والمسرحيات، وفي الكتب والمعارض.

"ما الذي يوحد الشعب الأوكراني؟"

ثمة سؤال أثار فضولنا خرجنا به خلال بحثنا طوال العام الماضي، وهو: "ما الذي يوحد الشعب الأوكراني؟"، إذ عندما سألت الناس متى ينتابهم أشد إحساس بالفخر لكونهم أوكرانيين، كانوا يتذكرون على الدوام لحظة الاعتراف الدولي بدولة أوكرانيا، وهنالك كثير من الأمور الجانبية التي تشعرهم بالفخر مثل فوز طفل أوكراني في مسابقة الرياضيات الدولية، أو عندما ذكر لهم شخص أجنبي التقوه في رحلة ما أنه يعرف أين تقع أوكرانيا.

كنت أعتقد وقتها أن ذلك الشوق هو شوق للهوية بالضرورة، وتعبير عن الرغبة بالشهرة والتوق لها إذ في رواية الكاتبة زابوزكو: (عمل ميداني حول الجنس الأوكراني) تسافر البطلة من منتدى أدبي دولي إلى آخر، يدفعها في ذلك رغبتها لإثبات أن اللغة الأوكرانية حية، بيد أنها تتعب من السؤال الذي يتكرر دوماً وهو: أوكرانيا؟ أين تقع هذه؟ لكني اليوم أدركت بأن هذه الرغبة بالشهرة لا تدور حول الهوية فحسب، بل أيضاً حول الأمان، وذلك لأن فرص موتك لا بد وأن تقل عندما يراك العالم ويعتبرك منظوراً .

 

الكاتب بيتر بوميرانتسيف: يترأس مشروع الساحة لدى جامعة جونز هوبكينز وهو مؤلف كتاب: "هذه ليست دعاية: مغامرات في الحرب ضد الواقع".   

 

المصدر: إيكونوميست