في الوقت الذي تواصل فيه الاستجابة الإنسانية عملها للأسبوع الثالث عقب الزلزالين اللذين هزا تركيا وسوريا، ثمة نوع آخر من جهود الانتشال تتم في المناطق التي تتمتع بأهمية ثقافية وتاريخية تعود لآلاف السنين.
فخلال هذا الأسبوع، قدرت اليونسكو حجم الأضرار التي أصابت مواقع التراث العالمي عن بعد، بيد أن مسؤوليها على استعداد لشق الأرض وفعل ما لم يفعله أحد بحسب ما ذكرته لصحيفة واشنطن بوست، فالقلاع التي تعود لحقبة الحروب الصليبية، والحصن الذي سكنه الرومان والعثمانيون، والقلعة التي أقيمت في واحدة من أقدم المدن المأهولة على وجهة البسيطة، قد تحولت إلى ركام بسبب الكارثة. وعند وصول الفرق إلى تلك المواقع، سيصبح هدفهم إعادة بنائها بشكل يكرم الحاضر والماضي ويجلهما من أجل الأجيال القادمة.
تسهم اليونسكو بالمساعدة في أعمال الترميم وإعادة البناء الضرورية حسبما ذكرته كريستا بيكات مديرة قسم الثقافة والحالات الطارئة لدى يونسكو، بيد أن هذه المنظمة الأممية تحاول أيضاً إعادة بناء ما تطلق عليه: "التراث الثقافي اللامادي"، وعن ذلك تقول بيكات: "ما نحتاجه ليس فقط إعادة بناء المباني، بل أيضاً استعادة المجتمعات، لأن استمرار الحياة الثقافية لا يستقيم بدونها، كونها أصل هويتهم، والموضع الذي تعود إليه جذورهم، ولذا فهي بحاجة للبحث عن تلك العناصر والتعرف عليها ضمن هذا التراث".
تسبب الزلزالان اللذان وقعا يوم 6 شباط بمقتل أكثر من 46 ألف إنسان وتشريد الآلاف في تركيا وسوريا، كما تعرض أكثر من 93 ألف مبنى للدمار بشكل كامل أو لأضرار جزئية.
قلعة غازي عنتاب بعد تضررها بسبب الزلزال
بيد أنه لا يمكن لأحد أن يستوعب حجم الدمار في سوريا وتركيا بشكل كامل، ولهذا تقول بيكات: "إن الأمور ماتزال جديدة ولهذا لا يمكننا أن نحيط بكل معلومة وخبر".
حالياً، تعطى المساعدات الإنسانية الأولوية في تركيا وسوريا، وفي هذه الأثناء، تقوم المنظمة بجمع ما يتسنى لها من معلومات حسبما ذكرته بيكات، بعدها تقوم المنظمة عن بعد بمراقبة الأضرار في مناطق الكارثة وذلك عبر الاستعانة بصور الأقمار الصناعية لتقييم وضع مواقع التراث، وإذا أعطتها السلطات المحلية الضوء الأخضر، عندها يصبح بوسع هذه الوكالة الأممية أن تبدأ العمل على الأرض خلال أيام.
الآثار التركية المدمرة
تظهر التقارير الأولية انهيار المباني في تركيا في عموم مدينة ديار بكر التي أقيمت فيها قلعة ديار بكر وحدائق هوسال، إحدى مواقع التراث العالمي التي تعاقبت عليها الحضارات الرومانية والساسانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية.
كما طال الضرر مواقع أثرية مهمة غير مدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
فقد انهار جزء كبير من قلعة غازي عنتاب التي بنيت قبل ألفي عام، إلا أن هيكلها مايزال يقبع فوق تلة مطلة على المدينة، وهو يحمل آثاراً تدل على التاريخ الروماني والبيزنطي. كما أظهرت تقارير إعلامية محلية بأن العديد من المساجد والكنائس التي تتمتع بأهمية تاريخية وثقافية قد تأثرت وتضررت في كل من أنطاكيا وغازي عنتاب وملاطيا وأديامان بحسب ما ذكرته أويا بانجار أوغلو أستاذة تاريخ الفن والعمارة الإسلامية بجامعة بوغازيجي التركية.
مسجد حبيب النجار في أنطاكيا بعد تعرضه للدمار بسبب الزلزال– تاريخ الصورة: 11 شباط 2023
تتمتع غالبية المواقع التاريخية بأهمية لدى مختلف الأديان، وتعكس تاريخ البلد ذي الأديان المتعددة، حسبما ذكرته بانجار أوغلو، في إشارة إلى مسجد حبيب النجار بأنطاكيا والذي استحال إلى ركام بسبب الزلزالين.
وعن ذلك تقول: "يرتبط موقع المسجد بشخصية محلية أسطورية يعتقد أنها عاشت في زمن المسيح عيسى وتعرضت للاضطهاد بسبب اعتناقها للديانة المسيحية، إذ يقال بأن مسجداً قد بني في هذا الموقع في أوائل حقبة الفتوحات الإسلامية اعترافاً بالأهمية التوحيدية لهذا المكان".
الآثار السورية المدمرة
يزداد القلق ويبلغ ذروته بالنسبة للمواقع التاريخية الثقافية في سوريا، نظراً للدمار الذي خلفته الحرب التي امتدت سنوات طويلة، بالإضافة إلى الخراب الذي لحق بها بسبب الزلزالين، ولهذا ستتحول عملية صيانة حلب وحمايتها إلى أولوية بالنسبة لليونسكو حسب تصريحاتها، وذلك لأن حلب تعتبر من أقدم المدن التي بقيت مأهولة حتى الآن على مستوى العالم، وقد صنفت ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1986 وضمن قائمة مواقع التراث العالمي المهددة منذ عام 2013.
وتعلق بيكات على ذلك بالقول: "لقد خلف الزلزالان هنا أضراراً بالغة، نظراً لتضعضع الكثير من الأبنية بالأصل بسبب النزاع، لذا، عندما تتسنى الفرصة لنا حتى ندخل إلى هناك ونتعرف إلى الوضع الحقيقي للمدينة على الأرض، عندها سنصل إلى فهم أكبر حول ما تحتاجه المدينة حتى نفعله، غير أني أتوقع بأن الاحتياجات ستكون هائلة".
قلعة حلب التاريخية وقد تعرضت للدمار عقب الزلزال الذي هز سوريا يوم 6 شباط
تعرضت قلعة حلب التي تعود للقرن الثالث عشر لأضرار بالغة طالت جدرانها وأبراجها، وعلى رأسها برج الطاحون العثماني والشوارع والمساكن المحيطة به والتي تعود للحقبة العثمانية.
كما عانت أحياء حلب كثيراً بحسب ما ذكرته اليونسكو، إذ تظهر التقارير بأن أسواق المدينة التاريخية مثل سوق الحميدية وسوق المحمص وسوق الحدادين تعرضت كلها لأضرار، وبأن أجزاءً من سور المدينة القديمة قد انهارت، فيما تكشف صور الأقمار الصناعية التي استرجعتها اليونسكو بأن الدمار وصل إلى قصر بيت غزالة الذي يتميز بعمرانه الذي يعود للحقبة العثمانية.
على بعد 160 كلم تقريباً جنوب غربي حلب، ثمة موقعان للتراث العالمي وهما قلعة الحصن وقلعة صلاح الدين، واللتان بقيتا منتصبتين منذ أيام الحروب الصليبية، لكنها تعرضتا لتشققات وصدوع ظهرت على جدرانهما إلى جانب انهيار أبراجهما بسبب الزلزالين الأخيرين. وتحتضن مدينة حماة التي تبعد مسافة 150 كلم جنوب حلب، وطرطوس التي تبعد مسافة 112 كلم عن غربي حماة، مواقع ثقافية يمكن أن تدرج في يوم من الأيام ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وهذا ما جعل اليونسكو تقلق حيالها.
صبي يقف فوق الركام بالقرب من قلعة حلب التاريخية بعد تعرضها للزلزال – تاريخ الصورة: 7 شباط 2023
ستقوم اليونسكو والعاملون لديها بإجراء تقييم للأضرار خلال الأيام المقبلة، ليتم بعد ذلك إعداد خطط للاستجابة، وهذا قد يعني التوصل إلى قرار بشأن ضرورة قيام تدخل سريع لمنع ظهور المزيد من الأضرار على أي موقع من تلك المواقع. كما لدى اليونسكو صندوق طوارئ معني بالتراث لهذا الغرض، وهو مورد يعتمد على تبرعات الدول الأعضاء، وستقوم اليونسكو أيضاً بالمساعدة في التوصل لقرار بالنسبة للاحتياجات على المدى البعيد، إلى جانب تخصيص ميزانيات للمواقع الأثرية وجمع التبرعات إن لزم الأمر.
توازن بين الماضي والحاضر
يزودنا مشروع اليونسكو الحالي في العراق بمخطط محتمل لمختلف أعمال الترميم التي يمكن أن تجري في تركيا وسوريا.
إذ يهدف هذا المشروع في الموصل إلى إعادة بناء الهياكل المعمارية الأثرية في تلك المدينة، والتي تضم مسجداً وكنيسة ومآذن ومقامات، ولهذا تم جمع 105 ملايين دولار عبر تبرعات دولية من أجل هذا المشروع. ويعتمد العمل في الموصل على شبكة من المهندسين المعماريين والمدنيين والمتخصصين في مجال البناء والإنشاءات ومسؤولين أمميين وخبراء دوليين والمجتمع المحلي والشباب العراقي بحسب ما أخبرتنا بيكات، وأضافت: "نحاول إشراك وتمكين المجتمعات المحلية، ولهذا هنالك مشاريع أيضاً تتيح لنا توفير فرص عمل للأهالي مع تقديم تدريب لهم، لأننا نشاركهم في جهود إعادة الإعمار والبناء".
والمفتاح هنا هو الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الهيكل الأصلي للبناء، أي تحديد الأجزاء التي ما يزال بالإمكان استخدامها من البناء، وهذا يعني معرفة ما إذا كان أساس البناء مايزال راسخاً بما يكفي للبناء عليه أم لا، وهل يمكن إصلاح جدار متصدع بالجص أم لا بد من نقضه؟
بالنسبة لهياكل المباني التي تحتاج إلى ترميم، تخبرنا ديكات أنه من الضروري الاستعانة قدر الإمكان بأساليب ومواد مشابهة للمواد والأساليب الأصلية، وتقول: "إن الأمر يتصل بخلق حالة توازن بين ما تبقى من المبنى وبين ما أضيف إليه حديثاً، أي بين البناء وإعادة البناء".
التركي أحمد إسميت وهو يصلي أمام ركام مسجد حبيب النجار التاريخي الذي دمره الزلزال في أنطاكيا – تاريخ الصورة 11 شباط 2023
فيما تؤكد بانجار أوغلو على الرغبة بظهور جهود إعادة إعمار متوازنة بالنسبة للمواقع التاريخية في كلا البلدين، بحيث ينعم القديم والحديث بالإجلال والتقدير ذاته، ولهذا تقول: "لا يوجد مقاس واحد يناسب الكل".
بيد أن الدمار الذي حل بالبلدين مؤخراً تحول إلى جزء من المشهد التاريخي هو أيضاً، وهذا ما دفع بانجار أوغلو للقول: "هذه ليست المرة الأولى التي تتضرر فيها تلك المواقع بسبب الزلازل، أي أن هذا يعكس نوعاً من المقاومة والمرونة الثقافية في وجه الكارثة الطبيعية... فالخسارة تمثل جزءاً أصيلاً من هذا التراث، وهذا لن يقلل من الضرر الذي ألحقته هذه الكارثة الأخيرة على تلك المواقع بكل تأكيد، ولهذا علينا أن نسأل أنفسنا كيف بوسعنا أن نحافظ على تلك المواقع مستقبلاً دون إلغاء أو تمويه تاريخها المعقد والحقب التي توالت عليها".
المصدر: Washington Post