لم يستوعب النازحون والعاملون في المجال الإنساني في شمال غربي سوريا صدمة إعلان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عن توقف مساعداته لهم بسبب "أزمة تمويل غير مسبوقة" تواجهها المنظمة، في وقت تعيش فيه المنطقة تردياً في الأحوال الاقتصادية وسوءاً في الحال المعيشي، وخاصّة أن جلّ النازحين يعتمدون بالدرجة الأولى على الإعانة الشهرية الأممية المقدمة لهم لتسيير أحوالهم.
ويعتمد قرابة 14 مليون سوري على السلة الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمي، وفقاً لتقرير صادر عن البرنامج خلال العام الماضي 2022، والذي كشف عن زيادة قدرها 9 في المئة عن حاجة السكان في عام 2021، وزيادة بنسبة 32 في المئة عن العام 2020، إلى جانب وجود 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، إذ يعاني 60 في المئة منهم من انعدام الأمن الغذائي.
تلك الصدمة جاءت بعد بيان، عبّر خلاله برنامج الأغذية العالمي عن أسفه للإعلان عن انتهاء برنامج مساعداته الغذائية العامة في جميع أرجاء سوريا في كانون الثاني - يناير 2024 بسبب نقص التمويل.
وأشار إلى أنّ برنامج الأغذية العالمي سيواصل دعم الأسر المتضررة من حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية في جميع أرجاء البلاد من خلال تدخلات طارئة أصغر وموجهة أكثر.
وأكّد البيان أيضاً أنه سيواصل مساعدة الأطفال دون سن الخامسة والأمهات الحوامل والمرضعات من خلال برامج التغذية، والأطفال في المدارس ومراكز التعلم من خلال برنامج الوجبات المدرسية، وكذلك الأسر الزراعية المدرجة في برنامج دعم سبل العيش، بالإضافة إلى ذلك سيواصل البرنامج تدخلاته لدعم تعافي النظم الغذائية المحلية، مثل إعادة تأهيل أنظمة الري والمخابز.
وتظهر أحدث بيانات البرنامج أن سوء التغذية في سوريا آخذ في الارتفاع، مع وصول معدلات التقزم بين الأطفال وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة.
ما تداعيات القرار على شمال غربي سوريا؟
يقول مدير جمعية يد العون الخيرية "يحيى العمر" العاملة في منطقة الدانا شمالي إدلب، لموقع تلفزيون سوريا، إن "80 في المئة من السكان في المنطقة سواء النازحون أو المقيمون يعتمدون بشكل أساسي على السلة الأممية شهرياً، نظراً لما تحويها من قيمة غذائية ابتداءً من الطحين والسكر والبقوليات والزيت".
وأوضح أن السكان باتوا اليوم يعتمدون على السلة الأممية بشكل أساسي نظراً لغياب فرص العمل وحصرها في فئة لا تتجاوز الـ 20 في المئة من السكان، لافتاً أن ما تبقى من الأهالي يعيشون في معظمهم تحت خط الفقر ويتركز معظم مواقعهم في المخيمات، بسبب عدم قدرتهم على شراء أو استئجار منزلٍ خارج مخيمهم.
ورأى العمر أن للقرار انعكاسات عدّة من بينها تفشي حالات السرقة والإجرام إثر تراجع الوضع المعيشي بشكل أكثر لدى العوائل التي تعيش أساساً تحت خط الفقر، ملقياً اللوم على الأمم المتحدة في عدم طرحها خطة بديلة تتكفل بالسوريين الذين يعانون منذ سنوات عدّة من غياب فرص العمل وكثرة اليد العاملة.
ووصف قرار الأمم المتحدة بـ "غير العادل" باعتبار أن المنطقة تشهد حالة عدم استقرار على طول جبهات سوريا، واشتباكات وقصفاً جويّاً وبرياً مُفتعلاً بين الفينة والأخرى على جبهات إدلب وحلب، مستنكراً غياب أي خطة بديلة من برنامج الأغذية من شأنها تحسين ظروف السكان في سوريا ومساعدتهم في إعالة أنفسهم أو إطلاق مشاريع من شأنها توفير فرص عمل للشباب بهدف سد احتياجات عائلاتهم.
وطرح مدير الجمعية في أثناء حديثه مع موقع تلفزيون سوريا فكرة اعتماد برنامج الأغذية على تقديم المساعدة النقدية للمستفيدين بالقدر المستطاع بدلاً من السلة الغذائية الشهرية التي يلحقها تكاليف شراء المواد الغذائية وشحنها إلى سوريا عبر دول عدّة، مِمّا قد يُخفف من عناء نقص التمويل وآثاره السلبية التي ستنعكس حتماً على الأشخاص ذوي الحاجة للإعانة.
النازحون يعانون
وتوافق كلام "العمر" مع رأي المهجر من قرية العيس جنوبي حلب "عبد المجيد العلي" (56 عاماً) والذي يسكن في مخيم الكمونة على الطريق الواصل بين "سرمدا – إدلب"، والذي بدأ حديثه بالتذمر من المنظمات الإنسانية والحال المتوقع حصوله بعد توقف السلة الشهرية التي وصفها بـ"المدعومة".
يُشير العلي وهو يجلس برفقه أطفاله الخمسة، داخل خيمته القماشية، إلى أن السلة الأممية كانت توفر عليهم 50 دولاراً أميركياً شهرياً على أقل تقدير، مؤكداً أنها كان تحتوي على كميات كافية من أهم احتياجات العائلة، وهي "الزيت والسكر والطحين"، كما أنها كانت تؤمن قوت يومهم الشهري نظراً لكمية البقوليات التي تحويها السلة من "الحمص والعدس والأرز".
من جهتها، اعتبرت النازحة "إسراء حجي" (47 عاماً) وهي أم لـ "ثلاث بنات وشاب" وهي نازحة وتسكن في مخيم الرحمة في بلدة قاح الحدودية مع تركيا، أن السلة الأممية الشهرية حاجة أساسية في كل منزل، نظراً لمحتوياتها الأساسية، وخاصّة الزيت الذي يعتبر من أهم مقتنيات السلة، والذي يقارب سعر اللتر منه نحو 2 دولار أميركي، وهو ما وصفته بأنه يشكل عبئاً حقيقياً على معظم المهجرين في حال قرروا شراءه.
وأكّدت الأرملة النازحة التي فقدت زوجها منذ ثلاث سنوات بغارة جويّة، أن وجود هذه السلة يخفف بشكل كبير من مصاريف العائلة، وخاصّة في ظل انخفاض قيمة الكروت الشرائية التي يتم توزيعها شهرياً على النازحين من قبل المنظمات، والتي يبلغ ثمنها اليوم 40 دولاراً بعد أن كانت مسبقاً 60 دولاراً.
وتابعت قائلةً: "إذا توقفت السلة فأنا سأضطر شهرياً لشراء جميع محتويات السلة على حسابي الشخصي"، مشيرةً أن "العائق الذي يضاف إلى ذلك أيضاً هو متطلبات فصل الشتاء ومستلزمات الأولاد وغيرهم، منهيةً حديثها معنا بالحوقلة والتذمر".
ويأمل جميع من التقيناهم من النازحين في شمالي سوريا، أن يتراجع برنامج الأغذية العالمي عن قراره، وأن تتم دراسة وتقدير احتياجات السكان والنظر في حالهم المعيشي بشكل مدروس ومنطقي، ليتمكنوا فقط من الحصول على أساسيات الحياة، لا سيما أنهم يعيشون في رقعة جغرافية باتت فيها الضائقة الاقتصادية سمة عامة، والعثور على عمل من الأمور شبه المستحيلة.
ما أسباب توقف مساعدات برنامج الغذاء العالمي؟
من جانبه، عزا عضو الائتلاف الوطني السوري السابق ورئيس الحكومة السورية المؤقتة مسبقاً "أحمد طعمة" قرار توقف برنامج الأغذية الغذائي إلى أسباب عدة، من بينها كثرة الكوارث الطبيعية والحروب في العالم أجمع، والتي بدأت منذ طوفان ليبيا حتى العدوان على غزة، بالإضافة إلى تصاعد كلفة الحرب في أوكرانيا.
واعتبر أن قرار توقف البرنامج لن يعوّضه أي مشروع آخر من قبل أي منظمة إنسانية، مؤكداً أن الثغرة التي ستحصل بعد غياب البرنامج ستعجز عن جميع المشاريع، إذ كان يمنح البرنامج جميع المحتاجين في سوريا منذ عام 2011، كما أنه حقق شراكات عدّة مع منظمات إنسانية من شأنه تزويدهم بالمساعدات.
وأوضح أن القرار الذي قد يسد الفجوة هو قيام بعض المنظمات والدول بزيادة حجم مساعداتها إلى سوريا من تلقاء نفسها.
وطالب طعمة في حديثه مع "تلفزيون سوريا" جميع السياسيين وقيادات المعارضة السورية بتكثيف الضغط على المجتمع الدولي ومطالبته بتعويض النازحين السوريين عن النقص الفادح وخصوصاً مع هذا الشتاء القارس.
وخلال إعداد هذا التقرير تواصلنا مع معظم شركاء البرنامج في الداخل السوري على رأسهم منظمات "إحسان، وتكافل الشام، وعطاء، وIYD" وجميعهم رفضوا التعليق على قرار البرنامج.
البرنامج لم يتوقف!
وعلى الرغم من صدور البيان الرسمي للبرنامج بإعلان التوقف مطلع العام القادم 2024، لكن مدير فريق منسقو استجابة سوريا "محمد حلاج" نفى لموقع تلفزيون سوريا جميع المعلومات التي تتحدث عن توقف عمل البرنامج، مؤكداً أن البرنامج سيعمل ولكن سيتم تخفيض محتويات السلة مع بداية دورة التمويل المقبلة مطلع العام المقبل.
وأشار إلى أنه تم تخصيص أكثر من ملياري دولار خلال دورة التمويل الحالية للبرنامج من خلال مؤتمرات المانحين، إلا أن البرنامج لم يحصل على أكثر من 30.8 في المئة فقط من إجمالي التمويل المطلوب، الأمر الذي سبب عجزاً كبيراً لدى البرنامج، وفق قوله.
وأبدى حلاج استغرابه من عمليات التخفيض والإصرار عليها من قبل البرنامج في ظل ما تعانيه المنطقة من ارتفاع كبير في أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية، من دون الأخذ بالاعتبار حاجة المدنيين الملحة لتأمين الغذاء وخاصةً مع فقدان الآلاف من المدنيين لمصادر الدخل.
وحذّر في ختام حديثه جميع الجهات الإنسانية من استمرار عمليات التخفيض في المساعدات الإنسانية، نظراً للآثار السلبية المترتبة على قرارات التخفيض، مطالباً الجهات الدولية بالعمل بصرامة على زيادة الدعم المقدم للمدنيين في المنطقة، وخاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي في المنطقة وعدم قدرة الآلاف من المدنيين على تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء.
ويعيش السوريون حالة طوارئ بعد 12 عاماً من الحرب التي يخوضها نظام الأسد ضد الشعب السوري والتي مزقت البلاد وتسببت بنزوح وتهجير ولجوء نصف سكان سوريا، ثم تتالت على السوريين كوارث كجائحة كورونا والكوليرا والزلزال المدمر في شباط الفائت.
ويعتمد أكثر من نصف السكان في شمال غربي سوريا على المساعدات الأممية وتلك التي تقدمها المنظمات المحلية، إلا أن الدعم الإنساني الذي تعهدت به الدول لسوريا، وصل منه 10 في المئة فقط في العام 2023، في حين يعيش ملايين السوريين تحت رحمة الفساد الذي تمارسه حكومة النظام السوري، مقابل رواتب حكومية للموظفين لا تزيد على 15 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يلبي احتياجات الأسرة لمدة أسبوع، وربع الاحتياجات الغذائية.
حتى قبل الزلازل المدمرة التي ضربت شمال غربي سوريا، كان 12.1 مليون شخص في جميع أرجاء البلاد في قبضة الجوع.
تخفيضات ما قبل القرار
وأخيراً راقب موقع تلفزيون سوريا من كثب الخطوات التي اتخذها برنامج الأغذية العالمي في منطقة شمال غربي سوريا منذ مطلع العام 2020 وحتى دخول القرار الأخير للبرنامج حيز التنفيذ في مطلع تموز المقبل، ورصد الموقع خفض البرنامج محتويات السلة الغذائية 6 مرات، كما شطب البرنامج مستفيدين من المساعدات التي يقدمها مرتين، بالإضافة إلى تخفيض قيمة القسيمة النقدية التي يسلمها لبعض المستفيدين عوضاً عن السلة الغذائية مرة واحدة.
في تلخيص لأبرز التغييرات التي طرأت على محتويات السلة الغذائية خلال عامين ونصف لوحظ إزالة البرنامج لمكونات أساسية من السلة الغذائية مع إبقائه على مكونات أخرى تعتبر أقل أهمية بالنسبة للأسر المحتاجة.
حيث كانت أبرز التخفيضات هي:
إلغاء مادة الفاصولياء البيضاء من محتويات السلة بعدما كانت 6 كغ مطلع 2020.
إلغاء مادة البرغل من محتويات السلة بعدما كانت 15 كغ مطلع 2020.
تخفيض كمية الزيت النباتي من 8 إلى 4 لترات.
تخفيض كمية الأرز من 15 إلى 8 كغ.
تخفيض كمية السكر من 6 إلى 4 كغ.
تخفيض كمية العدس الأحمر من 6 إلى 3 كغ.
تخفيض كمية الحمص من 6 إلى 2 كغ.
في حين أبقى البرنامج على كميات الملح 1 كغ، والطحين 15 كغ على حالها، وتجدر الإشارة إلى أنها مواد منخفضة السعر في الأسواق المحلية.