ليس المشهد غريباً، مدنٌ مهدمة ومبانٍ سوّاها القصف الجوي بالأرض، هروب جماعي من الموت وأشلاء يظهر بعضها من تحت الأنقاض، وجوه مكفهرة وعائلات تبحث عن ذويها.
نعرف نحن السوريين جيداً تلك الحكاية.. ما زالت أصوات الطيران ترعبنا وتجعلنا عاجزين عن النوم وما زالت النيران التي اشتعلت في مدننا لم تهدأ في قلوبنا حتى اللحظة، على الرغم من الفاصل الزمني بين اليوم وبداية الموت السوري الكبير.
تعيش غزة اليوم الحكاية نفسها.. ربما ليست هي المرة الأولى لكنها الأكثر وقعاً، بشكل خاص بعد أن عاش السوريون المأساة نفسها مع اختلاف هوية الفاعل وتشابه النهج الدموي لدى كل منهم.
تصريحات متواترة أدلت بها الحكومات ورؤساء الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والمؤسسات الدولية، أدانوا فيها الاعتداء على الأحياء السكنية والمستشفيات، لكنها وكما جرت العادة لم تتعدّ ذلك وبقيت عناوين عريضة في نشرات الأخبار من غير أن تحرز تقدماً أو تمنع موتاً عن الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم يحاربون وحيدين، من غير أن يكسبوا سوى التعاطف الكاذب من دول العالم العربي التي بات أغلبها اليوم يفتح أبوابه لرعايا الاحتلال ويستقبلهم برحابة صدر في سياحة أو عمل.
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري كان يوماً فارقاً للفلسطينيين وكان كذلك أيضاً لحكومة الاحتلال، لكنها قلبت القصة لصالحها وصنعت منه حجة لاستخدام القوة والبطش في محاولة قمع حالة المقاومة بدعوى الإرهاب من حماس.
هل يبيح الإرهاب فعلاً قصف المدنيين وزهق أرواحهم من غير حساب ؟ أم أنها قيم العالم الجديد تعلي أرواح بعض البشر على بعضها الآخر
أصبح الإرهاب اليوم حجة من لا حجة له والموضوع الرائج الأكثر مناسبة لتبرير تجاوزات الحكومات بحق الشعوب أو ضد الشعوب المحتلة، تعلق على شماعته تجاوز حقوق الإنسان وتحول فيه قتل المدنيين إلى أضرار جانبية ضرورية للحفاظ على الأمن القومي العام.
هل يبيح الإرهاب فعلاً قصف المدنيين وزهق أرواحهم من غير حساب إذ؟ أم أنها قيم العالم الجديد تعلي أرواح بعض البشر على بعضها الآخر، إذ لا ضير في أن يموت الفلسطينيون اليوم كي تحفظ إسرائيل أمنها وأمن مواطني دولتها المفترضة، ولا مانع أن يقتل نظام الأسد معارضيه لأنهم خونة ومأجورون ويحاولون زعزعة استقرار الدولة.
من هذه النقطة ومن الزاوية التي نرى فيها الأحداث السياسية اليوم تبدو حكاية الإرهاب نكتة سخيفة للغاية، ولم تعد مضحكة بقدر ما هي مستفزة بما تحويه من عبارات جاهزة تدين الآخر وتضعه في موضع يستحق بسببه كل ما يمكن أن يحدث له من موت وتهجير وتنكيل وتشويه في نظر الرأي العام، تجبرنا مثل هذه الحروب أيضاً على تقبل فكاهات أخرى من قبيل المضحك المبكي، إذ إن روسيا التي لم تتوقف عن قصف السوريين وقتلهم تحاول لعب دور حمامة السلام وترسل مساعدات إلى المحاصرين في غزة لحسابات لها علاقة بالاصطفافات الدولية.
بينما يتجاهل العالم أجمع الإرهاب الحقيقي وجرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها مثل هذه الحكومات تحت مسميات كثيرة وفي ظل غطاء دولي، يشرع تجاوزاتها بمبررات ساذجة وسيناريوهات أصبحت مكشوفة لدى أي قارئ للوضع السياسي.
لا يحتاج القاتل إلى عذر لأنه سينتصر لفطرته الإجرامية أياً كانت الدوافع وسيجد لجريمته ألف مبرر، الكارثة الأكبر أن يصبح لهذا القاتل معجبون ومريدون يصفقون له ويبررون ويتبنون فكرته الإجرامية ويجدونها منطقية في سبيل هدف أكبر يتوافق مع مصالحهم، وإن لم يكن ذلك الهدف إنسانياً أو أخلاقياً.
لقد عمل النظام السوري وفقاً لأجندة إعلامية خلط فيها الأوراق فضاعت فيها الحقيقة، بالمنهج ذاته الذي تعمل وفقه حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي قدمت نفسها ضحية تصدت للموقف بشجاعة نادرة، لتخلص العالم من إرهاب قد يشكل خطراً على التعايش والسلام القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
المنطق ذاته استخدمته أميركا في اجتياحها العراق وروسيا في تدخلها لدعم النظام السوري، لكن ذلك لم يمنع العالم من تأييد الحروب الوهمية على الإرهاب لتحييد الخصم والقضاء عليه وتمهيد الطريق لبسط السيطرة الكاملة على الدولة.
تعمل حكومة الاحتلال أيضاً على تشتيت انتباه الدول العربية المحيطة بتخويفهم من أزمة لاجئين محتملة، بالمطالبة بنقل الفلسطينيين المدنيين _ على حد قولها _ إلى دول حدودية ريثما تنتهي العملية العسكرية، وهو افتراض ليس الهدف منه سوى إلهاء الشعوب والحكومات عن الاهتمام بالمشكلة الأساسية التي تمثل توسع إسرائيل لدحر الفلسطينيين وضم أراض جديدة إلى مستعمراتها ومحاولة فرض خريطة أمنية جديدة، والتعتيم على القضية الأساسية وجوهرها رفض الاحتلال واستعادة الأراضي، وضمان اقتصار مطالب الفلسطينيين على إحلال السلام وعدم التهجير والحفاظ على الفتات من الأرض مما تمنحه حكومة الاحتلال.
لم تعد مسألة طرد الاحتلال واستعادة الأرض مطروحة أصلاً منذ زمن على طاولة المفاوضات الدولية، وصار وجود الكيان أمراً واقعاً علينا التعامل معه وتقبله، بل وأكثر من ذلك فإننا مجبرون على الحوار معه من أجل وضع حد للحرب المستمرة.
هل يذكرنا ذلك بشيء اليوم؟
لا يرى العالم اليوم الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه، ولا يهم اغتصاب الأراضي من طرف حكومة الكيان الصهيوني وتهجير الناس وبناء المستوطنات، باتت الصورة الواضحة فقط حروبهم ضد الإرهاب
إنه يتطابق تماماً مع ما يحدث في سوريا، إذ صار لزاماً علينا الحوار مع النظام القاتل لوضع حد للموت والتهجير ولحل أزمة اللاجئين، وصار وجوده جزءاً ضرورياً من أجل الحل وبقي طرفاً دولياً ولاعباً مؤثراً من أجل السيناريوهات المطروحة.
لا يرى العالم اليوم الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه، ولا يهم اغتصاب الأراضي من طرف حكومة الكيان الصهيوني وتهجير الناس وبناء المستوطنات، باتت الصورة الواضحة فقط حروبهم ضد الإرهاب مع غض الطرف عن عدم شرعية وجودهم من حيث المبدأ وتعديهم الواضح على ما هو ليس من حقهم.
لا عزاء لنا أو للأشقاء الفلسطينيين ولا بواكي، ونعرف أننا لا نملك الكثير لنقدمه ونعجز عن فك عقدتنا وعقدتهم الأزلية، لكن ما تثبته التجربة أن القضايا لا تنفع معها محاولات الإبادة الجماعية وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم إذا كان هناك من يستمر بالمطالبة بها.