تُسقط حالات الاضطراب التي تعيشها الدول الخطوط الحمر التي تُعتبر أنها أمر قائم ومفروض. يمكن استنتاج ذلك من زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان على الرغم من كل التحذيرات الصينية. الزيارة حظيت بدعم وغطاء من البيت الأبيض. هي خطوة في سياق الرتابة المنطقية تبدو مستغربة، خصوصاً بناء على نصائح كبار المنظرين الأميركيين ومن بينهم هنري كيسنجر بعدم استفزاز الصين في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. ما يريده كيسنجر هو تكرار تجربته في السبعينيات عندما أنتج تقارباً مع الصين لاستقطابها في مواجهة الاتحاد السوفييتي.
بناء على هذه القاعدة وبالنظر إلى الاستفزاز الأميركي للصينيين في ظل المواجهة المفتوحة مع روسيا، فإن الخلاصة تعني وقوع الأميركيين في خطأ استراتيجي، أو تقدير خاطئ بالمعنى السياسي، لأن ذلك سيقود إلى انفتاح الصين أكثر على الخيارات الروسية ضد الأميركيين. يبقى ذلك في إطار رتابة الفكرة والمقاربة. ولكن في الغالب فإن ما يريده الأميركيون يبدو أبعد استراتيجياً. فبذلك نجحت واشنطن بإحراج الصين معنوياً، إذ لم تقدم على أي ردّة فعل كردّ على الاستفزاز الأميركي على الرغم من كل التهديدات. هنا لا بد من العودة إلى جذور ثقافية وحضارية صينية ترتكز على ثابتة ثقافية بأن العسكري الجيد هو الذي لا يغضب، وبالتالي تريد بكين أن تتعاطى بأعصاب فولاذية مع مثل هذا الاستحقاق. فلا تريد الإقدام على أي خطوة من شأنها أن تسهم في تدهور الأمور.
ولكن ما حققته واشنطن إلى جانب إحراج الصين معنوياً، هو رمزية تسعى إلى تكريسها دوماً بأنها لا تزال المتصدرة للنظام العالمي وقائدته، علماً أن هناك وجهات نظر أميركية كثيرة تشير إلى وجوب التشارك في إدارة النظام العالمي بمرحلة ما بعد إعادة صياغته وفق قواعد جديدة. النقطة الثانية التي حققتها واشنطن أيضاً هي إعادة إحياء سوق تجارة الأسلحة، وهو السوق الأمثل للالتفاف على أي أزمات اقتصادية ومالية، وبالتالي فإن الحرب الروسية الأوكرانية فتحت مرحلة من إعادة سباق التسلح في أوروبا، وهو الأمر الذي تستفيد منه واشنطن مالياً واستراتيجياً، والأمر نفسه سينطبق على دول شرق آسيا أيضاً ما بعد زيارة بيلوسي إلى تايوان، والتي ستكون الصورة المقدمة عنها بأنها بلد محاصر، ما يعطي انطباعاً بأن أي دولة مجاورة للصين ستكون عرضة لأي تدخلات صينية، وبالتالي لا بد من الذهاب إلى تعزيز وضعيتها العسكرية.
ثالثاً، كرّست الولايات المتحدة الأميركية من هذه الزيارة، مبدأ عزل الصين عن الكثير من دول شرق آسيا، عبر إحاطتها بكم كبير من الدول المجاورة التي لا تتمتع بعلاقات جيدة معها، وهذا يرتبط أيضاً بسياق الحلف الاستراتيجي الذي تعمل واشنطن على إنشائه، مع أستراليا والهند واليابان، وهو تحالف من شأنه أن يغير في وقائع استراتيجية في المحيط الهادئ.
وقائع المشهد، ستدفع دولاً كثيرة للتفكير في مستقبل علاقاتها الاستراتيجية، من أبرزها من كان يراهن على أن العلاقة مع الصين يمكنها أن تشكل بديلاً عن العلاقة بواشنطن
وقائع المشهد، ستدفع دولاً كثيرة للتفكير في مستقبل علاقاتها الاستراتيجية، من أبرزها من كان يراهن على أن العلاقة مع الصين يمكنها أن تشكل بديلاً عن العلاقة بواشنطن، وكان أبرز من التقط تلك الإشارات هي إيران التي سارعت للعودة إلى احياء مفاوضات الاتفاق النووي، لا سيما أن علاقتها مع روسيا لم تخدمها سابقاً على المستويين الاستراتيجي والاقتصادي، وكذلك الدخول في اتفاقيات استثمارية واقتصادية ذات بعد استراتيجي مع الصين بمليارات الدولارات لن تكون قادرة على تشكيل البديل الحمائي للعلاقة مع واشنطن.
كل هذه الوقائع لا بد لطهران قراءتها جيداً، من استعادة لتجربة مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول ودخول واشنطن في حقبة الحرب على الإرهاب، والتي توجها باراك أوباما باغتيال أسامة بن لادن وتسليم المنطقة إلى طهران بالاستناد إلى الاتفاق النووي. في مرحلة ما بعد أوباما جاء دونالد ترامب الذي حاول الموازنة في مواقفه من خلال اغتيال أمير تنظيم داعش البغدادي، وباغتيال قاسم سليماني، عطفاً على الانسحاب من الاتفاق النووي، ما أوحى بوجود استراتيجية أميركية جديدة تقوم على استكمال الحرب ضد الإرهاب والهدف منه إضعاف الكتل السنية الكبرى، في مقابل قضم النفوذ الإيراني أيضاً وحسر انتشاره واتساعه.
هنا فرضت الوقائع نفسها، فلم يتمكن جو بايدن من الخروج عن القواعد التي فرضها ترامب لا نووياً ولا في العلاقات الاستراتيجية، فاضطر إلى الالتزام بشروط متعددة أخرت من العودة الى الاتفاق مع طهران، واضطر للتعاطي مع ظروف ووقائع حتّمت عليه العودة إلى الخليج لتحسين العلاقات وإعادة البحث عن فرص تعزيز الثقة لأهداف طاقوية سيكون لها ما يقابلها أيضاً بالنسبة إلى المطالب الخليجية. كل ذلك يؤكد أنه لا يمكن للأميركيين الخروج من المنطقة وتركها دون اهتمام للذهاب إلى مقارعة الصين في الباسيفيك. وأي استراتيجية تريد واشنطن الانطلاق منها يفترض أن تكون مبنية على ترتيب الوقائع على الساحة الشرق أوسطية، وهو ما تسعى إليه إيران أيضاً ويتجلى في التواصل المستمر مع دول الخليج.
بالنظر إلى هذه الوقائع، والارتكاز على معارك وحروب استراتيجية، يبرز دور متقدم نجحت تركيا في تحقيقه من الشرق الأوسط إلى آسيا والقوقاز، وصولاً إلى الدور الذي تلعبه في تصدير القمح الأوكراني، ذلك لا ينفصل عن عقد صفقات الأسلحة من قبل دول متعددة مع شركات تصنيع الأسلحة التركية هذا من شأنه جعل تركيا دولة محور ما بين أوروبا وآسيا، وهو يفترض تعزيز العلاقات العربية التركية لإعادة فرض توازنات استراتيجية جديدة في المنطقة.