في الثامن من يوليو/ تموز 2015، رفع ممثل روسيا يده الشهيرة، مستخدما حق النقض "الفيتو" ضد قرار مجلس الأمن الذي كان سيدين مذبحة "سربرينيتسا": باعتبارها عملية إبادة جماعية. كان الهدف من القرار إحياء الذكرى العشرين لمقتل أكثر من 8000 رجل وفتى مسلم. سيخطر على بالكم فوراً القول الشائع: ما أشبه اليوم بالأمس. أشاد الرئيس الصربي حينذاك، توميسلاف نيكوليتش باستخدام روسيا حق النقض، معتبراً أنها أثبتت نفسها كصديق حقيقي. سيكرر نظام الأسد مثل هذه الإشادة بصيغ مشابهة في كل مرة استخدمت فيها روسيا حق النقض في الشأن السوري.
على عكس الأصداء الإعلامية اللافتة التي أعقبت الإعلان عن صور قيصر، فإن ما أعلنه الائتلاف السوري المعارض قبل أيام، عن حيازته وثائق رسمية تثبت مقتل 5210 مواطنين سوريين في المستشفى العسكري بمدينة حمص بين عامي 2012/ 2014، لم يتموضع كخبر في الإعلام العالمي إلا على نحو خجول. قد يكون مردّ ذلك إلى الضعف الإعلامي المزمن لدى الائتلاف، وربما لأن الشأن السوري عموماً لم يعد ذا أهمية في الإعلام العالمي، إلا لجهة الصراعات بين الدول الفاعلة على الأرض السورية. أما عن قرائن جديدة تثبت ارتكاب نظام الأسد أفعال الإبادة الجماعية، فهذا آخر ما يريد العالم سماعه اليوم.
نزوح مليوني شخص وقتل نحو مئتي ألف واغتصاب آلاف النساء، وتعرض المدنيين الأبرياء بشكل متكرر للقصف ورصاص القناصة، تستوفي الشروط التي تعرّف جريمة الإبادة الجماعية
على العكس من الحال في سوريا، فقد انشغل العالم وهيئاته ومحاكمه بمذبحة سربرينيتسا، وهذا أمر يجب أن يحظى بالاحترام والتقدير بالتأكيد. في 15 يناير 2009، صوّت برلمان الاتحاد الأوروبي بأغلبية ساحقة على قرار يدعو إلى الاعتراف بيوم 11 يوليو كيوم لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرينيتسا. قبله في 27 يونيو 2005، أصدر مجلس النواب الأميركي قراراً لإحياء الذكرى العاشرة للإبادة الجماعية في سربرينيتسا. ورد في القرار الذي شمل عموم الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الصربية والميليشيات الموالية لها: إن نزوح مليوني شخص وقتل نحو مئتي ألف واغتصاب آلاف النساء، وتعرض المدنيين الأبرياء بشكل متكرر للقصف ورصاص القناصة، تستوفي الشروط التي تعرّف جريمة الإبادة الجماعية. وكذا فعل كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة في الذكرى العاشرة للمذبحة، في معرض رسالة أشاد فيها، بضحايا ما وصفها بأنها "أسوأ جريمة على التراب الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية"، مضيفاً أنها "ذكرى قاتمة عن عدم إنسانية الإنسان تجاه الإنسان". ومؤكداً أن "الواجب الأول للمجتمع الدولي هو الكشف عن الحقيقة ومواجهتها".
لم تبدأ مذبحة سربرينيتسا تماماً في ذكراها، وهو يوم 11 يوليو 1995 (الذي يصادف يوم كتابة هذه المادة). فقد تعرضت البلدة التي تقطنها غالبية مسلمة إلى جانب الأرثوذوكس وبشكل أقل الكاثوليك، للاعتداءات منذ بدايات المعارك التي اندلعت بين صربيا والبوسنة قبل ثلاث سنوات. ولكن هول العدد الذي قتل خلال أقل من أسبوع أثناء احتلال القوات الصربية للبلدة (سآتي على ذكر بعض وقائع المذبحة تالياً)، جعل هذا التاريخ يتصدر الذاكرة البوسنية والدولية والصربية فيما بعد، حين سيعتذر البرلمان الصربي عن المذبحة عام 2010.
خلال تقطيع الجيش الصربي بمساعدة قوات صرب البوسنة وميليشيا "العقارب" التابعة لوزارة الداخلية أوصال المناطق المحيطة، تجمع السكان البوسنيون "البوشناق" قاطنو تلك المناطق في مدينة سربرينيتسا وتضخم عدد سكانها إلى ما يعادل عشرة أضعاف عددهم قبل الحرب. جميعهم خضعوا للحصار والجوع لأكثر من ثلاث سنوات، تحت سمع وبصر جنود الأمم المتحدة "الهولنديين" المتمركزين في البلدة.
في زيارة للجنرال الفرنسي فيليب موريلون، قائد قوة الأمم المتحدة للحماية، قام بها إلى البلدة في 1993، كانت إمدادات المياه مدمرة، وكان الغذاء والدواء والضروريات الأخرى نادرة للغاية. سيصف الرجل سربرينيتسا بأنها معسكر للموت البطيء. في اجتماع عام قبل مغادرته، أخبر الجنرال موريلون السكان المذعورين أن المدينة، تحت حماية الأمم المتحدة وأنه لن يتخلى عنها أبداً. كانت البلدة واحدة من ست مناطق أعلنتها الأمم المتحدة كمناطق آمنة.
في شهادته، وصف جندي صربي سابق من وحدة "القبعات الحمر" التكتيكات المستخدمة لتجويع وقتل السكان المحاصرين: "كان الأمر أشبه بلعبة مطاردة القط والفأر، وفي جميع الحالات تقريباً، كنا الصيادين وهم الفريسة. أردناهم أن يستسلموا، عبر تجويعهم حتى الموت. وكنا ندرك أنه يجب أن نقلق على تهريب الطعام أكثر من قلقنا على تهريب الأسلحة إلى سربرينيتسا. كانوا يتضورون جوعاً، لذا كانوا يرسلون الناس لسرقة الماشية أو جمع المحاصيل، وكانت مهمتنا العثور عليهم وقتلهم، فالسائد أننا لم نكن نريد أسرى". عندما زار الصحفي البريطاني توني بيرتلي البلدة المحاصرة في مارس 1993، التقط صوراً لمدنيين بوسنيين يتضورون جوعا حتى الموت. وفي تقرير لمحكمة لاهاي أكد أن قوات صرب البوسنة المسيطرة لم تسمح بوصول المساعدات الإنسانية الدولية، مما تسبب في وصول الجوع إلى ذروته، ما أدّى إلى موت العديد من الناس بسبب سوء التغذية.
حصار وجوع قبل المذبحة؟ سيحدث هذا ويتكرر في منطقة أخرى من العالم بعد سنوات عديدة، والأمم المتحدة ومعها الدول المؤثرة الذين ادّعوا أن مذبحة البوسنيين عام 1995 كانت مفاجئة لهم ولم يتمكنوا من منعها في الوقت المناسب، سيتابعون مذبحة مشابهة بالعرض البطيء وعلى مدى عقد كامل في سوريا، بالوثائق والصور، وأحياناً عبر البث المباشر.
رأت نورا والدة "أزمير علي سباهيتش" البالغ من العمر 16 عاماً، في هذا الفيديو، إعدام ابنها على شاشة التلفزيون
في عام 2005، تم تقديم فيديو مصور من محاكمة الرئيس الصربي "سلوبودان ميلوسيفيتش". الفيديو، وهو النسخة الوحيدة المتوفرة أمام المحكمة، يُظهر كاهنًا أرثوذكسياً يبارك عدة أعضاء من الوحدة الصربية المعروفة باسم "العقارب". في وقت لاحق، يظهر هؤلاء الجنود وهم يعدمون أربعة مدنيين في الميدان. للمفارقة في نهاية الفيديو، يعرب المصور عن خيبة أمله لأن بطارية الكاميرا على وشك النفاد. بعدها سيأمر الجنود أسيرَين آخرين بنقل الجثث الأربع إلى حظيرة قريبة، حيث أعدمهم الجنود هناك عند انتهاء مهمة النقل.
إثر عرضه، اعتقلت الحكومة الصربية بعض الجنود السابقين الذين تم التعرف إليهم في الفيديو. وفي حالة اعتبرت نادرة، رأت نورا والدة "أزمير علي سباهيتش" البالغ من العمر 16 عاماً، في هذا الفيديو، إعدام ابنها على شاشة التلفزيون. حظيت نورا إثر مأساتها على تعاطف إعلامي كبير. اليوم بعد ربع قرن من مقتل أزمير، آلاف الأمهات السوريّات تَشاركْن مع العالم أجمع، مشاهدة صور جثث أبنائهن ضحايا القصف أو القنص أو التعذيب. أجل، ما زال الأمر يجري على هذا النحو، في مذبحة متمادية، بدأت منذ عقد ولم تنتهِ بعد.