ظهرت في سوريا خلال القرن الماضي شخصيّات نسائيّة على مستوىً عالٍ من الثقافة والوعي والفاعلية في المجتمع؛ خصوصًا في الفترة الزمنية الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولعلّ ماري عجمي من أبرز تلك الشخصيات التي كُتب عنها وقِيل فيها الكثير، لدورها الكبير في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية السورية آنذاك؛ فهي صاحبة أوّل مجلة نسائية في سورية والمشرق العربي، إضافة إلى نشاطات أخرى متنوعة لها لا تقلّ أهميّة عن إصدارها (مجلّة العروس) كمساهمتها في تأسيس النادي النسائي الشامي، وقد حاولت الدراما أن تلقي الضوء على شخصية ماري عجمي من خلال مسلسل "حرائر" وإن لم يكن الخطّ الدراميّ الخاص بشخصيتها هو الخطّ الرئيسيّ للحكاية.
طفولتها ونشأتها
تنحدر ماري عبده عجمي من أسرةٍ حمويّة الأصل، نزح جدّها الأعلى إليان الحموي من حماة إلى دمشق في القرن الثامن عشر، ورحل جدّها يوسف من دمشق إلى بلاد العجم (بلاد فارس) بتجارةٍ له في الحليّ والمصوغات الذهبية فقيل له: (العجمي).
تلقّت تعليمها في المدرستين الروسيّة والإيرلنديّة، ونالت شهادتها سنة 1903، وقد مارست التعليم عامًا واحدًا، قبل أن تلتحق بمدرسة التمريض في الكليّة الأميركيّة ببيروت.
كتبت في عددٍ من الصحف تحت اسم مستعار (ليلى) وحين نالت شهرة ترضيها إلى حدّ ما، عادت إلى اسمها الحقيقي لتكتب به، ولم تقف عند حدود الكتابة داخل موطنها سورية؛ بل راسلت صحفًا في كلّ من لبنان ومصر، وبات لها قرّاءٌ وقارئاتٌ كثر، فانطلقت تكتب عن الآمال المعقودة على النهضة، وكان التوجّه التربوي غالبًا على مقالاتها.
مجلّة "العروس"
أثمر التعليم الذي تلقّته ماري عجمي والثقافة التي تمتلكها؛ إضافةً إلى رصانة لغتها العربيّة عن إطلاق أول مجلّة نسائية في سورية عام 1910، أطلقت ماري اسم (مجلّة العروس) عليها، لم تكن مجلّتها أول مجلة نسائيّة في المشرق العربي كلّه فحسب؛ بل كانت مجلّة تقدّمية بكلّ ما في الكلمة من معنى، إذ أحدثت ثورة في نظرة المجتمع نحو المرأة.
وقد كتبت ماري عجمي في افتتاحية العدد الأول من (مجلّة العروس):
"إلى الذين يؤمنون أنّ في نفس المرأة قوّة تميت جراثيم الفساد، وأنّ في يدها سلاحًا يمزّق غياهب الاستبداد، وأنّ في فمها عزاءً يخفّض وطأة الشقاء البشري، إلى الذين لهم الغيرة والحميّة، إلى الذين يمدّون أيديهم لإنقاذ بنات جنسهم من مهاوي هذا الوسط المشوّه، أقدّم مجلّتي".
حوت (مجلّة العروس) مقالات وأبحاث قيّمة تعالج المشكلات الاجتماعيّة والتربوية، وتدعو إلى الأخذ بالعلم والوعي الوطنيّ للنساء والرجال معًا، مطابةً إيّاهم الذود عن الوطن والتمسّك باللغة العربيّة.
ومن الأسماء التي كتبت في مجلة العروس: جبران خليل جبران، عباس محمود العقاد، فارس الخوري، إلياس أبو شبكة، إبراهيم عبد القادر المازني، أحمد شوقي، معروف الرصافي وغيرهم، ومن الموضوعات التي تضمنّها العدد الأول: "المستشفى في البيت، طعم المساء، خطرات أدبية..".
قُسّمت المجلّة بعد فترة إلى ثلاثة أقسام: "قسم للتاريخ وآخر للأدب وثالثٌ للفكاهة وشؤون البيت وتمريض الأطفال"، وفي عام 1913 تطوّرت المجلّة تطوّرًا نوعيًّا وفنيَّا، فاتّسعت موضوعاتها وكبر حجمها وزاد عدد صفحاتها واستمرّت في تطوّرها حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى فتوقّفت عن الصدور، لكنّها عادت إلى الظهور عام 1918 واستمرّت حتى عام 1925 ، وتميّزت المجلّة في تلك الفترة بالطابع الأدبي؛ لأنّ صاحبتها أديبة وشاعرة، فكثرت فيها القصائد والقصص، وأخذ يكتب فيها مشاهير الأدباء والمفكّرين من بلاد الشام؛ لكنّها ظلّت تركّز على الموضوعات النسائية حيث كثرت فيها النصائح الزوجية والبيتيّة، والملاحظات الخاصّة بتربية الأطفال وإعداد الطعام واختيار الملابس.
كتبت ماري في قضايا اجتماعيّة حسّاسة بجرأة تُحسب لها في ذلك الوقت؛ وذلك في سبيل تكوين ثقافة مجتمعية تتعامل معها السيدات بلا حرج أو خجل، فحثّت الأمهات على تثقيف بناتهن وتنبيههن إلى أنوثتهن، وإلى التغيرات البيولوجية التي تحدث للفتاة عند بلوغها.
كما شجعتهن أيضًا على تربية بناتهن تربية سليمة، ولفتت أنظارهنّ إلى كيفية التعامل معهن في سن المراهقة، وفي المقابل توجهت بخطابها نحو الآباء كي يكونوا سندًا لأولادهم الذكور في المرحلة ذاتها، لتحمل دعوتها القائمة على تقويم سلوك المراهقين؛ نظرة تقدميّة سوسيولوجية في فترة لم تكن العلوم الإنسانية فيها ذات شأن في العالم العربي، مما يعكس اطّلاعها الواسع على الحضارات الأخرى والعلوم التي حقق فيها الغرب تقدمًا، فجاءت آراؤها تقدمية تحمل نظرة استباقية للعصر الذي تعيش فيه.
لم تستطع (مجلّة العروس) تجاوز سنوات الحرب الصعبة؛ إذ توقّفت عن الصدور عام 1914 عند اندلاع الحرب العالميّة الأولى وبسبب أزمة الورق؛ لتعود للظهور عام 1918، وخلال السنوات التي توقفت فيها المجلّة عن الظهور، لم تتوقّف ماري عجمي عن نشاطاتها وخدمة بلدها؛ فعادت مجدّدًا لمهنة التدريس من خلال معهد أنشأته ورعته بنفسها، ودأبت فيه على غرس الحسّ الوطني الصحيح في صدور الطالبات، وتوجيههنّ الاتجاه القويم، كما حاولت أن تغرس في نفوس الفتيات اليافعات بذور مناهضة الاستعمار.
أسّست مع نازك العابد النادي النسائي الأدبي، ثمّ جمعيّة نور الفيحاء، ومدرسة بنات الشهداء، كما انتُخبت عضوًا في الرابطة الأدبية التي أسّسها خليل مردم بيك وكانت المرأة الوحيدة فيها، قالت في افتتاح النادي النسائي الأدبي:
"إصلاح البلاد لا يتمّ ما لم يوجد التوازن بين الجنسين في العلم والمعرفة؛ ليتعاونا معًا في الوصول إلى مركزهم العلمي، إنّ صرخة النساء في طلب المساواة طبيعية لا مناص منها، وبرهاني على ذلك يقتضي الرجوع إلى التاريخ؛ فإن قلّبتم صفحاته ترون الأمومة أقدم عهدًا من الأبوّة".
وقد أثارت ماري قضايا لم يسبقها أحدٌ إليها؛ حيث دعت إلى دعم الاقتصاد المحليّ وتشجيعه، والاعتماد على المنتوجات المحليّة، ولها موقفٌ جريء لم يكن معتادًا ممّن ينتمون إلى المدينة في ذلك الوقت، تجلّى في دعم العامل والفلاح، وقد كتبت قصيدتها (أمل الفلاح) التي تعبّر عن موقفها ذاك؛ لتنال ماري عجمي الجائزة الأولى من الإذاعة البريطانية عام 1947.
نضالها الوطنيّ والسياسي
يذكر جوزيف زيتون في مدوّنة أعلام أرثودكسيون؛ أن ماري اقتحمت في أحد الأيام مقرّ الحاكم جمال باشا، وحظيت منه بمقابلة وناقشته في أمور كثيرة، وعلى رأسها المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين لديه، وخرجت من عنده لتكتب مقالة وصفت الرجل وما جرى بينهما، يذكر زيتون أنّ ذلك المقال أوشك أن يقودها إلى السجن وربّما الموت، وكان ذلك كلّه في سبيل إطلاق سراح خطيبها المعتقل (بيترو باولي) ورفاقه، وقد استطاعت من خلال المال الذي كانت تدفعه لحرّاس السجن أن تزور خطيبها وتوصل رسائل بعض المعتقلين إلى ذويهم، ولم يثنيها الخوف عن مساعيها ومطالبها بإطلاق سراح المعتقلين، فلجأت إلى البطريرك الأرثوذكسي غريغوريوس الرابع، ليتوسّط للأحرار المعتقلين عند جمال باشا ليعفو عنهم ويوقف المحاكمات بحقّهم.
وحين دخل المستعمر الفرنسي سوريا واجهته ماري عجمي بالروح الوطنية الرافضة لكلّ إرادة خارجية، وقد أدلت بالشهادة الآتية بعد دخول الفرنسيين دمشق:
"بعد أيام قليلة انقضت على استيلاء فرنسا على دمشق، جاءني شرطيّ برقعةٍ يدعوني فيها رئيس الوزراء الجديد إلى اجتماعٍ أراد عقده، فكتبتُ عليها كلمة (تبلّغت) وأبيتُ أن ألبّي الدعوة، وبعد انعقاد الاجتماع، سألتُ عن القصد منه، فقيل لي أنّ مدير إدارة المطبوعات الفرنسية خطب في الحضور وهم من الكتّاب، وعلّمهم كيف يكتبون، ووزّع عليهم ورقًا بلا ثمن، ووعدهم بالمساعدة، ولم يمرّ ردحٌ طويلٌ على ذلك، حتّى طفق أحد معارفي يتردّد عليّ كل مساء محاولًا إقناعي بأنّني إذا هتفت لفرنسا وأنشأت الفصول معدّدة الإصلاحات التي تقصد والتي قام الانتداب علينا من أجلها فزتُ بأجرٍ شهريّ ضخم من الذهب الوهّاج، وفاجأته يومها بقولي: ما هي تلك الإصلاحات التي تريد أن أكتب عنها؟ قال: عليّ أن آتيك بقائمتها مرّة بعد أخرى، وعليكِ إقناع القوم بها شفاهًا وخطابةً وكتابةً، قلت له: لِتنجِز فرنسا أوّلًا ما تعدنا به من إصلاحات؛ فأترنّم بذكرها مجّانًا، وكان جوابي هذا له آخر عهدي به".
شكل اسم ماري علامة فارقة ومميزة في مسيرة النهضة، تمتعت بالأصالة في فكرها والانفتاح على ثقافة الآخر من دون أن تتخلى عن جذورها، فها هي تفضح دور مدارس الانتداب في محو التاريخ والهوية الوطنية: "لا شكّ أن هذه المدارس أرقى من المدارس الوطنية، لكنها لا تفرّق بين مصلحتنا ومصلحتها، فهي تعلّمنا لغة وتاريخ بلادها، وتثير احترامنا لتقديس راياتها، وتضع في أفواهنا نشيدًا وطنيًا لبلاد لم تقع أعيننا عليها، ولا أزال أذكر كم بكيت في طفولتي على الملكة فكتوريا يوم حضرتها الوفاة إذ رأيت الدموع في عينيْ معلمتي".
أكدت ماري من خلال قلمها وخطاباتها ومواقفها السياسية وعيها بأهمية المثقف ودوره في تأكيد قيم التحرر من الاستعمار وفضح زيف طروحاته عن الحرية والإخاء والمساواة، فقد دافعت عن حق بلدها بالاستقلال، تقول: "من ذا الذي يقول إننا أمة لا يليق بها أن تُمنح الاستقلال، لا تعرف أن تحكم ذاتها بذاتها؟ واأسفاه! حتى الآن لا تزال الأغراض تلعب بنا، والضعف يكم الأفواه، والتحزبات تمثل بنا، فلنسدل على الماضي حجابًا كثيفًا، ولنعمل معًا على إحياء الوطنية في قلوب أبناء سورية وبناتها، لأنه إذا استولت علينا فرنسا لا تجعلنا فرنسيين، ومحال إن حكمتنا بريطانيا أن نصير بريطانيين".
لقد أكّدت ماري عجمي قبل مئة عام أنّ تلك الأمّة التي هان على أبنائها بذل الدماء، لا يصعب عليها الانتصار في ميادين العمل، وقد حثّت الشعب مرارًا وتكرارًا في كتاباتها وخطبها على النهوض لمواجهة الاستبداد والظلم الاستعماري في فترة عصيبة عاشتها سوريا وما تضمّنته تلك الحقبة من محاولات لطمس الهوية الوطنيّة.
آراء بعض الأدباء والشعراء في ماري عجمي
قال عنها الشاعر والأديب أمين نخلة: "لا أعرف في الأقلام النسوية قلمًا كالذي تحمله ماري عجمي، فهو شديدٌ شدّة أقلام الرجال، لطيفٌ لطف أقلام النساء في آنٍ معًا، ولعمرك هيهات أن يجتمع النساء والرجال على شمة واحدة اجتماعهم في أدب ماري عجمي".
أمّا خليل مردم بك فقد قال فيها: "لا أحبّ من غواية المرأة إلّا غوايتها في الأدب، وأكثر ما يعجبني من أدب المرأة هو سحر الحياء، وهذان المعنيان ماثلان في الآنسة ماري عجمي وفي أدبها، لقد أعطى الله هذه السيّدة موهبةً شعرية نادرة ولو أنّها تفرّغت لنظم الشعر ولم تصرف جلّ وقتها في التدريس والترجمة والمجلّة لتركت ديوانًا ضخمًا".
آراؤها في الحرب وما أطلقت عليه "النهضة النسائيّة المزعومة"
نشرت ماري عجمي مقالات لافتة في مجلّة الثقافة السورية، وهي واحدة من الإصدارات الثقافية المتميّزة خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا؛ إذ تركت بصمةً في الساحة الثقافية السورية على الرغم من أنّ فترة ظهورها لم تتجاوز خمسة عشر شهرًا واقتصرت على عشرة أعداد فقط، وكان عنوان مقالها الأول في مجلّة الثقافة السورية: النهضة النسائية في سوريا ولبنان؛ وقد تحدّثت فيه عن الجمعيات الأدبية في سورية ولبنان التي تبنّت أهدافًا متقاربة تتلخّص في نشر روح جديدة في شتّى نواحي الحياة الاجتماعية؛ لكنّ ماري تطرح سؤالًا في مقالتها تلك عن الفائدة التي نتجت من مساعي تلك الجمعيات بعد سنينٍ عشر مرّت على ظهورها، وإلى أيّ حد استطاعت هذه الجمعيّات أن ترفع مستوى المرأة الأدبي؟ ومقدار الإصلاح الاجتماعي الذي أحدثته.
تبدي ماري عجمي ألمها من النهضة النسائيّة الموهومة في زمنها والتي أصبحت محطّ سخرية أديبات الغرب اللواتي يأتين سائحاتٍ إلى بلادنا ويطلبن اللقاء بزعيمات النهضة النسائيّة للاطّلاع على مستواهنّ العلميّ ودرجة الوعي لديهنّ
ترى ماري عجمي أن تلك الجمعيات اكتفت بترديد الأقوال، ولم تستطع تجاوزها إلى العمل، وهي وإن اعترفت بأنّ المرأة نهضت من موضعها، لكنّها مع هذا لم تحقّق غرضًا من أغراض النهضة النسائية، كما وجّهت ماري نقدها إلى القائمات على تلك الجمعيات، فهنّ حريصات على بعض المظاهر الشكليّة أكثر من حرصهنّ على الأهداف والغايات المعقودة على هذا النوع من الجمعيات، وتتساءل عن الغاية من جمع الكتب وتكديسها في مكتبات الجمعيات، إن كان ما يُقرأ منها الروايات فقط، إضافةً إلى الحفلات التي تلقي الخطيبات فيها الخطب الباردة والتي لا تعدو كونها أكثر من تكرار لما كُتب في الصحف التي يطالعنها بين الحين والآخر، وترى ماري عجمي أنّ سبب توقّف عمل الجمعيات النسوية عند هذا الحدّ بحسب بعض المفكرين؛ الأخلاق السلبية التي يتّصف بها كلّ من الرجل والمرأة في سورية على حدّ سواء، وأنّ أثر هذه الأخلاق في المرأة ما يزال أقوى منه في الرجل؛ فالمرأة السورية قد توافقك على الفكرة الفلسفية والعلمية وتؤمن بضرورة عملها، لكنّها سرعان ما تتردّد وتحجم عمّا تطمح إليه بعامل الجبن أو الكسل أو الجهل.
وترى ماري أن جهل جماعات النساء بالطريق إلى تحقيق أغراض جمعياتهنّ؛ قد يكون أكبر العوامل التي وقفت بهنّ بعد صرف عشر سنوات في المناقشات التي لا طائل منها، لأنّك إذا بحثت بينهنّ مثلًا عن حاملات شهادات الطب والأدب والصيدلة والحقوق والفنون القادرات على التعمّق والإفاضة، لا ترى لهنّ أثرًا في هذه الجمعيات إلّا حين يُدعين إلى إلقاء كلمة؛ لأنّ هذه الفئة لم تَجُد حتّى اليوم على هذه الجمعيات بشرف انتمائهنّ إليها، ولا هنّ يأبهن لتأليف جمعيات خاصّة بهنّ؛ يتذوقن فيها لذّة التفاهم ويعملن في صبرٍ وتأنٍّ على إبراز أعمالهنّ بدقّة وإتقان لينتجن شيئًا، على نقيض ما نرى من النهضات النسائية في العجم وفي الهند وفي تركيا، تلك الأقطار الشرقية التي تسير المرأة المثقّفة بجماعتها وفق فكرة فلسفية أو وفق غاية معيّنة تطمح بها إلى مثلٍ أعلى تضعه نصب عينيها وتبذل قصارها في بلوغه، بالرّغم ممّا تلاقيه من عنتٍ وإجهادٍ ومشاقّ إلى أن يقيّض الله لها أسباب التوفيق.
ثمّ تبدي ماري عجمي ألمها من النهضة النسائيّة الموهومة في زمنها والتي أصبحت محطّ سخرية أديبات الغرب اللواتي يأتين سائحاتٍ إلى بلادنا ويطلبن اللقاء بزعيمات النهضة النسائيّة للاطّلاع على مستواهنّ العلميّ ودرجة الوعي لديهنّ، وحين يشرعن بإلقاء الأسئلة فإذا بهنّ ـ زعيمات النهضة النسائيّة ـ يجهلن تاريخ دينهنّ وبلادهنّ وحتّى أسماء الجبال التي تحيط ببلداتهنّ ويشرفن عليها من نوافذ منازلهنّ!
كثيرًا ما تنقلب تلك الجمعيات الأدبية كما ترى ماري إلى جمعيّاتٍ خيريّة وليس من عجبٍ في ذلك؛ لأنّ الجمعيات الخيريّة في سورية ولبنان ناجحة لسهولة تأثّر الناس بالدعوة إلى التصدّق، وصعوبة تأثّرهم بالدعوة إلى فكرة علميّة أو أدبيّة؛ ولأنّ الجود بالمال أيسر على أمثالنا من الجود بالأدب.
ثمّ تخلص ماري إلى نتيجة مفادها: أنّ الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي من جمعيّة لا تقدر أن تتلمّس إليه طريقًا غير الذي ترشدها المبشّرات الأجنبيات إليه؛ هي دعوة فاشلة وغير مثمرة، لذا ترى عجمي إنّ هذه الدعوات الملقّبة بالنهضة النسائية كلّها ما تزال ضعيفةً خائرة لضعف القائمات بها ولخور عزائمهنّ، ولأنّ أكثرهنّ ينتحي بها طريق الشهرة لا طريق التضحية والنكران والمغامرة بالوقت والدرس والمفاداة بالمال والنفس.
وستبقى هذه الدعوات برأيها مجرّد صرخاتٍ في وادٍ إلى أن تتحسّس المثقّفات ضرورة تغذيتها ودعمها بروح العلم وميزات العقل تحقيقًا للغاية منها، وإلى أن يتناولن بذورها ليغرسنها في حقول سورية ولبنان متعهّدات بحرث منابتها وسقيها وتنقيتها لتغدو أزهارها حيّة نامية، لا مجرّد أزهار تُوضع في الآنية أيّام الحفلات لتذبل في الغدّ.
في مقالةٍ أخرى لماري عجمي عن الحرب والمجد تتضّح لنا أبعاد رؤيتها الإنسانية وعداءها للحروب وتحقيق الأمجاد عبرها؛ إذ تعتبر الحرب امتهانٌ لكرامة الإنسان وسلوكٌ وحشيّ يتساوى فيها القاتل والبطل، فليس هناك أيّ فرقٍ يُذكر بين فرعون ونيرون وتيمورلنك الذين وصمهم التاريخ بالوحشية وبين الاسكندر وبونابرت ممّن أثنى التاريخ عليهم وجعلهم أبطالًا؛ لأنهم برأيها بحثوا عن مجدٍ زائل وقادتهم أوهامهم إلى مزيدٍ من الموت والقبور للبشرية التي تترنّم بأناشيد الموت وهي تحسبها ألحان الحياة.
كما أنّ كلّ ما أحرزه نابليون من نصر في موقعة (أوسترليتز) لا يوازي خسارة إنسان لحياته، ثمّ تتابع قائلة: "لا أرى في العالم إلّا شرائع الدمار ووسائط الخراب، إنّ حفلةً تعقد لترقية المدارس هي خير لدى العقلاء من تأليف أسطول انجليزيّ ثانٍ، وعمل باستور في العالم هو أشرف وأفضل من عمل جميع أبطال العالم وفاتحيه".
وفاتها
توفّيت ماري عجمي في دمشق يوم عيد الميلاد عام 1965 عن عمر ناهز 77 عامًا بعد أن عاشت نهاية عمرها في عزلة بسبب المرض، ويصف أحد الأدباء الأصدقاء جنازتها بألم:
"ماتت ماري عجمي من دون ضجيج أو جلبة حتّى أنّه لم يرافقها إلى المقبرة سوى 16 شخصًا من أقاربها ليس بينهم أديب إلّا فؤاد الشايب".