الخبر هو أنَّ ثلاثة وثلاثين طالبًا من أقارب قادة المخابرات السورية فازوا بالعلامة التامة، والخبر ليس في قلة العدد أو كثرته، وإنما في أن 24 طالبًا ممن حصلوا على العلامة التامة، من ساحل البحر السوري وقلعة النبوغ العسكري والعلمي والثقافي، والتفوق هو في الوثب على حاجز البكالوريا، وليس في سباحة البحر فراشة أو كنغر أو في سباق صيد المحار وقناديل البحر، والذي صار حاجزا طيارًا في عهد الأسد الابن، مع أن ترتيب اللاذقية في السكان هو الخامس عددا، وطرطوس هو العاشر، فإما أن الفائزين الأوائل فئة تسهر الليالي وهي تطلب العلا، أو أنهم نوابغ بالفطرة والغريزة الأساسية.
وطار خبر فوز ثمانية طلاب في اللاذقية في قاعة واحدة بالعلامة التامة في سماوات وسائل التواصل، وكان كاتب السطور يزور طرطوس في سنة مصرع باسل الأسد، ففوجئ بثلاث مفاجآت زائد واحد، أولها التقدم العمراني وكثرة الفيلات فيها، والثاني اتشاحها بعلامات الحداد والحزن والسواد، حتى إنَّ كل شرفة كانت ترفع عبارة حداد أو صورة لفقيد الوطن، كأنَّ أصحابها يتنافسون في إظهار حزنهم عليه، أو أنهم حزانى مكلومون عليه حقا وفعلا في الوقت الذي كانت صوره في المحافظات البرية تنتشر على المباني الحكومية وبيوت المسؤولين فقط. والثالث أنَّ ناشرًا، وكان فيها دور نشر كثيرة تطبع كتبًا رديئة، محلية التأليف في القصة والشعر الحديث، أخبرني أنَّ طرطوس هي الأولى في التفوق الدراسي على المحافظات لعدة سنوات متتالية، فزادني علمًا حازه خاسر.
يتصل بهذا ابتداع تشبيحي في العلم استحدثه مؤسس دولة التشبيح الجامعي حافظ الأسد، وهو العلامات النضالية، فمنح الحاصلين على دورة صاعقة خمسًا وعشرين علامة صافية. تسلل بها المظليون إلى كليات الصف الأول والثاني في سباق التحصيل والسؤدد، أما سبب وصفنا كليات الطب والهندسة بالصف الأول والثاني فهو تصنيف استعماري طبقي رغب فيها الاستعمار قبل مئتي سنة، تصريفًا للطلبة عن العلوم الإنسانية التي تطلع الطالب على التاريخ والآداب، وتبني الوجدان، وتصقل المشاعر، وتشغله بعلوم يملأ بها جيبه لا عقله.
بعد ثلاثين سنة من حكم الأسد خرج وزير تعليم سوري مصرحًا أنه سيجعل الجامعة حلمًا لا يطال، فانتشرت الجامعات الخاصة، وكان ذلك تأبينًا للاشتراكية التي لم تعد تذكر قط سوى في الاجتماعات الحزبية السرية
وكان من أسباب إفساد التعليم السوري اتّباع الأسد سياسة الاستيعاب الجامعي أول أمره برهانًا منه على تقواه البعثية، التي تذكّر بسرير بروكست، فحول الجامعة إلى ثكنة عسكرية، يرتدون ثيابا موحدة ويدخنون دخانا وطنيا، فامتلأت القاعات بمئات الطلاب العابرين حاجز البكالوريا العالي بمظلات ومن غير مظلات، يتزاحمون حول رؤية جهاز أو شريحة عرض، ويتصارعون حول مجهر، ويعلّمهم مدرّسون غلاظ أشد من الجنرالات، فاكتظت قاعات الدرس بأعداد هائلة من الطلاب يعانون من انخفاض صوت المدرس، أو قسوته، وبعد ثلاثين سنة من حكم الأسد خرج وزير تعليم سوري مصرحًا أنه سيجعل الجامعة حلمًا لا يطال، فانتشرت الجامعات الخاصة، وكان ذلك تأبينًا للاشتراكية التي لم تعد تذكر قط سوى في الاجتماعات الحزبية السرية، والتي كفّت التلفزيونات ووسائل الإعلام الرسمية والرديفة عن ذكرها خجلًا من التحولات الكونية والإخفاقات النظرية والإيديولوجية حتى في العواصم التي ظهرت فيها إيدولوجيات البعث والاشتراكية.
تتناقل الأنباء أخبار سوريين ومصريين يحوزون علامات متفوقة في المهاجر والمنافي، كتفوق المصريين في الكويت، والسوريين في ألمانيا، وقد غدا السوريون جالية كبيرة في ألمانيا يبلغ عددها المليون نسمة، ويعزى سبب تفوق السوريين إلى طبع موروث من الأسلاف وحض الأجداد لهم على العلم، وقد تكون قلة الموارد وجفاف سوق العمل وقلة فرص العمل في عهد الأسد سببا آخر، فالألمان مثلًا يفضلون تعلم مهنة حرفية على قضاء سنوات طويلة على مقاعد الدرس.
تقول الوقائع إن النظام كان يجلّ العلم ظاهرًا ويحتقره باطنًا، وأول علامات هذا الحكم تردي حال المعلم الذي كانت الشعارات تقدره على الحيطان وتذله في الواقع، وأن خريجي الجامعات كانوا يذلون ويهانون في العمل من خلال وظائف غير مناسبة للعلوم التي درسوها، وكان لقب الأستاذ عارًا يستوجب العقاب في الجيش، فأغلب الضباط صاعدون من أسفل السلّم التعليمي ولهم ثأر من المعلمين القساة، وقد أباد الأسد جيلًا من الآباء العلماء، فوجدنا أنفسنا جيلًا بلا آباء، يعلمنا رعيل من المعلمين الجهلاء، جرى نشرهم في المحافظات على خطوط العقل والوجدان.
الأمر الرابع في مفاجآت طرطوس وهو كثرة الحاصلين على شهادة الدكتوراه وكلها من الاتحاد السوفييتي الصديق أو دول روسيا الاتحادية، الذي كان كريمًا في بيع الشهادات في عهد الاتحاد السوفييتي والاتحاد الروسي، فكنت أجد لوحات البيوت والشقق تحمل ألقاب أصحابها العلمية، وكان آخرها شهادة الماجستير لحافظ بشار الأسد، وكان سعر المادة عشرين دولارًا في سنة 2000، أما في الثمانينيات، فكان يمكن شراء مادة علمية بربع ليرة، علبة شكلتس، أما بنطلون الجينز، فكان مركبة فضائية إلى أمجاد اللقب العلمي.
الفروسية والرياضيات، فتحتكرها عائلة الأسد، التي اختارت الفروسية مضمارا لميداليات الذهب، لسببين، هو أن نصف جهدها يقع على عاتق الفرس، وأن مضامير المجد الأخرى مثل السباحة وكرة القدم والسلة وألعاب الجمباز يصعب فيها غش الجمهور والمتسابقين
تقدر نسبة ضباط الفئة الحاكمة بخمس وتسعين بالمئة، تشوب ببعض أسماء من باقي الفئات، ونسبتهم في الصحافة والإذاعة والتلفزيون والتمثيل والقضاء مماثلة، أما الفروسية والرياضيات، فتحتكرها عائلة الأسد، التي اختارت الفروسية مضمارا لميداليات الذهب، لسببين، هو أن نصف جهدها يقع على عاتق الفرس، وأن مضامير المجد الأخرى مثل السباحة وكرة القدم والسلة وألعاب الجمباز يصعب فيها غش الجمهور والمتسابقين.
بلغ معدّل تفوق أبناء الأكرمين في هذه السنة اثنين وسبعين بالمئة من عدد الطلاب السوريين الكلي، وهي نسبة كبيرة، لكنها تبقى أقل من نسبة فوز الرئيس السوري بالبيعة.
وقد ردّت هيئة التميز والإبداع على إنكار الناقدين والحاقدين والحسّاد تقدم حافظ بشار الأسد للماجستير في هذه السن المبكرة، التي لم تجاوز 22 سنة، ففندت دعاوى الساخرين من فوزه، وزعمت أنه كان يحرق المراحل ويطويها مثل أبيه، وجده. ولم تعلل هيئة التمزق والإبداع فوز الثمانية من أبناء الأكرمين في قاعة واحدة، ولن ترد، فإن هي إلا سخريات عابرة على وسائل وتمضي. فما تلبث سنوات حتى يتحول أبناء الأكرمين الحاصلين على علامات تامة إلى قضاة يحكمون بالعدل أو أطباء يواسون المرضى أو مهندسين يزينون ليالي سوريا بمصابيح النور، أو يبنون الجسور بين أبناء الشعب الواحد.