قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا بأيام، حذّرت واشنطن من أن العقوبات التي ستفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على موسكو، في حال قرر الرئيس فلاديمير بوتين الهجوم على أوكرانيا، ستجعل من روسيا "دولة منبوذة"، إضافة لعزلها عن الأسواق المالية الدولية وحرمانها من المُدخلات التكنولوجية الأكثر تطوّراً. لكن بوتين لم يعر اهتماماً، وأعلن في 24 شباط/فبراير الماضي، عن بدء عملية عسكرية، متذرعاً بأن الإجراء يهدف للرد على التهديدات القادمة من أوكرانيا.
سارت الرياح الأوروبية والغربية عكس ما تشتهي سفينة بوتين، فتعرضت البلاد ومسؤولوها لعقوبات اقتصادية وعزلة دبلوماسية، وقطيعة دولية على مختلف المستويات، بما فيها الرياضية، ومما زاد الأمر صعوبة على موسكو، سير العملية العسكرية ببطء، وتكبد خسائر بالمعدات والأرواح على يد الجيش الأوكراني.
خسائر للجيش الروسي.. إخفاق وسوء إدارة
أصبح من المعتاد خلال الأسبوع الماضي، انتشار مشاهد وصور لدبابات وعربات مدرعة روسية مدمرة في شوارع القرى والمدن الأوكرانية، كما هو حال جثث أفراد الجيش الروسي، أو الأحياء منهم ممن وقع في الأسر.
وبينما لم تعترف وزارة الدفاع الروسية، سوى بمقتل 498 من جنودها، وإصابة نحو 1600 آخرين خلال العمليات العسكرية في أوكرانيا؛ أعلنت رئاسة هيئة الأركان الأوكرانية عن قتل قرابة 9 آلاف جندي روسي.
وأعلنت هيئة الأركان، اليوم الجمعة، أن الجيش الأوكراني دمّر 33 طائرة و37 مروحية و251 دبابة و939 مدرعة و105 مدافع وزورقين سريعين خفيفين، و50 منظومة إطلاق صواريخ و404 مركبات و60 عربة وقود و18 منظومة دفاع جوي و3 طائرات مسيرة.
❗Загальні бойові втрати противника з 24.02 по 04.03 орієнтовно склали: pic.twitter.com/COs3LbWiJt
— Defence intelligence of Ukraine (@DI_Ukraine) March 4, 2022
وبحسب شبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية، فإن وكالات الاستخبارات الأميركية ترى أن بوتين يشعر بالإحباط المتزايد والغضب بعد غزو بلاده لأوكرانيا، ويعتقد أن خياره الوحيد هو مضاعفة العنف، كما نقلت عن مسؤول أميركي سابق واثنين من المسؤولين الحاليين قولهم إن الولايات المتحدة لديها معلومات استخبارية قوية تفيد بأن بوتين محبط ويوجه نوبات غضب غير معتادة على الأشخاص في دائرته المقربة بسبب حالة الحملة العسكرية والإدانة العالمية لأفعاله.
وتكلّفت روسيا خلال الأيام الـ 5 الأولى من الهجوم 7 مليارات دولار، وهي خسائر مباشرة ناتجة عن العملية، بما فيها خسائر القطع الحربية والجنود، ويرجح أن تزداد تكاليف العملية على روسيا مع اتساع نطاق التدخل العسكري، لتتجاوز الكلفة اليومية 20 مليار دولار، بحسب شركة "Consultancy" للاستشارات الإلكترونية. ويتطابق الرقم إلى حد كبير مع دراسة مشتركة لمركز الانتعاش الاقتصادي (مقره لندن) وشركة سيفيتا للاستشارات الإدارية (مركزها تارتو في إستونيا) ومركز إيزي بيزنس للأبحاث (مقره كييف)، خلصت إلى أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تكلف موسكو ما بين 20 و25 مليار دولار.
ويعتقد خبراء أميركيون أن الغزو الروسي لأوكرانيا كان خطأ استراتيجياً وتكتيكياً، ويمكن أن تؤدي الإخفاقات بموسكو المحبطة لإطلاق العنان لكل قوتها وتدمير مساحات شاسعة من أوكرانيا بشكل عشوائي.
وأشار المختصون الأميركيون الذين درسوا الجيش الروسي لسنوات إلى أنهم فوجئوا بسوء إدارة الحملة العسكرية الروسية، التي فقدت على ما يبدو مئات المركبات المدرعة، بينما تمكّن الأوكرانيون من منع القوات الجوية للكرملين من السيطرة الجوية، وفقاً لما نقلت "فرانس برس".
وأفاد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، بأن الروس لم ينسقوا بشكل جيد فيما يبدو قدراتهم الكبيرة والمتنوعة أو يديروا اللوجستيات للغزو، إذ قال: "نشهد دلائل في وقت مبكر على أنه على الرغم من امتلاكهم قدرات أسلحة معقدة، إلا أنهم ليسوا بالضرورة مندمجين بالكامل"، و"نشهد مركبات مهجورة، ومشكلات في الإمداد ليس فقط في الوقود ولكن في الغذاء كذلك".
عقوبات ترهق الكرملين والاقتصاد الروسي
على خلفية غزو أوكرانيا، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته، سيرغي لافروف، والدفاع، سيرغي شويغو، إضافة لرئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، والنائب الأول لوزير الدفاع، والجنرال في الجيش فاليري جيراسيموف، وأعضاء آخرين في مجلس الأمن الروسي.
من جهتها أقرت دول الاتحاد الأوروبي بالإجماع، تجميد أصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته سيرغي لافروف، في دول الاتحاد، فيما فرضت المملكة المتحدة عقوبات تشمل تجميد أصول بوتين لإصداره الأمر بشن غزو على أوكرانيا، وكذلك وزير خارجيته لافروف، الذي قالت إنه "صانع قرار رئيسي في الحكومة الروسية".
وأوردت صحيفة "ذا إيكونوميست" البريطانية أن الخطوة الكبيرة حقاً، كانت استهداف "البنك المركزي الروسي" قلب روسيا المحصن بالعقوبات، خصوصاً أنه يمتلك احتياطيا أجنبيا يقدر بـ 630 مليار دولار، ما يعادل 38% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2021، كما نقلت المجلة عن مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أنهم يعملون مع أوروبا لمنع البنك المركزي من استخدام هذه الاحتياطيات للتخفيف من تأثير العقوبات الغربية.
وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون در لاين، أنه سيتم عزل بنوك روسية معينة من نظام "سويفت" العالمي في الـ 12 من آذار الجاري، حيث سيتم تجميد أرصدة البنك المركزي الروسي "بهدف منعه من الوصول إلى احتياطياته، كما سيُحظر الأثرياء الروس من استخدام أصولهم المالية في أسواق الاتحاد الأوروبي".
وتستخدم البنوك نظام شركة "سويفت"، التي تتخذ من بلجيكا مقراً لها، لإرسال ملايين التعليمات يومياً لدعم تريليونات الدولارات من المدفوعات سنوياً في التجارة الدولية.
وأدت العقوبات إلى انخفاض سعر صرف الروبل مقابل اليورو إلى أدنى مستوى على الإطلاق ليسجل 125 روبل مقابل اليورو، ذلك في حين قال خبير اقتصادات الأسواق الناشئة في كابيتال إيكونوميكس، ليام بيتش، لشبكة "سي إن بي سي"، إن "تشديد العقوبات الغربية، إلى جانب تشديد الأوضاع المالية واحتمال حدوث أزمة مصرفية، يعني أن الاقتصاد الروسي من المرجح أن يشهد انكماشاً حاداً هذا العام".
وأشار إلى أن السيناريو الأسوأ بالنسبة لروسيا هو فرض عقوبات دولية على تدفق النفط والغاز، الذي يمثل نحو نصف جميع صادرات السلع وثلث الإيرادات الحكومية.
وبعد أن شملتهم العقوبات الغربية، اضطر أعضاء الأوليغارشية (مجموعة من الروس الأثرياء الذين برزوا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991) في روسيا، المقربين من بوتين، للمطالبة بوقف الحرب على أوكرانيا.
الرياضة كأداة للحرب
أعلن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "اليويفا"، الأسبوع الماضي، عن نقل نهائي دوري أبطال أوروبا 2022 من مدينة سان بطرسبورغ الروسية إلى العاصمة الفرنسية باريس، وذلك عقب الغزو الروسي على أوكرانيا.
بدوره حظر الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، رفع العلم الروسي أو عزف نشيده الوطني خلال المباريات التي سيُشارك بها خارج أراضيه، ومنع جماهيره من حضور المباريات.
ورفضت اتحادات بولندا والسويد وتشيكيا في بيانات صحفية، مواجهة روسيا في الملحق القاري، كما أعلن الاتحاد الإنكليزي مقاطعة كل المباريات ضد روسيا في "المستقبل القريب"، بينما دعا رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، نويل لوغرايت، إلى طرد روسيا من كأس العالم المقررة نهاية العام الجاري في دولة قطر، فضلاً عن قرارات أخرى تتعلق بالألعاب الأولمبية، وكرة المضرب.
ويعتقد الصحفي الرياضي، أحمد كريم، أن العقوبات الرياضية تشكل ورقة مهمة في يد الغرب للضغط على روسيا بعد غزوها لجارتها، ويضيف لموقع "الحرة"، أن هذه هي المرة الأولى التي تفرض فيها عقوبات رياضية "صارمة" ضد دولة لأسباب تتعلق بالسياسة على اعتبار أن المواثيق الرياضية تبقي الرياضة بعيدا عن المسائل السياسية.
وأكد أن الرياضة "قوة ناعمة" من الممكن أن "تصنع أبطالا قوميين"، وهي في الوقت ذاته "قد تجعل منك شخصاً منبوذاً، وهذا ما يحدث اليوم لروسيا من قبل المنظمات الرياضية الدولية".
عزلة روسية
لاقى الهجوم الروسي على أوكرانيا، إدانات واسعة من عشرات الدول، في حين اتخذت دول أخرى إجراءات تتمثل بطرد دبلوماسيين روس.
وأعلنت الولايات المتحدة طرد 12 دبلوماسياً روسياً في الأمم المتحدة، بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي، كما اتهمت البعثة الأميركية الدبلوماسيين الروس بأنهم عملاء مخابرات كانوا يشاركون في "أنشطة تجسس تضر بأمننا القومي".
وقررت دول أوروبية إغلاق مجالها الجوي أمام شركات الطيران الروسية، من بينها السويد وفرنسا وإيطاليا، وكندا وألمانيا وإيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا ومالطا ومقدونيا الشمالية وفنلندا والسويد والدنمارك وأيسلندا وبولندا وتشيكيا والمملكة المتحدة، وبلغاريا ومولدوفا.
الخيار الوحيد لبوتين.. استمرار الغزو
رغم الخسائر العسكرية في صفوف الجيش الروسي، والعقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت على موسكو، يستبعد محللون في الشأن الروسي أن يتراجع بوتين عن العمليات العسكرية، لما لذلك من آثار لاحقة تضر بسمعته وحضوره على مستوى العالم.
وقال الخبير بالشأن الروسي، نصر اليوسف، إنه لم يعد أمام بوتين سوى المضي قدماً لتحقيق الأهداف التي وضعها قبل إطلاق العملية العسكرية، مرجحاً أن تصعد موسكو، وتزيد الاعتماد على الضربات الجوية والصاروخية.
واستبعد اليوسف في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن تتراجع روسيا عن عمليتها بسبب الخسائر العسكرية، إذ قال إن القادة الروس لا يهتمون بكمية القتلى، ويعتمدون على مقولة "في سبيل تحقيق الهدف ترخص الأثمان".
ويرى اليوسف أن موسكو ستستمر في العملية العسكرية، وستعمل على تغيير النظام الحالي في أوكرانيا، أو إرغامه على توقيع اتفاقيات تضمن للروس تحقيق ما رسموه من أهداف، مثل جعل أوكرانيا دولة منزوعة السلاح، والاعتراف بالقرم جزءاً من الدولة الروسية، والعمل على إيجاد صيغة وسطية بخصوص لوغانسك ودونتيسك.
الباحث في الشأن الروسي، سامر إلياس، رأى أن التراجع خطوة إلى الخلف، خيار غير مفضل بالنسبة لبوتين، لكن في الوقت ذاته، سيواصل الجيش الأوكراني المقاومة، ما يعني استمرار الخسائر في صفوف الروس.
ووضع الباحث في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، عدة سيناريوهات متوقعة لما هو قادم في أوكرانيا، منها تراجع روسيا حتى منطقة دونباس، وتقول إن العملية حققت الأهداف المرجوة منها، خاصة أنها تكون بذلك قد سيطرت على محيط بحر آزوف، ما يوفر المياه لشبه جزيرة القرم، وأمنت منطقتي لوغانسك ودونتسك.
ومن الممكن أن يعمل الروس على قسم أوكرانيا إلى قسمين (شرقي وغربي)، ويتم ذلك بمواصلة العملية العسكرية للسيطرة على كييف.
لكن إلياس يرى أن بوتين خاسر في كل السيناريوهات، لأن هدفه الجيوسياسي كان إبعاد حلف شمال الأطلسي عن روسيا وإضعافه والمراهنة على خرق صفوفه، وبناء منظومة أمنية جديدة في أوروبا، إلا أن دول الحلف تكاتفت فيما بينها.
وأضاف: "حتى لو احتل بوتين أوكرانيا بشكل كامل، فإن الناتو زحف إلى حدود روسيا، وبات موقفه أقوى بكثير، ومستقبلاً، إن العقوبات المفروضة على موسكو يمكن أن تنهك الاقتصاد الروسي، إذا لم يبادر بوتين لتقديم تنازلات".
نزع أكبر تنازلات ممكنة من أوكرانيا
نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، دراسة قال فيها: "لن تثني الكلفة الباهظة للعقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الرئيس بوتين على الأرجح عن المضيّ قدماً في بلوغ هدفه المتمثل بإخضاع أوكرانيا".
ورغم أن الجيش الروسي يواجه صعوبات في أوكرانيا، من جراء افتقاده القوة البشرية اللازمة لتغطية كل مسرح العمليات الأوكراني الواسع (600 ألف كيلومتر مربع) وضعف الإمدادات اللوجستية، فإنه يبدو في وضع سيمكّنه في النهاية من السيطرة على المدن الكبرى، وتحديداً العاصمة كييف، وإن بكلفة أكبر مما كان متوقعاً، نتيجة الدعم الكبير الذي تحصل عليه أوكرانيا من دول الغرب، وفقاً للمركز.
وأشار إلى أن موسكو لن تتوقف على الأرجح قبل أن تحصل على تعهدات واضحة بأنّ الناتو لن يقوم بتوسعات جديدة على حدودها.
ويبدو أنّ الكرملين يسعى في المدى القريب إلى انتزاع أكبر تنازلات ممكنة من أوكرانيا، مثل استقالة رئيسها وحكومتها ونزع سلاح جيشها، واختيارها الحياد. لكن، وفي كل الأحوال، سيكون ثمن اجتياح أوكرانيا كبيراً على روسيا من جرّاء العقوبات غير المسبوقة التي فُرضت عليها، واحتمال دخولها في مستنقع يستنزفها سنوات، وفي ظل عدم وجود حلفاء أقوياء لها يمكنها الاعتماد على دعمهم، باستثناء الصين.