مع تركيز إدارة جو بايدن على مجابهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تحركاته ضد أوكرانيا، سعى الكرملين وبكل هدوء للاستثمار في النفوذ الروسي المتزايد في الشرق الأوسط عبر مغازلة لبنان في محاولة لتعزيز المصالح الجيوسياسية للكرملين على حساب البيت الأبيض.
ثمة نفوذ أقوى لروسيا في تلك الدولة الصغيرة التي تتميز بموقع استراتيجي على البحر المتوسط والتي بوسعها أن تقدم لموسكو ميناء جديداً وسوقاً تجارياً يساعد روسيا على التملص من العقوبات الغربية، بالإضافة إلى تحولها إلى شريك جديد يدعم الموقف الروسي على الساحة الدولية.
تعززت تلك الجهود بعد التدخل الروسي الناجح في سوريا وما تبعه من ترسيخ لنفوذها هناك، إلى جانب تدخل روسيا بعدد من الدول في شمال أفريقيا مثل الجزائر ومصر، بالإضافة إلى تدخلها في إيران والسعودية.
بالنسبة للبنان، يمكن لصادرات الطاقة الروسية التي تدفقت إلى لبنان أن تغطي مشكلات البنية التحتية الكبرى وسط أزمة اقتصادية مستمرة. ثم إن الدعم الضمني للشخصية الأكثر حظاً في الانتخابات الرئاسية، ألا وهو زعيم تيار المردة المسيحي سليمان فرنجية، قد يحرر البلد من فترة الشلل السياسي التي امتدت لفترة طويلة، إلى جانب تمتين العلاقات بين سوريا ولبنان.
في الوقت الذي قد يكون فيه هدف روسيا هو إبعاد الولايات المتحدة عن المنطقة، ماتزال العلاقات الروسية المتوترة منذ أمد بعيد مع واشنطن مصدر قلق كبير لبيروت، ولهذا تواجه موسكو العديد من العوائق التي تقف في طريق تحقيق نجاحات كبيرة في بلد يقع على مفترق طرق المصالح الإقليمية والدولية المتناحرة.
ولكن ماتزال لدى الكرملين خطة لبسط نفوذه في بلد سبق لروسيا أن ناضلت فيه كثيراً لتحقق ذلك في الماضي.
وحول ذلك يعلق جوزيف باهوت مدير معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية التابع للجامعة الأميركية، فيقول: "بالنسبة لروسيا، فإن ما تركز عليه بشكل كبير على الأقل اليوم هو الحرب في سوريا، أما لبنان فهو مجرد إضافة، أو الخاصرة الغربية التي ينبغي تأمينها حتى لا تتدخل بما يجري في سوريا".
وأضاف: "بالنسبة لاختلاف لبنان عن سوريا التي كانت لروسيا فيها على الدوام مصلحة راسخة ووجود متأصل، فإن لبنان لم يكن بحياته محوراً للنفوذ أو الوجود الروسي الذي أقر بأن هذا البلد مستقطب من قبل المحور الغربي-الأميركي، وهذا الاستقطاب يتقاسمه وجود خفي ولا غنى عنه لإيران عبر حزب الله".
غير أن باهوت يرى بأن: "هذا الأمر تغير بالتدريج على مدار الزمن.. ولهذا أخذت روسيا تبحث عن بعض المكاسب والسبل في لبنان، لاسيما خلال سعيها للتحول إلى أهم عنصر فاعل في الشرق الأوسط".
بيئة معقدة
يرى باهوت أن هنالك عدة مستويات للنفوذ الذي تسعى من خلاله روسيا لإيجاد سبيل لها في لبنان، وتشمل تلك المستويات الطائفة الأرثوذكسية التي تتعاطف على الدوام مع موسكو، ويضاف إليها مسيحيون آخرون يشعرون بإحباط وخيبة أمل تجاه الغرب، وهذا ما جعلهم يعتبرون بوتين شخصية تدافع عن دينهم، وتمثل هذه الفئة ثلة كبيرة من خريجي جامعات أوروبا الشرقية، وغالبيتهم كانوا شيوعيين، ولهذا مايزالون ينظرون إلى روسيا على أنها القوة المقابلة التي تقف في وجه الإمبريالية الغربية على حد تعبيرهم، كما أن فئة كبيرة من المجتمع السياسي اللبناني تعجبها شخصيات السياسيين المستبدين إلى حد كبير.
بيد أن ترجمة كل تلك الأمور إلى مكاسب فعلية أثبت أنه أمر عصي على مر العصور، كما أن دعم فرنجية مسألة معقدة هي أيضاً، نظراً للفوارق الضئيلة في السياسة الداخلية للبنان التي تهيمن عليها أحزاب وتحالفات متقلبة تضم في الغالب الأعم قياديين شاركوا في الحرب الأهلية المدمرة التي امتدت لخمسة عشر عاماً وانتهت في عام 1990. ومما يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً النظام الطائفي في لبنان الذي يحتم أن يكون الرئيس مسيحياً من الطائفة المارونية، ورئيس الوزراء مسلماً من الطائفة السنية، والمتحدث باسم البرلمان مسلماً من الطائفة الشيعية.
في الوقت الذي شغل فيه زعيم حركة أمل نبيه بري هذا المنصب منذ عام 1992 حتى الآن، تغير الرؤساء ورؤساء الوزراء في لبنان كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية، واعترت مشكلات كثيرة هذين المنصبين خلال السنوات القليلة الماضية. فقد أنهى مؤسس التيار الوطني الحر المسيحي، ميشال عون، فترة جمود في لبنان امتدت لعامين، عندما انتخب رئيساً للبلاد في عام 2016، بعد دعم وتأمين قدمه له حزب الله المسلم الشيعي ومنافسه حزب القوات اللبنانية المسيحي، ولكن بعد انتهاء مدة ولاية عون في شهر تشرين الأول الماضي، خلق ذلك فراغاً جديداً لم يملأه أحد حتى الآن.
وهنا كان فرنجية أحد من لمع اسمهم، بدعم من حزب الله وحركة أمل. إذ خلال المحاولة الفاشلة الأخيرة في لبنان لاختيار رئيس للبلد في شهر حزيران الماضي، حصل فرنجية على 51% من الأصوات، فأتى في الترتيب مباشرة بعد وزير المالية اللبناني السابق ومدير قسم الشرق الأوسط ووسط آسيا لدى صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور الذي حصد 59% من الأصوات.
وبعد مرور أقل من أسبوعين على ذلك، استقبل فرنجية السفير الروسي في لبنان، ألكساندر زاسبيكين، برفقة آخرين في بيته ضمن آخر سلسلة من الاجتماعات التي عقدها هذا السياسي اللبناني مع مسؤولين روس خلال السنوات القليلة الماضية.
ورداً على سؤال وجهته مجلة نيوزويك الأميركية خلال إحاطة صحفية قدمت يوم الأربعاء الماضي، أعلن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسية، أليكسي زايتسيف، بأن موقف موسكو يرى بأن الانتخابات الرئاسية أصبحت اليوم قضية محورية بالنسبة للبنان، وهي قضية أساسية لاستقرار هذا البلد على الصعيد السياسي، وأضاف: "لا نفضل شخصيات على غيرها، ولا نعتزم التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى".
وفي الوقت نفسه، أعلن زايستيف بأن روسيا تعرف فرنجية جيداً، في إشارة إلى رحلاته إلى موسكو وانخراطه مع مسؤولين روس رفيعين من أمثال وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وهذا ما دفعه للقول: "نرى بأنه مرشح يستحق الفوز بالرئاسة، إلا أن القرار قرار الشعب اللبناني، ونحن نحترم اختياره".
لدى فرنجية اهتمام أيضاً بعلاقات مع دول أخرى، إذ في شهر أيار الماضي، شارك في اجتماع مهم جمعه بسفير السعودية، تلك الدولة التي لعبت تاريخياً دوراً مؤثراً على السياسة اللبنانية في مواجهة إيران.
أتى هذا الاجتماع بعد اتفاق الرياض وطهران على إعادة العلاقات بين البلدين بوساطة صينية في شهر آذار الفائت، وفي الوقت الذي شهد فيه هذا التقارب حالة إصلاح ذات البين مع بشار الأسد قبل أيام من لقاء فرنجية بالمبعوث السعودي، بقيت شخصية الأسد مثار استقطاب في لبنان، وشخصية منبوذة علناً لدى الغرب.
علاقات عائلية بين الأسد وفرنجية
تعود العلاقات بين الأسد وفرنجية لخمسينيات القرن الماضي عندما لجأ جد فرنجية إلى سوريا وسط اضطرابات في بلده، ومن يومها أقام علاقات وثيقة مع حافظ الأسد الذي أصبح رئيساً لسوريا وذلك قبل أن يصبح فرنجية رئيساً للبنان في عام 1970، وبقي على رأسه إلى أن تطورت الأمور فيه لمرحلة الحرب الأهلية في عام 1975. بعد ذلك أصبح والد فرنجية زعيماً لتيار المردة في معقله زغرتا القريبة من طرابلس في الشمال اللبناني، فانحاز في البداية للحركات المسيحية ضد الفصائل القومية العربية ذات الغالبية المسلمة والميليشيات اليسارية في الوقت الذي اشتد فيه النزاع الطائفي في لبنان.
إلا أن الانقسامات العنيفة ظهرت في الوقت الذي استمرت فيه علاقة عائلة فرنجية مع سوريا، وتزامن ذلك مع رفض المردة الانحياز لإسرائيل وتأسيس دولة مسيحية مستقلة في الشمال اللبناني. وهذا الانشقاق الكبير أدى لحدوث مجزرة إهدن المريعة في عام 1978 والتي كان فيها والد فرنجية وأمه وشقيقته التي كان عمرها ثلاث سنوات من بين الأربعين ضحية الذين قتلوا في غارة استهدفت قصر عائلة فرنجية ونفذها فصيل تحول إلى ما يعرف اليوم بحزب القوات اللبنانية.
حافظ الأسد والرئيس اللبناني السابق سليمان فرنجية في أول زيارة لرئيس سوري للبنان بعد 18 عاما من القطيعة تاريخ الصورة: 17 كانون الثاني 1975 أي قبل ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب الأهلية بلبنان
فر فرنجية الصغير الذي كان في بيروت وقت وقوع المجزرة إلى سوريا كما فعل جده قبله بسنوات، وتابع هناك تمتين علاقته بعائلة الأسد، وعندما قامت الحرب في سوريا عام 2011، دعم فرنجية بشار الأسد علناً، بعدما تلقى الأخير دعماً من حزب الله وإيران وروسيا منذ بداية الحرب، ثم تدخلت روسيا عسكرياً فقلبت موازين الحرب لصالح الأسد.
وبناء على كل هذا التاريخ، يرى باهوت بأن روسيا يمكن أن تتحول إلى مسؤولية أخرى بالنسبة لفرنجية، لكونها ستلمع صورته بشكل أكبر بما أنه صديق شخصي لبشار، وهذا ما قد يزيد رفض الأحزاب اللبنانية الأخرى له، كما سيزيد من رفض أميركا وأوروبا لانتخابه، على الرغم من احتفاظه بعلاقات شخصية طيبة مع دبلوماسيين أميركيين وأوروبيين في لبنان".
شريك وحليف موثوق لدى روسيا
ترددت واشنطن في التدخل مباشرة بقضية انتخاب رئيس للبنان، إذ لدى سؤال الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية حول فكرة انتخاب فرنجية رئيساً للبنان في حزيران الماضي، رد هذا الرجل بأنه لن يفترض أو يتكهن بالنتائج، مكرراً بذلك دعوة إدارة بايدن للشعب اللبناني لاختيار رئيس بوسعه قيادة البلد وخدمته في هذا الوقت العصيب.
يرى ييغيا طاشجيان وهو عضو في معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية التابع للجامعة الأميركية بأن فرنجية شريك وحليف موثوق لروسيا، إلا أنه يخبرنا بأن هنالك من يعارض تمتين هذه العلاقة لتتحول إلى دعم صريح، وهذا ما دفعه للقول: "هذا لا يعني بأن موسكو مصرة عليه، فالروس حذرون ويلعبون لعبتهم في الخفاء، نظراً لخبرتهم مع الساحة اللبنانية التي قد تحمل مفاجآت كثيرة".
تحدث طاشجيان أيضاً عن غياب دعم الأحزاب المسيحية الأخرى مثل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، بما أنها تدعم أزعور منافس فرنجية.
ولكن إن حدثت معجزة سياسية وانتخب فرنجية رئيساً، فإن ذلك سيعزز الموقف الروسي والسوري المحدود في لبنان، فمن المعروف عن فرنجية تمتعه بالمرونة، صحيح أنه سياسي بين السياسيين، لكنه لا يرغب بحرق ما مده من جسور، ولهذا سيحافظ على علاقته مع الأميركيين".
من المسارات المحتملة التي سيسلكها فرنجية حتى يصبح رئيساً للبلاد عقد اتفاق يقضي بانتخابه هو وشخصية أخرى مقربة من الولايات المتحدة لتشغل منصب رئاسة الوزراء، ويأتي على رأس تلك الشخصيات مندوب لبنان السابق إلى الأمم المتحدة نواف سلام، وذلك بهدف المحافظة على توازن البلد، وتطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية بحسب رأي طاشجيان.
لكنه يرى أيضاً بأن هدف موسكو الأساسي هو توسيع نطاق ما حققته من نجاح في سوريا ليصل إلى لبنان.
لعبة القوة الناعمة
يحلل طاشجيان الوضع بقوله: "تسعى روسيا للعودة إلى الساحة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية في لبنان عبر تفعيل قوتها الناعمة، لأنها بكل بساطة تعتبر لبنان امتداداً لعمقها الجيوسياسي في سوريا، وحتى تقوم بذلك، تحتاج إلى استقرار دائم في لبنان لأن استقراره يؤثر على جارته سوريا، ولهذا من الضروري أن يكون لروسيا وجود في لبنان وهذا الوجود يجب أن يكون تجارياً على الأقل إن لم يكن عسكرياً كما هي الحال في سوريا".
في محاولة لبسط القوة الناعمة التي تحدث عنها باهوت، يرى طاشجيان بأن موسكو استثمرت في مشاريع تهم الشباب اللبناني، أغلبها تركز على المسابقات التعليمية والرياضية والثقافية، كما سافر عدد من المواطنين اللبنانيين إلى روسيا في ظل هذه الجهود التي بذلها الروس ضمن هذا المضمار.
صورة التقطت في 9 آذار 2018 وفيها تظهر لوحة طرقية تروج لانتخاب فلاديمير بوتين في مدينة صور الساحلية
يحتل "أمن الطاقة" لب المبادرات الروسية في لبنان، إذ يركز الروس على الشمال، وبالأخص طرابلس، والهدف من ذلك تحويل طرطوس إلى نقطة عبور بالنسبة للحبوب وتصديرها عبر البحر الأسود إلى شمال أفريقيا، وهذا ما دفع طاشجيان للقول: "لقد أنقذت هذه المبادرات شركة نوفاتيك المنتجة للغاز في روسيا وساعدتها على الخروج من مشاريع للتنقيب عن النفط والغاز قبالة السواحل الجنوبية للبنان المطلة على البحر المتوسط بعد فرض الغرب لعقوباته عليها، إذ عند انسحاب نوفاتيك من الجنوب، رأى كثيرون بأن في ذلك إشارة على ضعف موقف روسيا ومكانتها في المنطقة عقب غزوها لأوكرانيا في 2022، ولكن إن كانت للأميركيين اليد العليا في الجنوب اللبناني، فلن يكون لهذه الشركة وجود في الشمال، وهذا ما يفسر الوجود الروسي الواضح على الأخص في طرابلس، حيث ترسخ وجودها هناك بحكم قرب هذه المدينة من سوريا".
الطاقة والأسواق والسياسة
يرى إيغور ماتفيف وهو خبير روسي لدى مجلس الشؤون الدولية وعضو وباحث رفيع لدى معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم ومحاضر في معهد موسكو للعلاقات الدولية، بأن لروسيا مصلحة في ميناء طرابلس اللبناني الواقع في الشمال، إذ يقول: "بوسع الشركات الروسية الدخول بشكل أكبر لقطاعات الطاقة والموارد الطبيعية في لبنان، ويشمل ذلك إطلاق مشاريع مشتركة للبنية التحتية، كان بينها مشروع شركة روزنيفت المسؤول عن تخزين النفط ومنتجاته في طرابلس".
ثمة دوافع روسية أخرى تشمل تأمين الاستثمارات اللبنانية في السوق الروسية التي ابتليت بالعقوبات، وقد تجلى هذا الاحتمال بمجموعة ضاهر اللبنانية التي أنشئت في الإمارات والتي استبدلت بشركة إسبانية تمتلك علامات تجارية شهيرة مثل زارا وبيرشكا لتبيع منتجاتها لروسيا في شهر تشرين الأول الفائت. ويرى هذا الباحث أيضاً بأن احتمال مشاركة روسيا في التنقيب عن الغاز على المستوى الجيولوجي قبالة شواطئ لبنان يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة أمام الروس واللبنانيين.
في الوقت الذي أصبح فيه لبنان بين الدول التي تعاني بسبب عدم انتظام وارداته من الحبوب القادمة من أوكرانيا من جراء الحرب المستمرة فيها، وانهيار الاتفاقية التي توسطت من أجلها تركيا لتأمين شحنات الحبوب، يؤكد ماتفيف بأنه بوسع روسيا بمفردها تعويض الصادرات الأوكرانية من الحبوب، فقد كان لبنان في عام 2020 يستورد 80% من القمح من أوكرانيا، وهذا ما سيعزز الأمن الغذائي في لبنان وسط تعثر مبادرة البحر الأسود، وهنالك دوافع سياسية لروسيا أيضاً، إذ يقول ماتفيف: "عبر خطوات قائمة على حسن النوايا، بوسع روسيا إقناع السلطات اللبنانية باتخاذ مواقف ألطف تجاه روسيا أمام الأمم المتحدة، وهذا يعني امتناع لبنان عن التصويت بدلاً من التصويت ضد القرارات الروسية التي تتبناها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهذا لن يحدث إلا إن أصبح سليمان فرنجية الرئيس القادم للبنان".
البحث عن النفوذ
يشرح مهند حاج علي وهو باحث مهم وعضو لدى مركز Malcolm H. Kerr Carnegie لدراسات الشرق الأوسط كيف يبدي المسؤولون الروس كبير اهتمام بترشح سليمان فرنجية، غير أنه يرى بأن نفوذهم عليه ليس كعظمة نفوذ فرنسا عليه مثلاً، بما أن باريس تدعم ترشح فرنجية للرئاسة هي أيضاً.
في سياق منفصل، علمت مجلة نيوزويك بأن فرنسا لا ترغب بأن يراها الناس كمن ينحاز لطرف من الأطراف في الجدل الدائر حول منصب الرئاسة في لبنان، ولهذا فهي لا تدعم أي مرشح بعينه بشكل رسمي.
ولكن على أية حال، يرى حاج علي بأن النفوذ الروسي اليوم تعرض لضربة كبيرة بسبب النزاع والعقوبات، ما يعني تراجع عدد الأحزاب التي ستتعامل مع موسكو بشكل علني، ويؤكد على أن اللغط الذي ثار ما بين عامي 2017-2021 لم يعد له وجود.
استشهد أحد المسؤولين اللبنانيين الذي أدلى بتصريحاته بشرط عدم الكشف عن هويته بآراء الشارع اللبناني في الداخل والتي توحي بأنه لم يعد لروسيا نفوذ كبير في لبنان منذ غزوها لأوكرانيا، خاصة بعدما التزمت القوات المسلحة اللبنانية بالحصول على أسلحة ومعدات من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، فضلاً عن خروج شركة نوفاتيك من لبنان بسبب العقوبات.
ويضيف هذا المسؤول اللبناني: "مع ذلك، تبدو بيروت كمن يسير فوق قشر بيض فيما يتصل بإبقاء موسكو في ربوعنا".
استشهد هذا المسؤول أيضاً بالموقف الأخير عندما طلبت وزارة الخارجية الأميركية من لبنان التوقيع على بيان مشترك يدين استخدام الغذاء كسلاح حرب في إشارة مبطنة للنزاع حول مبادرة البحر الأسود لتصدير الحبوب التي تعطلت وفشلت، إذ في الوقت الذي لم ترد فيه أي إشارة صريحة في النص لروسيا أو للنزاع في أوكرانيا، قرر لبنان في نهاية المطاف عدم الانضمام للدول التي بلغ عددها 91 والتي صدقت على هذا البيان في الأمم المتحدة.
أوكرانيون مقيمون في لبنان يشاركون لبنانيين رفعوا علم أوكرانيا في مظاهرة مناهضة للغزو الروسي لأوكرانيا جابت ساحة الشهداء ببيروت في 27 آذار 2022
التحول إلى جزء من الحل
إن نفوذ روسيا الضئيل في لبنان لم يمنعها من بذل المزيد من الجهد هناك، إذ يرى ماثيو ليفيت وهو مدير برنامج جانيت وإيلي رينهارد المعني بمكافحة الإرهاب والاستخبارات التابع لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بأن: "هنالك أسبابا كثيرة تدفع الجانب الروسي لتحقيق نجاحات أكبر في لبنان"، ومن بينها تطور علاقاتها المباشرة مع حزب الله الذي أصبحت له مصلحة مشتركة بالتعاون مع روسيا في ظل العقوبات المفروضة عليهما، وعلى أهم شريكين لحزب الله، أي إيران وسوريا، إذ صنفت الولايات المتحدة روسيا وحزب الله ضمن قائمة الإرهاب إلى جانب عدد من الدول، وهذا ما فضح العلاقات التي قامت بينهما خلال الحرب السورية في آذار من عام 2021، عندما استقبلت موسكو وفداً لحزب الله.
وإلى جانب الاحتمال الكبير للتهرب من تلك القيود والعقوبات الاقتصادية عبر فتح فرص جديدة للعمل والاستثمار، يرى ليفيت بأن هنالك هدفا أكبر يقف خلف بذل روسيا لجهود كبيرة لتدعيم نفوذها في المنطقة وللحد من النفوذ الأميركي ونفوذ حلفاء الولايات المتحدة هناك، وهذا ما دفعه للقول: "حاولت روسيا القضاء على التحالفات الغربية في المنطقة، ليس عبر تدميرها بقدر ما سعت لإيجاد مساحة أكبر تقتطعها لنفسها، ولهذا من المهم بالنسبة لروسيا أن تجد فيها دول المنطقة من الأهمية ما يكفي ليمنعها من الوقوف قلباً وقالباً إلى الجانب الغربي في المعادلة، فمثلاً بالنسبة لأوكرانيا، لم تكن تلك الدول مؤيدة بشكل كبير لفرض عقوبات غربية على روسيا، ثم إن روسيا بفضل دفاعها المستميت عن نظام الأسد في سوريا قدمت نفسها كحليف يمكن الوثوق به إلى أبعد حد، ولهذا أرى فيما تبذله من جهود في لبنان جزءاً من الجهود الكاملة التي تسعى من خلالها لاقتطاع مساحة أكبر لها في المنطقة، وفي لبنان لا يمكن لروسيا أن تفعل كل ذلك مع الحكومة، ولكن بوسعها أن تفعل ذلك برفقة أحد العناصر الرئيسية الطائفية الفاعلة في لبنان، وهذا العنصر يمتلك أسلحة تظهره بمظهر القوي وصاحب النفوذ".
ترتبط هذه الصورة والعلاقة بعلاقة موسكو بشخصية فرنجية، وهذا ما جعل ليفيت يقول: "أعتقد بأن روسيا ترغب بأن يصل للرئاسة شخص يقف إلى جانب حزب الله، كما تود أن يراها الجميع وهي تلعب دوراً إيجابياً في كسر الجمود السياسي بلبنان، حتى تقدم نفسها وكأنها الوحيدة القادرة على ذلك في الوقت الذي عجزت فيه فرنسا والولايات المتحدة عن فعل هذا، ولا فرق إن بقي فرنجية في هذا المنصب لمدة طويلة، بما أن هذه المغامرة لا تكتنفها أية مخاطر بالنسبة لروسيا، فحتى إن لم يترتب عليها أي شيء، سيظل بوسع الروس تقديم أنفسهم على أنهم حاولوا أن يكونوا جزءاً من الحل".
المصدر: Newsweek