وهو يحتسي فنجان قهوته العربية داخل شقته المؤلفة من غرفة واحدة في بيروت، يخبرنا أحمد العزو ابن الحادية والثلاثين بأنه بات من المستحيل بالنسبة للسوريين العيش في لبنان.
هرب أحمد من حمص إلى لبنان في عام 2014، ويخبرنا بأنه لم يعد يتبقى له أي شيء في سوريا، فقد تدمر بيته خلال الحرب السورية التي امتدت لسنوات طويلة، ودمرت اقتصاد البلد بالكامل.
أما في لبنان، فقد وصل العنف ضد السوريين إلى أشده إثر مقتل باسكال سليمان، وهو مسؤول كبير لدى حزب القوات اللبنانية المسيحي اليميني، فقد أعلن الجيش اللبناني بأن سليمان قد اختطف ثم قتل في محاولة لسرقة سيارة في السابع من نيسان الماضي وذلك على يد عصابة سورية.
ومنذ مقتل سليمان، والشرطة والجيش اللبناني يضيق الخناق على السوريين، ويغلق مشاريعهم التجارية، ويرحل من لا يحمل إقامة منهم، ويزيد الضغط بهدف ترحيلهم إلى سوريا.
انتهت صلاحية الإقامة التي يحملها أحمد، وهذا وضع أغلب السوريين في لبنان، إذ لم يتمكن هذا الشاب من تجديد إقامته بسبب ارتفاع رسوم التجديد، وهذا ما جعله خائفاً منه الترحيل، إذ يقول: "لا يمكننا أن نعيش في سوريا أو في لبنان".
لذلك أضحى أمله الوحيد بالنسبة لزوجته وطفليه اللذين يبلغ أحدهما ست سنوات والثانية أربعاً هو أن يصعدوا على متن قارب ويعبروا المتوسط إلى إيطاليا في رحلة عبور تشوبها مخاطر كبيرة.
ولهذا مايزال يبحث عن مهرب بوسعه أن ينقده آلاف الدولارات حتى يساعد أسرته على عبور البحر.
ارتفع عدد المهاجرين وأغلبهم سوريون من السواحل اللبنانية وصولاً إلى أوروبا بشكل كبير مقارنة بأعدادهم خلال العام الفائت، ولهذا أعلن الاتحاد الأوروبي يوم الخميس الماضي عن تخصيص حزمة جديدة من المساعدات للبنان تصل قيمتها إلى مليار يورو، وهدفها مساعدة لبنان على تحسين سيطرته على الحدود ومكافحة عمليات التهريب المتزايدة.
خلال الفترة الواقعة ما بين كانون الثاني و17 نيسان الماضي، تحققت مفوضية اللاجئين من وصول 59 مركباً يحمل 3191 راكباً، وبأن جميع تلك المراكب انطلقت من سواحل لبنان، في حين لم يغادر من شواطئ لبنان سوى ثلاثة مراكب حملت 54 راكباً خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، ما يعبر عن زيادة بلغت 60 ضعفاً خلال هذا العام بحسب ما ذكرته ليزا أبي خالد الناطقة الرسمية باسم المفوضية في لبنان، وأضافت بأن تلك الرحلات اليائسة انطلقت بسبب عدم قدرة الناس على العيش في لبنان نظراً لتدهور الوضع الاقتصادي، وعدم توفر الخدمات الأساسية وقلة فرص العمل، ولوجود أقارب أو أحد من أبناء جلدتهم في الدول التي يتوجهون إليها.
قبرص: الطريق الأرخص للوصول إلى أوروبا
منذ فترة قريبة، رحل أربعة من أشقاء أحمد على متن قوارب إلى جزيرة قبرص وسط البحر المتوسط، والتي تعتبر أقرب دولة عضو في الاتحاد الأوروبي إلى لبنان، وأرخص طريق للوصول إلى أوروبا.
وخلال هذا العام، زاد عدد السوريين الواصلين بالقوارب إلى قبرص، وغالبيتهم قدموا من لبنان، وذلك عند مقارنة أعدادهم بأعداد السوريين الذين وصلوا إلى قبرص خلال العام الفائت.
وفي الفترة الواقعة ما بين الأول من كانون الثاني و21 نيسان من هذا العام، وصل ما لا يقل عن خمسين قارباً إلى قبرص، مقارنة بالقوارب العشر التي وصلت خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وقد تقدم نحو ثلاثة آلاف سوري بطلبات لجوء في قبرص خلال الفترة ما بين كانون الثاني وآذار من هذا العام بحسب أرقام مفوضية اللاجئين.
وصل أحد أشقاء أحمد، واسمه حسن العزو وعمره 24 عاماً إلى قبرص في 13 آذار بعد رحلة بالمركب استغرقت 15 ساعة من مدينة طرطوس السورية، فقد كان حسن يعيش في لبنان ولكن جرى تهريبه إلى سوريا وبقي فيها بضعة أشهر قبل أن ينتقل للعيش في قبرص.
يخبرنا حسن من مدينة ليماسول الواقعة جنوبي قبرص بأنه دفع مبلغاً قدره 2800 دولار للمهربين الذين يعملون في سوريا ضمن شركة سياحة، وقد كان الإعلان حول رحلة بحرية عكس ما حدث في الواقع برأي حسن، الذي ذكر بأن نحو 130 رجلاً وامرأة وطفلاً قد احتشدوا على متن قارب صيد صغير من أجل تلك الرحلة.
ولكن منذ أن وصل حسن إلى بر الأمان، لحقه ثلاثة من أشقائه خلال الأسابيع التالية، إذ دفع اثنان منهما ثلاثة آلاف دولار للشخص الواحد، فيما دفع أحدهم مبلغاً وصل إلى 11 ألف دولار حتى يأتي بزوجته وطفليه اللذين يبلغ أحدهما من العمر 13 عاماً والآخر 11 عاماً.
كانت تلك المحاولة الثانية لحسن عبر البحر للهروب من لبنان، إذ في شهر أيلول من عام 2022، حاول حسن أن يصل إلى إيطاليا بالقارب، وكلفته تلك المحاولة ثمانية آلاف دولار، أي ثلاثة أضعاف سعر الرحلة إلى قبرص.
ولكن في منتصف الطريق، نفد وقود المركب، فأعاد خفر السواحل القبرصية الركاب إلى لبنان.
لم يعد المهربون العُدة الملائمة للرحلة، فقد تركوا الركاب من دون وقود وطعام كاف وماء، وقد غرق الآلاف من الناس وهم يحاولون الهجرة بطريقة غير شرعية عبر البحر المتوسط وذلك منذ عام 2014 على أقل تقدير بحسب مشروع المهاجرين المفقودين.
وعن تجربته يقول حسن: "لا أريد أن أعيش في لبنان بسبب العنصرية الشديدة تجاه السوريين" أما عن العودة لسوريا فقد قال: "أفضل أن أموت في البحر" على تلك العودة.
قبرص تضيق الخناق
إزاء الأعداد المتصاعدة للواصلين من طالبي اللجوء السوريين، أعلنت قبرص في 14 نيسان الماضي عن أنها لن تعالج أي طلب يعود لأي سوري وعن تشديد حراستها للبحر بالتنسيق مع لبنان.
وفي 17 نيسان الماضي، منعت الشرطة البحرية في قبرص خمسة قوارب انطلقت من لبنان حاملة مئات السوريين من الوصول إلى المياه الإقليمية القبرصية، وأعلن الخط الساخن الذي يعرف باسم آلارم فون والمخصص للمهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط باتجاه الاتحاد الأوروبي بأن تلك القوارب بقيت تائهة في البحر طوال أيام ما بين لبنان وقبرص ولم يكن لديها ما يكفيها من مؤونة.
من جهتها، طالبت مفوضية اللاجئين قبرص بعدم انتهاك القوانين الدولية لحقوق الإنسان أو تعريض الركاب للخطر في أثناء سعيها لمنع القوارب من الوصول إلى أراضيها.
إذ بما أن قبرص دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، فهي ملزمة بعملية الإنقاذ من البحر والتي تشمل عمليات البحث عن الأشخاص عند تحطم مراكبهم وإنقاذهم، كما يجب على قبرص أن تضمن حقهم بتقديم طلب لجوء وأن تحمي المهاجرين الخائفين من الاضطهاد في بلدهم من الإعادة القسرية.
تزامن تضييق قبرص الخناق على المهاجرين مع موافقة الاتحاد الأوروبي على إجراء إصلاحات شاملة على قوانين اللجوء والهجرة الأوروبية في العاشر من نيسان الماضي، ضمن ما يعرف بميثاق الهجرة واللجوء، وقد استنكرت منظمات حقوقية بعض تلك الإصلاحات، والتي تشمل إقامة مرافق على الحدود لفحص طالبي اللجوء أمنياً ولتمديد فترات احتجاز من رفضت طلبات لجوئهم، وذكرت بأن ذلك لابد أن يتسبب بمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان بالنسبة للاجئين.
ولقد زار رئيس قبرص نيكوس خريستودوليديس لبنان في الثاني من الشهر الجاري بغية التوسط من أجل اتفاق بين بيروت والاتحاد الأوروبي هدفه منع مغادرة المهاجرين للسواحل اللبنانية، وقد تضمن هذا الاتفاق دعماً مالياً أوروبياً للسلطات اللبنانية التي تشمل الجيش وذلك بغرض معالجة ملف الهجرة.
القوارب تتجه نحو إيطاليا
من شقته الصغيرة في بيروت، يخبرنا أحمد أنه لن يلحق بأشقائه في قبرص بسبب التضييق على السوريين هناك، بل يأمل بأن يصل إلى إيطاليا عوضاً عن ذلك.
وبالنظر في تلك القضية، يخبرنا الباحث في ملف الهجرة إبراهيم جوهري وهو أحد من كتبوا ورقة بحثية حول نزعات الهجرة غير النظامية بالبحر من لبنان لصالح مؤسسة فريدريش نيومان في عام 2023، فيقول: "عدنا الآن إلى طريقة العمل القديمة التي يحاول من خلالها معظم من يغادرون من لبنان الوصول إلى إيطاليا".
أوقفت قبرص عملية دراسة طلبات لجوء السوريين خلال الفترة ما بين عامي 2021 و2023 في ظل الحكومة السابقة لقبرص، ولم تصل الحكومة الحالية لسدة الحكم حتى شباط 2023، وعندئذ عاودت قبرص النظر في طلبات السوريين بحسب ما ذكره أندرياس جيورجياديس وهو رئيس مصلحة اللجوء في قبرص التابعة لوزارة الداخلية، ولذلك بدأت أعداد أكبر من السوريين تخرج من لبنان لتصل إلى قبرص في مطلع عام 2023، بحسب ما أكده الجوهري، وأضاف بأن أعداد تلك القوارب التي تخرج من لبنان بدأت ترتفع بشكل ملحوظ بالتزامن مع بداية الحرب على غزة في تشرين الأول من عام 2023، وقال بأنه لاحظ زيادة في أعداد الفلسطينيين الذين يحاولون أن يهاجروا بالقوارب من لبنان بحسب ما تعقبه من أعداد نشرتها وكالة خفر الحدود والسواحل الأوروبية (فرونتيكس)، وتحدث أيضاً عن تزايد أعداد السوريين الذين يجري تهريبهم إلى لبنان من سوريا حتى يبقوا هناك عدة أيام قبل أن ينطلقوا في تلك الرحلات المتوجهة إلى أوروبا من السواحل اللبنانية، ويعود السبب في ذلك إلى السيطرة الخانقة للنظام السوري ولروسيا على المدن الساحلية السورية، وهذا ما يصعب أمر مغادرة تلك القوارب من هناك.
تحدث الجوهري أيضاً عن الموسم الأفضل للهجرة بالبحر والذي يتزامن مع شهر آب، أي أن الموسم لم يبدأ بعد خلال هذا العام، ولهذا يقول: "بوجود الأزمة الاقتصادية ومحدودية الموارد، لابد أن يصيب الإنهاك قوات الشرطة اللبنانية وقوات الأمن البحري والداخلي في لبنان" بما أن أعداد المهاجرين ترتفع بحسب رأيه، كما ستظهر جرائم أشد تنظيماً وحوادث أكثر وحالات غرق أكبر، ويعلق على ذلك بقوله: "من المتوقع أن تتفاقم هذه المشكلة كثيراً خلال الأشهر القليلة القادمة".
"لا مكان أسوأ من لبنان"
يخبرنا أحمد أن خوفه من العنف والترحيل منعه من الخروج من شقته خلال الشهر الماضي، ويعقب على ذلك بقوله: "من المستحيل أن أغادر شقتي"، بيد أن مشكلته الأساسية لا تتلخص بمحدودية تحركاته أو خوفه، لأن أشد ما يقلقه هو مستقبل ولديه، ولهذا قرر أحمد وزوجته فاطمة أنه من الأفضل بالنسبة لابنتهما البالغة من العمر ست سنوات أن تبقى في البيت من دون أن ترتاد أي مدرسة حكومية لبنانية خلال هذا العام، وخاصة بعد إقرار نظام الدوام المسائي للتلاميذ السوريين، والذي سمعا عنه كثيراً من القصص حول طريقة تعامل الأساتذة مع الطلاب.
وعن ذلك تخبرنا فاطمة البالغة من العمر 25 عاماً: "أهم شيء بالنسبة لي تعليم أولادي"، لكنها أفضت لنا بأنها تخاف من ركوب القارب بصحبة ولديها حتى تصل إلى إيطاليا، إلا أنه لم يعد أمامها أي خيار أفضل تقدمه لولديها من أجل تأمين مستقبلهما، وتعلق على ذلك بقولها: "بالطبع أنا خائفة، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟ ثم إنه لا شيء أسوأ من هنا" أي لبنان.
المصدر: Al-Monitor