icon
التغطية الحية

لا أحد يريد أن يكون أصلعاً | سرد

2023.07.28 | 11:54 دمشق

آخر تحديث: 29.07.2023 | 09:16 دمشق

صلع
(لوحة: فان كوخ)
+A
حجم الخط
-A

في العشرين كنتُ مولعاً بالشعر الطويل، وقد كان بوسعي حينها أن أمتلكه بالفعل، أما الآن، وبعد هذه المسافة، ومع اتساع رقعة الصلع شيئاً فشيئاً، أنظر إلى صوري القديمة الناجية من حرائق البلاد الكثيرة، ومن لامبالاة المطارات العديدة التي عبرتها بكامل لغاتها وشرطتها، حيث أوصلتني في النهاية إلى ما أنا فيه الآن زمانياً ومكانياً، أنظر إلى الصور فأكتشف أنني لا أملك إلا الحسرات، وبعض الأشياء الأخرى التي يقوم بها من هم في مثل سني وظرفي، ومنها قراءة الماضي والاجتهاد في شرحه وفلسفته، كما اكتشف فجأةً مثلما اكتشف وسيكتشف غيري فجأةً، أننا نعيش كل يوم من أيامنا مرتين: مرة في الحقيقة ومرةً في المرايا حين نتذكر.

وما يدعو أكثر إلى الحزن أو إلى الضحك أننا غالباً ما نكون في كلا الحالتين، في الحقيقة والمرآة، متفرجين على الوقت الذي يتسرب من بين أصابعنا، في المرة الأولى بسبب الطيش الذي يدّعي أن نستطيع أن نجرّب بلا حدود لأننا نملك الكثير من الوقت، وفي الثانية  حين نقول: لم يعد هناك ما يستحق أن نقاتل من أجله فقد نفد الوقت، ثم نكتفي بتقليب المرايا وعيش الطيش مرةً أخرى ولكن بشكل مقلوب ومبلول بالدموع في هذه المرة، هي نصف حياة إذن لكننا نكررها بمحض إرادتنا، ومع كل الخسارات والحروب والأوبئة والأمراض التي عشتها وعاشها أبناء جيلي والسوريون منهم على وجه التحديد، اخترتُ اليوم أن  أُنحّي كل القضايا الكبرى جانباً، وأتحسر على شَعري فقط، نعم بهذه البساطة، ليس فقط لأننا نبكي أحياناً على جمالنا الذي مضى وحيداً من دوننا ومن دون المادحين إلى حفرة النسيان، بل لأننا أيضاً  نتلمس إشارات الرحيل  القريب بوضوح، وندرك أنه ربما  قد آن الأوان لكي نشتغل بتوديع أنفسنا أكثر من اشتغالنا بالنفخ في القرب المقطوعة.

في العشرين كان شعري طويلاً فعلاً، هذا ليس وهماً، فقد أكدته الصور التي لدي، وأظن أن هناك العديد من الأسباب التي جعلتنا أنا والرجال الآخرين نختار أن نطلق شعرنا على كيفه، فالموضوع لا يتعلق فقط بنزوات المراهقين وببحثهم عن الظهور والتفرد، وما يُفند هذا الادعاء أن التاريخ مليءٌ بالمشاهير الذي أطلقوا شعرهم وتباهوا به، لويس الرابع عشر " ملك الشمس" ملك فرنسا (1638-1715) كان يُعرف بشعره الطويل الذي يرمز إلى قوته وسلطته، هذا الشعر الذي لم يغسله طيلة حياته أكثر من مرتين!، أما إلفيس بريسلي، المغني الأميركي الذي كان يُعرف باسم "ملك الروك آند رول "والذي كان يُنظر إليه على أنه أيقونة ثقافية، كان شعره الطويل الكثيف جزءا من مظهره المميز، وكذلك بوب ديلان صاحب نوبل والمغني وكاتب الأغاني والموسيقي الأميركي (مواليد 1941) كان معروفًا سابقاً بشعره الطويل، والأمثلة أكثر من أن تحصى، فالموضوع إذاً أبعد من أن يكون بحثاً خلبياً عن الأنا، وإنما قد يتعدى ذلك إلى تجسيد حلم جمعي متوارث، وإلا لما كان الأدب أيضاً حَلمَ واحتفى بالرجال طوال الشعر، وذلك عبر الكثير من الشخصيات الروائية الشهيرة، فالدون كيشوت من رواية "دون كيشوت" للكاتب الإسباني سرفانتس كان لديه شعر طويل جدًا، وكذلك جون رامسي من رواية "لعبة العروش" للكاتب الأميركي جورج مارتن، كان رجلًا قاسيًا وقاتلًا  ولديه شعر طويل يميّزه، أما جان فالجان، من رواية "البؤساء" للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو، فقد كان سجيناً سابقًا حاول أن يبدأ حياة جديدة، لكن ماضيه لاحقه دائمًا، وحجب مستقبله بالضبط مثلما غطى شعره الطويل وجهه في كنايةٍ واضحة عن الملامح المبهمة التي خلقها الماضي.

وإذا ما أراد الحلم البشري أن يؤكد نفسه أكثر من الأدب، أكثر حتى يُقارن باليقين، أو أن يصبح حلماً بأجنحة، أو أن يقترب من حدود المشتهى اللانهائية، فحله الوحيد أن يسكن الأسطورة، يحملها أو تحمله، ويتسايران ويتجاوران حتى يؤلِّفا بقوتهما المقدس، وكنا قد اتفقنا على الحلم، وأما بالنسبة للأسطورة، فقد أولت شعر الرجال الطويل أهمية قصوى، حيث إن شمشون تمتّع بقوة غير طبيعية مصدرها شعره بالذات، شمشون الذي خلقته الأسطورة ليكون بطلًا شعبياً لليهود،  قُتل على يد دليلة، التي قصت شعره بينما هو نائم ففقد بذلك قوته، وكذلك فعلت أساطير اليونان القديمة مع الشَّعر، فقد كان يُعتقد أن  شَعر الإله هيرمس الطويل يمنحه القوة والسرعة، كما أن لشعر الرجال الطويل  أيضاً دلالات في الأساطير والعبادات الصينية والهندية والإفريقية، وبذلك يتأكد المعنى الخفي والغامض من رغبتنا كرجال في شعرٍ طويل، وهذا ما أكدّه علم النفس أيضاً، فقد نظر إلى شعر الرجال الطويل كطريقة للتعبير عن الذات، أو علامة على الشخصية والأسلوب، أو إشارة إلى الاستقلالية والحرية، أو دلالة على الروحانية.

في أميركا تنتشر إشاعة تقول إن الرجل الأصلع هو رجل مثير، وهذا في الحقيقة عزاء لا بأس به، وإن كنت أظن أن الصلعان هم من أطلقوا هذه الإشاعة، ولكن لأن الشعر الطويل هو التعبير الفائض عن السحر بمعانيه الأسطورية والثقافية، لا يمكننا أن نعثر على رجلٍ واحد يريد أن يعيش أصلع الرأس، ومن هنا برزت إحدى محاولات البشر البائسة في إدارة الزمن ومحاربة الشيخوخة، وهذه المحاولة لم تكن إلا زراعة الشعر التي ازدهرت مؤخراً بشكل ملحوظ وفي كل بقاع العالم، ولا أنكر أنني فكرت بالأمر، ولكنني عدلت عن ذلك بشكل نهائي عند مشاهدتي النتائج على رأس أحد الجيران، لقد بدا بمظهر المحتال تماماً، وإن لم يكن يحتال على الناس فهو بالتأكيد يحتال على الزمن.

ولد ابني الأكبر آدم بشعر طويل بشكل لافت، وفي بعض الثقافات، يُعتقد أن الأطفال الذين يولدون بشعر كثيف سيرافقهم الحظ في طيلة حياتهم، ففي الصين مثلا، يقولون إن الأطفال الذين يولدون بشعر أسود كثيف سيصيرون أغنياء ومشاهير، أما في الهند فيعتقدون أن الأطفال الذين يولدون بشعر مجعد سيكونون من المحظوظين في الحب، ولد ابني بشعر طويل، وفي وقت ولادته بالذات بدأت أفقد شعري رويداً رويداً، وربما أرادت الحياة أن تقوم بعملها النمطي، أن تأكلني قطعةً قطعة، أن تزيح القديم كي تفسح مكاناً للجديد.