في الوقت الذي تدقّ قواعد الجماعات والكيانات والتيّارات العاملة في الحقل الإسلاميّ نواقيس الخطر تحذيرًا من تحوّل الإقصاء والتّهميش إلى ظاهرةٍ سلوكيّةٍ وثقافةٍ فاشيةٍ؛ فإنَّه يجب استنفار الجهود والأفكار للبحث في آليّات مواجهتها وقايةً وعلاجًا، وللحيلولة دون مزيدٍ من التّردّي وانحراف القطار عن سكّته.
وعند الحديث عن مقارباتٍ مقترحةٍ للتّعامل مع الإقصاء والتّهميش داخل العمل الإسلامي؛ فإنَّ هذه المقاربات يجب أن تنطلق من مكاشفاتٍ صريحة وجريئة تضع الجميع من العاملين في الحقل الإسلاميّ أمام مسؤوليّاتهم قياداتٍ وأفرادًا على حدٍّ سواء.
-
هل تكفي التّربيّة؟!
ممّا تتميّز به جماعات وكيانات العمل الإسلامي عن غيرها من الكيانات الأخرى، اهتمامها الكبير بالحالة التّربويّة للأفراد، والبناء العقائدي، من خلال المتابعة التزكوية والوعظيّة، أو التّدريسيّة العلميّة أو المتابعة السلوكيّة ضمن برامج وأنشطة تصبّ في خدمة المرجعيّة الفكريّة للجماعة والكيان.
فالبناء التربوي يمثّل العماد الذي تقوم عليه روح هذه الجماعات والكيانات، ولا معنى حقيقيًّا لوجودها دونَه، فهو آليّةُ ترسيخِ هويّتها وتجذير مرجعيّتها الشرعيّة في الأفراد على اختلاف مستوياتهم.
فالتربية هي التي تنشر الثّقافة التي يرادُ لها أن تسود، وتكتسي هذه الثّقافة مهابة القداسة كونها تنتسب إلى مرجعيّة الوحي المقدّس.
كما أنَّ عمليّة إصلاح الخلل ومعالجة الأدواء المتسرّبة إلى هذه الجماعات والكيانات تعتمد على العمليّة التربويّة، التي تمثّل الترياق الذي يلجأ إليه القائمون على هذه الجماعات عندما تشتدّ العواصف الهوجاء على سفنهم التي تمخر عباب بحارٍ متلاطمة.
إنَّ مواجهة الإقصاء والتّهميش من خلال تعزيز روح الأخوّة والمساواة، ونزع الغلّ من النّفوس، ومعالجة أمراض النّفس من الحسد والنّميمة والتّنافس غير الأخلاقي، والتّذكير الدّائم بمقتضيات الإيمان، والتّحذير من الآفات المهلكة؛ كلّ ذلك من الرّكائز الأساسيّة التي تمثّل مواجهةً وقائيّةً وتعاملًا علاجيًّا مع ثقافة الإقصاء والتّهميش.
وإنَّ انتشار مفهوم الأخوّة الواسع ليشمل العاملين في الحقل الإسلاميّ من أبناء التيار والجماعة الواحد وأبناء الجماعات الأخرى والمستقلين غير المنتسبين لأية جماعة هو من العوامل الكفيلة بالقضاء على الإقصاء والتّهميش الذي ينتجه التّعصب الحزبيّ.
ولكن هل تكفي التربية وحدها؟
إنَّ التّربية الإيمانيّة على أهميّتها ومحوريّتها ومركزيّتها في العمل الإسلامي لا يمكنها أن تشكّلَ العلاج المطلق لما يصيب أجسام العمل الإسلاميّ من عللٍ وأدواء.
فالتربية تمثّل الرّوح التي يبقى الجسد بها على قيد الحياة، لكنّها لا تمنع من وصول العلل والأمراض إلى هذا الجسد، وحيوية الرّوح لا تمثّل العلاج لأمراض الجسد كلّها.
فلذلك لا ينبغي الاكتفاء بالتّربية التزكويّة والتّذكير الإيماني دون اتّخاذ إجراءاتٍ علاجيّة تتناسب وهذا الدّاء وتكون ناجعةً في التّعامل مع آثاره الخطيرة.
-
تغييرُ السّياسات لا الخطابات
مما يجبُ تأكيدُه أنَّه لا جدوى من كلّ خطابات مكافحة التّهميش والإقصاء وذمّ الشلليّة والكولسة دون تغيير السّياسات التي أنتجت هذا الدّاء، أو أتاحت له الفرصة ليجدَ له موطئ قدم داخل هذه الجماعات والكيانات.
إنَّ بقاء السياسات التي أنتجت الإقصاء والتّهميش والشلليّة يضمن استمراره ولا قيمة كبيرة لخطاب التصبير ومكانة الرضى وفضيلة التّجاوز.
ومن أهمّ السّياسات التي تنتجُ الإقصاء والتّهميش والكولسة هو آليّات التّصعيد القيادي، وقوانين الانتخابات الدّاخليّة، ومعايير وصول الأفراد إلى مراكز القرار، والاعتمادُ في ذلك على الزّهد الظّاهريّ مع الإقبال الحقيقيّ من وراء الكواليس التي تنتج الشلليّة الدّاخليّة.
إنَّ إصلاح القوانين الدّاخليّة واللّوائح التي تنظم مشاركة الأفراد على اختلاف مستوياتهم في صناعة القرار، وضمانة النّزاهة والشفافيّة هو ممّا يخدم عملية مكافحة الإقصاء والتّهميش بشكل كبير.
وكذلك يغدو من الضروريّ في إطار مكافحة الإقصاء والتّهميش؛ اعتماد سياسات الدّمج السّلوكيّ والشّوريّ التي تقوم على توظيف طاقات الأفراد المختلفة وأفكارهم ورؤاهم في خدمة أهداف الكيان والجماعة، بحيث يشعر الأفرادُ أنّهم مشاركون فعليّون في صناعة الأحداث الكبيرة، مهما كانت مواقعهم وأعمالهم.
-
تأسيسُ أنظمة وقوانين فعّالةٍ للحوكمة والمحاسَبة
إنَّ وضع القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتَّميّز في الأداء وذلك من خلال اعتماد الأساليب الفعالة لتحقيق الأهداف العامة للجماعة أو الكيان، ووضع اللّوائح النّاظمة للعلاقات بين مختلف مستويات الجماعات يضمن القضاء على الكثير من أسباب التّهميش والإقصاء.
وإنَّ ترتيب آليّاتٍ إداريّة تتيحُ للأفراد في هذه الجماعات والكيانات الإسلاميّة متابعة الأجسام التنفيذيّة والاطلاع على أعمالها وحُسن التّواصل الفعّال معها ومساءلتها على التقصير ضمن ترتيباتٍ إداريّة منضبطة؛ ينفي عن الكثيرين هيمنة الشّعور بالتّهميش والإقصاء.
على أن تكون هذه اللوائح والقوانين حقيقيّةً لا صوريّة، فاعلةً ومؤثّرةً لا مجرّد قوانين ولوائح لتجميلِ الصّورة العامّة للجماعة أو الكيان ووسمه بالمؤسسيّة.
وإنَّ من أهمّ ما يُشعرُ الأفراد بالتّهميشِ والإقصاء داخل الجماعات والكيانات العاملة في الحقل الإسلاميّ غياب المحاسبة والشّفافية في كثير من الأحيان.
ولذلكَ فإنَّ اتّخاذ نظام واضح للمحاسبة يتمّ تطبيقُه على جميع أبناء الجماعة والكيان تحيي شعورًا بالعدالة يسري داخل هذا الجماعة، هذه العدالة التي تجعل المرء يعيشُ محوريّته في الكيان ويطرد مشاعر كونه على الهامش لا يلتفت إليه أحد.
-
الوعي بالحقوق وضمان حريّة الرأي والتّعبير
ممّا لا شكّ فيه أن ثقافة الإقصاء والتّهميش هي نتاج الواقع الاستبداديّ السّياسيّ الذي تعيشُه المجتمعات، وهذه الجماعات والكيانات العاملة في الحقل الإسلامي تمثّل جزءًا من هذا المجتمع.
وبالتّالي فإنَّه من المفهوم أن تتسرّب هذه الثّقافة التي هي نتاج الاستبداد إلى داخل هذه الجماعات والكيانات، ولكن من غير المقبول أن تستمرئ هذه الجماعات هذه الثّقافة وهي في الأصل تعلن أنّها إنّما وجدت لمواجهة الاستبداد بأشكاله.
وهنا يكون من أهمّ وسائل مكافحة التّهميش والإقصاء أن يكون الفردُ في هذه الجماعات واعيًا تمامًا بحقوقه التي يتمتع بها، وبما يترتّب عليه من واجباتٍ تجاه هذه الجماعات والكيانات التي انتمى لها.
إنَّ هذا الوعي يجب أن يصحبه شعور الفرد بأنَّ هذه الحقوق ليست حبرًا على ورق بل هي حقوق يملك التّمتع بها دون أن يستطيع أحدٌ مهما كانت رتبته ومكانته الاستطالة عليها أو سلبها منه.
إضافة إلى أنَّ من وسائل مواجهة التّهميش والإقصاء أن تكون الضّمانة تامّة لحريّة الفرد في التعبير وإبداء الرّأي داخل جماعته وكيانه دون أن يتعرّض للقمع والكبت مهما كان رأيه مخالفًا أو غير منسجم مع قرارات قيادته في الجماعة أو المؤسسة أو الكيان.
إنَّ قدرة الفرد على التعبير عن آرائه بكلّ حريّة وهو يعلم أنّه لن يترتّب على حريته هذه اتّخاذ قرارات بحقّه في الاجتماعات المغلقة؛ كفيلةٌ بجعل الفرد مؤمنًا بنفسه وفكرته والجماعة والكيان والتيار الذي ينتمي إليه، لا يجد في قلبه شعورًا بغيضًا بالإقصاء أو التّهميش المرير.