مجزرة التّضامن التي جاءت على حين غرّة من خلف أستار الغيب القريب أحيت في النّفوس مجازر كثيرةً عاينها أبناء هذا الشّعب المكلوم؛ فالشّجا يبعثُ الشّجا والدّمُ يوقظ الدّم والحزن يُذكي الأحزان الكامنة كالجمر تحت رماد النّسيان.
وقد أعادت مجزرة التّضامن إلى العقل الجمعي السّوري صور الكثير من المجازر القريبة التي حدثت على يدي نظام بشّار الأسد عقب ثورة آذار عام 2011م، غير أنّ هذه المجزرة ومثلها الكثير من المجازر التي كُشفت والكثير الكثير من المجازر والحُفر التي لمّا تكشَف هي نتاج منظومة استبداديّة إجراميّة بدأت مع استلام حافظ الأسد مقاليد الحكم في هذه البلاد التي لم تتوقّف عن النّزيف ساعةً من حينها.
-
من تل الزّعتر وحماة إلى التّضامن مجازر على قيد النّسيان
مجزرة التّضامن التي امتزجت فيها دماء وأشلاء ورماد جثث الفلسطينيين والسّوريّين في الحفرة هي امتدادٌ لمجزرة تلّ الزّعتر التي وقعت في الثّاني عشر من آب "أغسطس" من عام 1976 وكانت بحق مخيَّم تل الزعتر للّاجئين الفلسطينيين في لبنان والتي راح ضحيّتها آلافٌ لا يستطيعُ تقديرَ عددهم إلا الشهداءُ أنفسهم.
يومَها ناشد من تبقّى من الفلسطينيينَ المحاصرين في المخيَّم علماءَ الأمة أن يصدروا فتوى تبيحُ لهم أكل جثث الشّهداء بعد أن انقطعت عنهم سبل الحياة كلّها.
ومنذ ذلك اليوم لا يجرؤ أحد على ذكر اسم تلّ الزعتر في سوريا وكانت عقوبة من يتحدث عن هذا المخيّم الذي مُسح عن الخارطة بعدئذٍ هي اللّحاق به لأنه يوهن عزيمة الأمة ويغير اتجاه بوصلتها عن فلسطين!!
مجزرة تل الزعتر جريمةٌ مُنفِّذُها بطل الحرب والسلام بطل التشرينين التّصحيح والتّحرير؛ الزعيم المُلهم المؤمن القائد الخالد حافظ الأسد، وقد دخلت مجزرة تلّ الزّعتر شيئًا فشيئًا في غياهب النّسيان.
وكذلك فإنّ مجزرة التّضامن هي امتدادٌ لمجزرة حماة المجزرةِ المأساةِ التي تعدُّ الحدثَ الأكثرَ ترويعًا في عهدِ الطَّاغية حافظِ الأسدِ الذي أسَّسَ لكلِّ المجازرِ التي تحدثُ في جنباتِ سوريا إلى اليوم، وبنى هيكليّة النّظام بتشابُكٍ مافيويٍّ لا يصلحُ معه إلَّا الاقتلاع من الجذور.
مع ظهور مجزرة التّضامن يتِّضح من جديدٍ أنَّ من أبرز المشكلاتِ في التّعامل مع مجازر النّظام السّوريّ ابتداءً من تلّ الزّعتر وحماة وما بعدها يكمنُ في الذَّاكرةِ التي ثُقِبَت بأيدي أصحابِها اعتقادًا منهم أنَّ الحلَّ في النِّسيان المرِّ والتَّعايشِ المُمِضِّ مع استقرارٍ صوريٍّ يغطِّي خوفًا معجونًا بتربةِ الأرضِ منذُ أن يدرجَ عليها أبناءُ القهرِ إلى أن يدفنوا في باطنها.
-
مُعيناتٌ على صناعة الذّاكرة السّمكيّة
وممَّا يساعدُ على صناعةِ الذّاكرةِ السَّمكيَّةِ؛ تركيزُ النَّظرِ في الحدثِ دونَ تقليبِ النَّظرِ والفكرِ والذّاكرةِ في مسانداتِه المحيطة به، مما يوصلُ إلى تعامل الذّاكرة مع هذه المسانداتِ بمعزلٍ عن الحدثِ فيما بعد، وتجربتِها في كلِّ موقفٍ واللَّدغِ من جحرِها كلَّ مرَّة، ومن ذلكَ فيما يتعلَّق بمجزرة حماةَ على سبيل المثالِ لا الحصر؛ مساندةُ ثلَّةٍ من العمائم التي لها وزنها العلميِّ والفقهيّ والدّعوي للطّاغيةِ حافظ الأسد في هذه الجريمة، من خلال التّأصيلِ للفعلِ وإيجاد الغطاءِ الشَّرعيّ له، مع التّأكيد أنَّ المجرمَ ليسَ بحاجةٍ إلى فتوى ليرتكبَ جريمتَه، ولكنَّه بحاجةٍ إلى إشغال المجتمع في حالةِ الجدلِ بحثًا عن الحقّ والحقيقةِ إثرَ التَّلبيسِ عليها.
فقد استكثرَت ثلّةٌ من هذه العمائم على من خرجوا على حافظِ الأسد أن يكونوا بغاةً بالمعنى الفقهيّ، لأنَّ البغيَ الذي هوَ إعلان فئةٍ أو جماعةٍ مسلمةٍ لها قوةٌ ومنعةٌ وبتأويلٍ مشروعٍ؛ العصيانَ المسلّح على السلطة الشرعيّة، أو الامتناع عن أداء الحقوق الشرعيّة لها، بهدف إسقاطها أو تغييرها، فهذا التعريفُ ـ على حد قول هذه العمائم ـ هو وصفٌ محترمٌ لفئةٍ محترمة لا تليقُ بهؤلاء الذين خرجوا على حافظ الأسد، وكان التوصيفُ الفقهيّ الذي رأوا أنهم يستحقونه هو أنّهم محاربون يجبُ في حقّهم حدُّ الحرابة، فالذين جابهوا حافظ الأسد عندهم ليسوا أكثرَ من قُطَّاع طرق!!
وتتجلَّى ذاكرةُ السَّمكِ في توقِّعِ النَّاسِ مع بدايةِ الثَّورةِ السّوريّة عام 2011م من هؤلاءِ تحديدًا أن يقفوا مع الثَّورةِ والثَّائرين، وأكثرُ ما كانَ يُثيرُ استهجاني هوَ استهجانُ البعض أن يوصفَ خيارُ النَّاسِ من السَّابقين في الثَّورةِ من قِبَلِ هذه العمائمِ بأنَّهم حثالةٌ وأنَّ جباههم لا تعرفُ السّجود؛ كنتُ استهجنُ من ذاكرةِ السَّمكِ التي تجعلُ النَّاسَ يتوقَّعونَ ممَّن وصفَ شهداءَ حماة والثَّمانينيات وثائريها أنَّهم قطَّاع طرق بأن يعلنوا مساندة الثّائرينَ في وجه امتداد طغيان حافظ الأسد المتمثّل بابنه بشّار الأسد.
-
المجزرة التي تُنسى تتكرّر
لذلك احفظوا جيّدًا جدًّا ولا تنسَوا مواقف العمائم التي كانت تطبّلُ للإجرام وتجمّل وجهه من عام 2011م إلى اليوم، احفظوا مواقفهم أيضًا عقب صدور فيديو المجزرة في المجلس الفقهي العلمي لوزارة الأوقاف، واحفظوا وجوههم في موائد الإفطار الرّمضانيّة مع بشّار الأسد على بعد أقلّ من نصف ساعة من حفرة مجزرة التّضامن؛ احفظوا مواقفهم واحفظوا وجوههم جيدًا.
مجزرة التّضامن تحتاج منّا وقفات وثّابةً من ذاكرةٍ وقَّادة، تتعَّرفُ مواقفَ رجال الشّريعةِ والسّياسةِ والمالِ إبّانَ تنفيذها في نيسان عام 2013م وإبان نشرها عام 2022م، وتتعرَّف ردود أفعال المجتمع الدّولي آنذاك واليوم، كي لا نستهجنَ موقفًا من شخصٍ أو دولة ما، وحتَّى نستشرفَ ما سيكون من مواقف لهؤلاء وأمثالهم من كلّ دم يراقُ على امتداد مساحةِ الحقّ، وكيلا تغوص الأقدامُ في رمالٍ مجهولةٍ لم يكن السَّبب في ولوجِها إلَّا ذاكرةُ السَّمك!
إنّ التّخلّص من الذّاكرة السّمكيّة في التّعامل مع المجازر هو الخطوة الرّئيسة الأولى لمنع تكرارها، وما أصدق المفكّر والزّعيم الإسلاميّ علي عزّت بيغوفيتش إذ يقول: "لا تنسَوا المذابح والإبادات والمجازر الجماعيّة؛ فإنّ المجزرة التي تُنسى تتكرّر".