كان الدمار الذي شهدته أحياء حلب الشرقية شديدا لدرجة بدا كما لو أنها تعرضت لزلزال عنيف فاق سبع درجات على مقياس ريختر. لكن ذلك كان قبل الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا في 6 من شباط، حيث هزّ القصف الروسي المدن السورية على مدى سنوات ومهد الأرض لتكون مقبرة للبيوت التي نجت من الأسلحة الروسية وآثارها المزمنة.
في دراسة مسحية سابقة، قالت الأمم المتحدة إن حلب أكبر المدن المتضررة جراء القصف، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى نحو 36 ألف مبنى، تلتها غوطة دمشق الشرقية بـ 35 ألف مبنى مدمر. وبناء على ذلك فإن ما بقي "حيّاً" من المباني يهدده الزلزال بالدمار والموت لأن البيوت "تتنفس" مثل أصحابها.
ويبين تحليل الأضرار بالقمر الصناعي أن جميع الأحياء داخل حلب باستثناء حي واحد تعرضت لبعض الأضرار في المباني، وخاصة الأحياء داخل ووسط حلب حيث سجل فيها مستوى عال من الضرر. وبشكل عام، تظهر المناطق في غربي المدينة أقل ضررا من شرقها الذي تعرض لمستوى أعلى من الدمار والضرر نتيجة القصف والغارات الجوية.
وقال رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا سيرجيو بينيرو في تقريره النصف سنوي الصادر في آذار 2017 والذي غطى النصف الثاني من عام 2016 إن الحصار الذي تعرضت له الأحياء الشرقية من المدينة "كان من الانتهاكات الأكثر خطورة للقانون الدولي، والتي ارتكبتها كل الجهات المتحاربة".
وأضاف "التدمير ليس بشيء جديد في الحرب السورية، لكن حجم ما حصل في حلب غير مسبوق". وتابع "من دون تحديد أي أهداف عسكرية دقيقة، نفذت القوات السورية والروسية غارات جوية يومية على شرقي مدينة حلب، ما أسفر عن وقوع مئات الخسائر في الأرواح. تشير عمليات القصف المتكررة التي طالت المستشفيات والمدارس والأسواق من دون أي إنذارات مسبقة بقوة إلى أن حصار المدينة واستهداف البنى التحتية المدنية شكلا جزءاً من استراتيجية متقنة لإجبارها على الاستسلام".
وتابع أنه "كان الدمار الذي شهدته الأحياء الشرقية من المدينة شديدا لدرجة بدا كما لو أنها تعرضت لزلزال عنيف"، وهو ما يحاول النظام السوري استغلاله اليوم من خلال تحويل "ركام القصف" إلى "ركام زلازل" للحصول على مساعدات إنسانية على حساب المدنيين منكوبي الزلزال. وعلى سبيل المثال تظهر الصور أدناه دماراً ناتجا عن القصف والمعارك.
وكانت وسائل إعلام غربية قد زارت حلب عقب الزلزال وخاصة الأحياء الشرقية، وقالت إنه "كان من الصعب التمييز بين الدمار الذي سببته الحرب الأهلية التي دامت أكثر من عقد وما سببه الزلزال".
الأرض ترتج في حلب
صعّدت قوات النظام وروسيا القصف على أحياء حلب الشرقية في الـ22 من نيسان 2016، وحتى 21 من كانون الأول من العام ذاته، وجرب الروس أكثر من 320 نوعاً من السلاح في سوريا منها قذائف كراسنوبول و صواريخ "كاليبر (KALIBR)" المجنحة والقنابل الذكية "KAB-500 وKAB-1500" وراجمات الصواريخ الثقيلة "TOC-1A" المعروفة باسم "لهيب الشمس" والقنابل الفراغية أو الحرارية.
وشهد شهر آب من العام 2017 العديد من تصريحات الضباط الروس، من بينها ما أدلى بها آنذاك نائب وزير الدفاع الروسي "يوري بوريزوف"، عن تجريب أكثر من 600 سلاح ومعدات عسكرية جديدة.
وفي وقت سابق قالت مصادر من مدينة حلب لصحيفة "التايمز" البريطانية، إنه منذ انهيار الهدنة في المدينة عام 2016، بدأت الطائرات الروسية باستخدام نوع جديد من القنابل ذات القدرة التدميرية.
وأضافت أن هذه القنابل لا تستهدف المباني فقط بل تدمر كل شيء على الأرض، وهي تستخدم عادة لاستهداف تحصينات القواعد العسكرية، وأكدت الصحيفة أن القنابل هذه تسبب زلازل عندما تستهدف أي موقع، وتدمر الكثير من المباني بسبب الضغط الناتج عنها. ويمكن أن تتسلل هذه القنابل التي يعتقد أنها "FAB-500"، تحت الأرض وهي مدمرة بشدة.
هيومن رايتس ووتش نقلت عن شهود عيان حينها أن القصف كان مرعبا لا سيما بسبب الاستخدام المتكرر لقنابل قالوا إنهم رؤوها لأول مرة في مدينة حلب. وكانوا يُسمّونها "قنابل مخترقة للتحصينات"، وأوضحوا أنه في كثير من الأحيان إن هذه الأسلحة كانت قادرة على اختراق وهدم مبان إسمنتية متعددة الطوابق بالكامل، ما يعني أن الاختباء في الأقبية والملاجئ تحت الأرض لم يعد آمنا. وأضافوا أن بعض الهجمات التي خلّفت أعدادا كبيرة من الإصابات في صفوف المدنيين كانت من الغارات الجوية التي تسببت بانهيار مبانٍ كاملة.
وكشفت هيومن رايتس ووتش عبر تحليل صور الأقمار الصناعية أكثر من 950 موقع انفجار ذخيرة جديد في الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في حلب ما بين 19 أيلول و18 تشرين الأول. تتفق مواقع الأثر مع تفجير قنابل كبيرة شديدة الانفجار. توزعت مواقع الضرر على جميع الأحياء تحت سيطرة المعارضة تقريبا. وبحسب بعض الشهود أدى القصف الروسي إلى ارتجاج الأرض وقت وقوع الهجوم وكان التدمير واسع النطاق.
الدفاع المدني السوري وثق في تقرير له استهداف قذائف كراسنوبول الروسية شديدة التدمير الموجهة بالليزر والبالغ عددها 63 هجوماً موثقاً في شمال غربي سوريا، وشملت أهداف هذه الهجمات البنية التحتية المدنية التي يحميها القانون الإنساني الدولي، في مناطق حيوية قريبة من خطوط التماس مع قوات النظام وروسيا، وتضم هذه المنطقة عدداً كبيراً من المدنيين الذين عادوا بعد وقف إطلاق النار.
واستهدفت الهجمات 43 منزلاً، و 11 هجمة على الحقول الزراعية واستهدفت الهجمات أيضاً مخيمات المهجرين، ومستشفى الأتارب غربي حلب، ونقطة مرعيان الطبية جنوبي إدلب ومركز للخوذ البيضاء في بلدة قسطون في سهل الغاب.
ويضيف التقرير "يشكل هذا النوع من الذخائر خطراً كبيراً على المدنيين بسبب دقة الإصابة وشدة تدميره ويمكن أن تخترق القذيفة الجدران وتسبب ضرراً شديداً للمباني حيث أن معظم المباني التي تم استهدافها بقذائف كراسنوبول قد دُمرت بالكامل".
وكانت وسائل إعلام مقربة من النظام السوري قد نقلت عن مدير هيئة الآثار والمتاحف في سوريا مأمون عبد الكريم قوله "إن حلب باتت تشبه المدن الأوروبية التي عانت من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية".
حلب المتصدعة
يقول النظام السوري إن عدد العائلات التي تحتاج إلى إيواء في حلب بلغ 13 ألف أسرة بناء على نتائج مسح الأبنية المتضررة عقب الزلزال الأخير. وانتشرت صور ومقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام تظهر عناصر من النظام يهدمون أبنية في حلب بحجة أنها تضررت في الزلزال، وكأن المدينة لم تشتعل تحت براميله وتحت صواريخ "لهيب الشمس" الروسية.
وكان مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ قد زار حلب للاطلاع على الاحتياجات الإنسانية عقب الزلازل وبالطبع رافقه النظام في رحلة إلى الأحياء التي دمرها القصف والغارات الجوية الروسية.
قوات النظام سيطرت على مدينة حلب نهاية عام 2016، بعد أن تعرضت أحياؤها الشرقية كالشعار والحيدرية والقاطرجي ومساكن هنانو والشيخ سعيد والعامرية والسكري وبستان القصر والكلاسة وغيرها لقصف مكثف. ولم يتم تقديم الصيانة أو إعادة بناء الأبنية المهدمة، رغم كل ما روّج له النظام عن إعادة الإعمار وهو ما يجعل أبنيتها عرضة للانهيار في أي لحظة، ليس أمام زلزال مدمر فقط بل أمام سقوط قوي للأمطار.
انهيار المباني في حلب
وشهدت الأحياء الشرقية في حلب، انهيار العديد من المباني المتضررة من جراء الغارات الجوية المكثفة لطائرات النظام وروسيا على المنطقة، حيث توفي 4 مدنيين في آب 2020، نتيجة انهيار مبنى سكني في حي الصالحين.
وفي شباط 2019 توفي 11 شخصاً إثر انهيار مبنى سكني مؤلف من خمسة طوابق في منطقة أرض الناصر بحي صلاح الدين في حلب، والذي يعد من أكثر الأحياء تضرراً إثر القصف المكثف الذي طاله من قوات النظام لسنوات. ووثقت وفاة وإصابة العشرات من أبناء حلب نتيجة انهيار أبنية متصدعة، 31 منهم في عام 2019.
وقتل 3 مدنيين في منتصف تموز 2019 جراء انهيار سقف مسجد القدومي بحي الجديدة، وقضى 5 أشخاص من عائلة واحدة، وهم امرأتان وطفلان ورجل فقدوا حياتهم جراء انهيار بناء سكني متصدع في حي الصالحين بتاريخ السابع من كانون الثاني 2019.
وفي العام نفسه، انهار مبنى مؤلف من أربعة طوابق في حي كرم البيك بمنطقة الحلوانية في حلب دون وقوع ضحايا بشرية، بحسب وكالة أنباء النظام الرسمية "سانا". وفي 22 من الشهر الماضي، قُتل 17 مدنياً إثر انهيار مبنى سكني مؤلّف من خمسة طوابق في حي الشيخ مقصود.