تعتبر الحرب السورية من أكبر النزاعات المستمرة بالوكالة في العالم على الرغم من تجميدها في الوقت الراهن، وذلك لأن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل أصبح لها مناطق نفوذ في سوريا اليوم، وتحوي تلك المناطق العشرات من الفصائل التي حددت كل منها هدفها النهائي الذي يختلف عن البقية.
شهدت المنطقة الشرقية بسوريا قتالاً مباشراً بين الجيش الأميركي والمرتزقة الروس، وهذه المعركة لم تكتف بتحديد إيقاع الحرب السورية التي جرى تجميدها فحسب، بل أيضاً حددت شكل المواجهة الشاملة بين أميركا وروسيا.
لذا فإن أي معركة قد تقوم لاحقاً بين فاغنر والقوات الخاصة الأميركية قد تشعل جنون العظمة لدى الكرملين فيما يخص الإمكانيات العسكرية التقليدية لروسيا، كما ستحدد إيقاع التهديدات النووية خلال الغزو الروسي لأوكرانيا.
معركة خشام
على خلفية صعود تنظيم الدولة، نفذ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة عمليات لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا، حيث عملت القوات الخاصة الأميركية وقوات البحرية على رفد قوات سوريا الديمقراطية في سوريا.
وفي ليل السابع من شباط عام 2018، احتشدت دفعة كبيرة من قوات النظام ترفدها مجموعة فاغنر السيئة الصيت بالقرب من حقول كونكو بدير الزور، حيث تعمل العشرات من قوات العمليات الخاصة الأميركية وقوات قسد في قاعدة مهمتها تسيير دوريات في المنطقة. أما التعزيزات التي أتت للجيش السوري وللقوات الروسية فتمثلت بعدد من دبابات ت-72 وناقلات الجنود المصفحة.
تعتبر حقول كونكو من أغنى الحقول بالنفط ولهذا سعى النظام جاهداً لاستعادتها ليخفف عن نفسه وطأة العقوبات الدولية. في حين رأت فاغنر في حقول النفط هذه مصدراً للدخل بوسعها الاعتماد عليه مستقبلاً بما أنها لا تتبع للجيش الروسي النظامي ومعظم تمويلها يأتي عبر السوق السوداء.
شرعت المفرزة السورية مع مرتزقة فاغنر بمعركة خشام عندما أطلقت النار على النقطة العسكرية الأميركية عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً، فاتصل البنتاغون مباشرة بوزارة الدفاع الروسية لمواجهتها بالأمر، فما كان من موسكو إلا أن تبرأت فورياً من الهجوم بسبب الضغط الكبير والخوف من الاعتراف.
بعد اكتشاف الخدعة الروسية، أعطى البنتاغون الضوء الأخضر لسلاح الجو الأميركي ليشن هجوماً برياً قوياً لم يعرف له مثيل منذ أيام غزو العراق عام 2003، وشارك فيه عدد كبير من طائرات إف-15 وإف-22 والأباتشي وإيه سي-130 وب-52، ومسيرات ريبر إم كيو-9 حيث استهدف هذا الهجوم المضاد المرتزقة الروس والعسكر السوريين.
وإلى جانب القوة الجوية الأميركية، استهدفت مدفعية فيلق البحرية الأميركية مواقع قوات النظام وفاغنر بهدف تأمين غطاء لقوات العمليات الخاصة الأميركية وحلفائهم من قوات سوريا الديمقراطية، ما أسفر عن مقتل المئات من فاغنر وقوات النظام في غضون فترة تقل عن ساعة، مع تدمير معظم عتادهم.
ورد فيما جرى تسريبه من تسجيلات وشهادات روسية مدى تفوق الأميركيين مقارنة بالروس وكيف تركهم القادة ليقتلوا هناك، وتبين بأن الروس والسوريين لم يكونوا مستعدين أبداً لأي اشتباك تقليدي، بل كان غرضهم استعراض القوة في محاولة لإقناع الأميركيين بالانسحاب.
تقييم ساحة القتال
لم تكن معركة خشام مجرد ضربة حقيقية للكرملين بل أيضاً كانت بمثابة ضربة أخلاقية أيضاً، لأن من نجا من المرتزقة سرد قصصاً مرعبة، ومن خلال الخبرة القتالية لتلك المجموعة، يمكننا القول بأنها لم تتعرض بحياتها لخصم كالقوات الأميركية، مقارنة بالميليشيات غير التقليدية التي واجهتها والجيوش المفككة وغير المنظمة لدول العالم الثالث.
فرضت الولايات المتحدة حالة ردع كبيرة منعت روسيا وأياً من وكلائها وأتباعها من محاولة شن أي هجوم مباشر بالقوة ضد القوات الأميركية في سوريا.
أما موسكو التي بقيت على مدار سنين تنكر سيطرتها على مجموعة فاغنر أو تمتعها بأي سلطة مباشرة عليها، فقد اعترفت أخيراً بدعمها لها وبتأسيس تلك المؤسسة المخصصة للمرتزقة خلال خطاب تحدث فيه فلاديمير بوتين عن تلك المؤسسة خلال العام الماضي عقب التمرد الفاشل الذي قادته ضده.
يمكن تقييم اعتراف بوتين بسيطرة الكرملين على فاغنر على مدار سنوات طويلة على أن كبار الضباط في موسكو كانوا على دراية بهذا الهجوم وقاموا بتنظيمه من خلال ميليشيات موالية لنظام الأسد بالإضافة إلى مرتزقتهم، بما أن العمليات السرية التي نفذتها مجموعة فاغنر على مدار سنين مكنت روسيا من إنكار صلتها بتلك المجموعة مع تقديم أدلة منطقية على ذلك.
تحت وطأة التفوق الجوي الأميركي، أبيدت قوات مجموعة فاغنر وعساكر الأسد كما حدث للحرس الجمهوري العراقي في كلا الحربين اللتين خاضهما ضد الولايات المتحدة. وبما أن الجيش كان يركز على العمليات البرية وعلى المدفعية، لذا لم يكن بوسع القوة الجوية الروسية مضاهاة نظيرتها الأميركية حتى لو جرى استدعاؤها كتعزيزات لدعم القوات الروسية في معركة خشام.
مواجهة أذكت مخاوف الروس من مواجهة مباشرة مع الغرب
تجسدت أسوأ مخاوف الروس بعد معركة خشام، إذ على الرغم من توسيع روسيا لصناعتها الدفاعية ومدها لنفوذها في عدد من المناطق خلال السنوات الماضية، بقيت تلك الدولة غير قادرة على مجاراة الولايات المتحدة وعلى الأخص في أي مواجهة عسكرية مباشرة، ولو تم ذلك من خلال المرتزقة أو الأتباع السوريين، وذلك لأن الجيش الروسي جيش بري، في حين تركز الولايات المتحدة على عقيدة التفوق الجوي، ولهذا كانت موسكو على استعداد لترك مجموعة فاغنر وعساكر النظام ليلاقوا مصيرهم بالتصفية والإبادة نظراً لعدم توفر ما يكفي من العتاد في سوريا لردع القوات الأميركية التي تخضع للقيادة الوسطى وإرغامها على الانسحاب.
قبل الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، توقف التطور العسكري الروسي بسبب الفساد، على الرغم من تحقيق بعض الانتصارات الكبرى من خلال دعم قوات النظام خلال الحرب السورية. بيد أن حاملة الطائرات الوحيدة في روسيا لم تبارح مكانها أبداً، أي أنهم لن يرسلوها إلى أوكرانيا بسبب الأعطال التي تعاني منها قطعها وكذلك بسبب التكاليف المترتبة على ذلك، كما لم يعد يعمل من طائرات سوخوي-57 سوى عدد ضئيل.
وبالمقارنة مع روسيا، فإن القوة الجوية الأميركية قد بلغت اليوم مستويات جديدة بوجود طائرات إف-35 وإف-16، وإف-22، والتي بوسعها أن تخوض قتالاً مع أي طائرة حربية أخرى في العالم، وهذا لا يشمل قوات الرد السريع، وإمكانات الانتشار العالمي للجيش الأميركي، وكل ذلك لا يوجد له أي مثيل لدى روسيا.
إلى جانب معركة خشام، حاولت روسيا أن تمارس خدعة في المجال الجوي التركية، وبما أن أنقرة أدركت خدعة موسكو، لذا فقد أسقطت طائرة سوخوي من مجالها الجوي عقب ثوان معدودات، ما أسفر عن مقتل طيارين.
كيف انعكست معركة خشام على ما يجري في أوكرانيا اليوم؟!
لا تعتبر أميركا خصماً متفوقاً على روسيا في المجال الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي فحسب، بل إنها عضو مؤسس لحلف شمال الأطلسي الذي يقف ضد الطموحات الاستعمارية المتجددة للكرملين.
تكبدت روسيا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد بأوكرانيا، وهذه الخسائر لم تشهد مثلها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. وفي تلك الأثناء، لم يتكبد حلف شمال الأطلسي أي خسائر بشرية أو مادية مع تأخيره للدعم المقدم لأوكرانيا والذي صار يصلها على شكل دفعات محدودة.
تركز كامل الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي على القوة الجوية، حيث يعتمد معظم أعضائه على طائرات إف-35 وإف-16، وبعضهم يستعين بطائرات غرينبنز، في حين تفتقر روسيا حالياً للقوة الجوية والبشرية والمركبات المصفحة التي تمكنها من شن حرب مباشرة ضد حلف شمال الأطلسي، وبسبب كل ذلك، أضحت روسيا تعتمد على آخر ورقة رابحة لديها، ألا وهي التهديد النووي.
خلال العامين المنصرمين، واصلت روسيا لجوءها للتهديد باستخدام الأسلحة النووية حتى تمنع المساعدات العسكرية الغربية من الوصول إلى أوكرانيا، بيد أن تلك "الخطوط الحمراء" قد جرى تجاوزها عند تسليم أوكرانيا صواريخ هيمارس ودبابات ليوبارد وصواريخ ستورم شادو وسكالب والغارات الأخيرة التي استهدفت الأراضي الروسية والتي نفذت بأسلحة غربية.
لم تؤدِ معركة خشام التي شنها المرتزقة الروس إلا لتفاقم أعظم مخاوف الكرملين تجاه خوضها لحرب تقليدية مباشرة مع جيش يتفوق عليها جوياً في الوقت الراهن، ويتسم برده السريع ونشره لقواته في كل مكان. ونتيجة لذلك، ستواصل روسيا استعانتها بورقة التهديد النووي لتماطل حتى توسع إنتاجها من الأسلحة ولتخوض مفاوضات مستقبلاً.
وبما أن روسيا باتت تعرف الآن بأن إمكاناتها لا تخولها خوض حرب أوسع مع أميركا أو حلف شمال الأطلسي، لذا فإنها ستواصل استعانتها بورقة التهديد بالنووي لا لتكسب الوقت فحسب حتى توسع من إنتاجها للأسلحة، بل أيضاً لتحاول أن ترسم إيقاع المفاوضات في المستقبل.
المصدر: 1945