عندما شن فلاديمير بوتين غزوه الشامل على أوكرانيا في 24 من شباط الماضي، توقع معظم المراقبين لهذا النزاع أن ينتهي في غضون أيام، ولكن بعد مرور أكثر من شهر على بداية النزاع، انسحبت القوات الروسية من شمالي أوكرانيا عقب هزيمة ساحقة مذلة في معركة السيطرة على كييف.
وبما أن الحرب ما تزال بعيدة عن بلوغ نهايتها، فقد غيرت النجاحات التي حققتها أوكرانيا خلال مرحلة مبكرة شكل النزاع وأطلقت العنان لتفاؤل حذر تجاه انتصار أوكرانيا في نهاية المطاف. فقد احتفى جمهور عريض في مختلف بقاع العالم بالهزيمة التي مني بها الغزاة الذين أرسلهم بوتين، بما أن مقاومة المدافعين الأوكرانيين وجسارتهم قد تحولت إلى مصدر إلهام في نظر شعوب الأرض قاطبة. كما أن خسارة روسيا قد تفيد المجتمع الدولي بشكل كبير.
مكاسب أوروبية
أول المستفيدين وأهمهم هي أوكرانيا نفسها بكل تأكيد، إذ ستتمتع حينذاك بحقبة من الاستقلال الحقيقي، كما قد يكلل ذلك بانضمامها للاتحاد الأوروبي، بما أنها ستتحول بعد تلك الحرب إلى مصدر إلهام لكل دولة ديمقراطية ناشئة في العالم. بيد أن عملية إعادة إعمار البلاد ستتم على مدار فترة طويلة من الزمن بالضرورة، إلا أن أوكرانيا الجديدة التي ستخرج من بين الركام ستصبح دولة عضواً مهمة ضمن المجتمع الأوروبي وستتمتع بإحساس عميق بالقومية مع سعيها بشكل كبير إلى تطوير وتحديث بنيتها التحتية.
وقد تصل فوائد هزيمة روسيا إلى بيلاروسيا، حيث يتمسك أليكساندر لوكاشينكا التابع للكرملين بالسلطة بفضل دعم بوتين الكبير ورعايته له، ولهذا سيمنح انتصار أوكرانيا دفعة جديدة للحركة الديمقراطية في بيلاروسيا، بعدما أصبح معظم روادها منفيين خارج البلاد، ومن المرجح أن تتحول مسألة خروج ديكتاتور بيلاروسيا الذي ضخمته روسيا من السلطة إلى مسألة وقت، مما سيفتح المجال أمام ظهور بيلاروسيا أوروبية.
قد يقدم نجاح أوكرانيا في هذه الحرب فرصة ذهبية لجورجيا ومولدوفا لتستعيد كل منهما كامل سيادتها ولتعيد تأكيد سلطتها وسيطرتها على الجيوب التي تسيطر عليها روسيا داخل أراضيها. إذ لدى مولدوفا حكومة موالية لأوروبا تستحق كل الدعم، أما جورجيا، فالأغلبية المطالبة بالديمقراطية في البلاد بدأت تطالب اليوم بتأمين مستقبل أفضل، أي أن كلتا هاتين الدولتين تستحقان أن تنعما بالاستقلال والتوحد والحرية.
وفي حال تقوض سلطة الكرملين عبر هزيمة في أوكرانيا، لا بد وأن تقتنص شعوب شمالي القوقاز الفرصة لتستعيد تنوعها الثقافي واللغوي، وقد توسع كل من كازاخستان وما يجاورها من الدول في آسيا الوسطى أفقها عبر البحث عن أسواق عالمية جديدة، مع احتمال إطلاق موجة جديدة من الإصلاحات.
مكاسب دولية
قد يستفيد ضحايا الحملات العسكرية والحروب السرية التي شنها بوتين والتي حظيت باهتمام أقل عالمياً من هزيمة روسيا، إذ قد يتغير موقف فنزويلا في نهاية الأمر، كما ستحرم ليبيا من مصدر الأذى الكبير الذي يهددها، في حين ستتخلص كل من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى من مجموعة فاغنر الخبيثة المتهمة بالتورط في جولات جديدة من مجازر الإبادة الجماعية. إذ بعد ستة انقلابات وقف بوتين وراءها خلال ثلاث سنوات فقط، قد تخلق خسارة روسيا في أوكرانيا حالة استقرار تحتاجها كل من دولتي الساحل الأفريقي وأفريقيا الغربية.
تعتبر دولة روسيا الحديثة ضمن أوساط واسعة بأنها من أهم الدول الممولة للإرهاب على مستوى العالم، إذ لطالما اتهمت موسكو بتشجيع تنظيم القاعدة على الانقلاب ضد أميركا، وقد أقام الكرملين مؤخراً علاقات ودية مع طالبان، كما دعمت موسكو في تلك الأثناء الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وغيرها. وعليه، فإن أي هزيمة لروسيا ستكون بمنزلة عقوبة لإيران، كما ستضعف كثيرا من العناصر المارقة الأخرى التي تتطلع لكسب الدعم من قبل موسكو.
موقف الشعبويين من الهزيمة الروسية
بقيت روسيا على مدار سنوات عديدة تزعج الدول الديمقراطية الغربية باعتداءاتها، وتسعى لاستغلال الانقسامات الاجتماعية القائمة إن أمكنها ذلك. إلا أن تراجع التدخل الروسي لا بد وأن يفسح المجال لظهور سياسات أفضل وعمليات صنع قرار أحسن من قبل الحكومات المنتخبة في كل من أوروبا وشمال أفريقيا. ومع انقطاع الاستفادة من التضخيم المصطنع الذي تفرضه شركات تابعة للكرملين هدفها التأثير على الآراء السياسية وعمليات صنع القرار، سيغدو من الصعب جداً على الشعبويين كسب أي تأييد أو زخم.
دور الهزيمة في المحاسبة
من الضروري أن تترافق هزيمة روسيا مع عملية محاسبة على جرائم الحرب الروسية، بالرغم من تأخر ذلك لفترة طويلة من الزمان. إذ ابتداء من المقالة التي نشرها بوتين في عام 2021 والتي نفى فيها وجود أوكرانيا، مروراً بما أطلقه من تخاريف فاشية عشية الغزو، كشف الرئيس الروسي للجميع عن رغبته بتدمير الدولة الأوكرانية، وما الإعدامات الجماعية التي جرت في بوتشا وغيرها من المناطق في أوكرانيا إلا مجرد تأكيد لحقيقة طبيعة الحملة الروسية على أوكرانيا.
اتضح لنا اليوم بأننا نشهد مجزرة جماعية تتكشف فصولها في قلب أوروبا، إذ بعدما رشحت تفاصيل جرائم الحرب الروسية خلال الأيام الماضية، أصدر يوجين فينكلار وهو أستاذ في جامعة جونز هوبكينز الأميركية حكمه بشكل قاطع وهو: "بما أنني باحث متخصص بأمور الإبادة الجماعية لذا فإنني أعتمد المنهج التجريبي، ومن عادتي نبذ ما يقال وعدم الالتفات إليه، ولهذا شككت في المزاعم التي تؤكد وقوع عملية إبادة جماعية، لأن الناشطين يطلقون هذا الوصف على ما يجري في كل مكان تقريباً. إلا أنني لم أعد أشك بذلك الآن، إذ هنالك أعمال، وهنالك نية، ولذلك فإني أصف ما جرى بأنه عملية إبادة جماعية بكل وضوح وبساطة، وقد تم ارتكاب ذلك الفعل حتى يراه الجميع".
تعكس جرائم روسيا في أوكرانيا إحساساً بالقدرة على الإفلات من العقاب، وهذا ما يتبدى بما يمارسه بوتين من أفعال على الساحة الدولية. إذ منذ غزوه للقرم في عام 2014 والجرائم التي ارتكبها في سوريا، وحتى الاغتيالات السياسية والتدخل في الانتخابات التي جرت في أوروبا وفي الولايات المتحدة، تصرف زعيم روسيا وكأنه فوق القانون الدولي، ولهذا قد يمثل انتصار أوكرانيا خطوة مهمة على طريق محاسبة بوتين.
لقد ضاق العالم على بوتين منذ مدة، إذ قبل عام أو يزيد، انتقل بوتين من مرحلة الشماتة بواشنطن بعد التمرد الذي قام فيها، إلى الأنين تحت وطأة نكبات عسكرية مذلة في حرب توقع لها أغلب الروس أن تنتهي في غضون ساعات قليلة، فوجد نفسه اليوم وقد تحول إلى شخص منبوذ على المستوى الدولي يوصف بأنه مجرم حرب في العواصم الغربية.
كيف سيبدو شكل النصر في أوكرانيا؟
في حال حصول أوكرانيا على دعم عسكري وتعزيزات من قبل الدول الغربية، عندها يمكن للجيش الأوكراني دحر القوات الروسية وإخراجها من غربي البلاد إلى جانب تحرير الشريط الساحلي جنوباً. وهنا لا بد من وجود تفوق جوي مع مزيد من التعزيزات البحرية لكسر الحصار المخالف لكل القوانين والذي فرضته روسيا على موانئ أوكرانيا المطلة على البحر الأسود، وهذا بدوره لا بد وأن يؤدي إلى تحرير القرم في نهاية المطاف.
ثم إن روسيا ستبقى تعاني من العقوبات الدولية حتى بعد هزيمتها، كما ستظل تعيش حالة نقص في العوائد المترتبة على صادرات الطاقة بما أن الدول التي تعتبر مستهلكاً أساسياً لتلك الموارد ستقلب ظهر المجن لموسكو بشكل تدريجي ولكن باطراد، وبعدها ستبحث في مكان آخر عن جهات موردة أضعف من الناحية الجيوسياسية. وهنا قد يضطر الكرملين لمعالجة الاضطرابات الكبيرة التي تحدث في الداخل والتي لا بد وأن تظهر نتيجة لصدمة الهزيمة في أوكرانيا.
هنالك كثير من الأمور التي ستبهج العالم بأسره في حال هزيمة روسيا، وأهمها تراجع قدرة الكرملين بشكل كبير على التدخل في زعزعة استقرار الأنشطة الدولية، ثم إن كل دولة حرة ملتزمة بحكم القانون لديها مصلحة جلية وواضحة في مساعدة أوكرانيا على تحقيق النصر على روسيا، وذلك لأن العالم سيصبح أفضل بكثير إن خلا من بوتين وتدخلاته وإفلاته من العقاب.
المصدر: المجلس الأطلسي