"يجب ألا نأخذ الحياة على محمل الجد، فلم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. ولم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة مُمكنة: ألّا نأخذه على محمل الجد، وبهذا نُقاوم فراغ المعنى وعبث الحياة".
تلخص هذه المقولة المقتبسة من رواية "حفلة التفاهة" لـ "ميلان كونديرا" اتجاهات سياسية وفكرية كثيرة، وربما تكون منطلقاً لرواج كثير من الفنون التي تعتمد على الكوميديا.
"نعم إنها كذلك فعلاً"، هكذا يقول أيضاً حال كثير من السوريين، فالحياة التي أمعنت في إيلامهم لم يمكنهم احتمال البقاء فيها إلا من خلال سخريتهم من واقعها والقفز فوق الألم الذي بات لا يحتمل.
إن تجاهل الألم قد لا يفيد في كثير من الأحيان، وربما قد يكون من الأجدى مواجهته بالقوة والجرأة ذاتها التي واجهنا فيها، كي ننجح في العلاج من آثاره أو من إدراك خيوط التعامل معه على أقل تقدير.
ابتكر السوريون من بعد استمرار المقتلة سنوات كثيرة أساليب مختلفة للنجاح في صراع البقاء، فقد اتجهت شريحة كبيرة لعلاج جراحها بالكتابة، وهي المجال الذي لاقى ازدهاراً ورواجاً كبيراً في العقد الأخير، في حين اتجهت شريحة أخرى إلى الفن وأخرى نشطت عبر وسائل التواصل وأخرى اختارت الانسحاب من المشهد بعمومه والانكفاء على ذاتها.
لطالما كان السوريون شعباً محباً للفكاهة والمزاح وميالاً بطبعه إلى المرح، حتى إنهم قاوموا من خلاله القمع السياسي من بعد تغول الدولة البوليسية في سوريا
أما عن الناس البسطاء الذين لا يبرعون في الأدب والفن والظهور الإعلامي فقد صنعوا لأنفسهم فناً يقاومون به الحياة، إنه فن "السخرية" كان أساسه تقزيم الأخبار وجعلها مادة للضحك وابتكار النكات وتداولها والضحك المستمر بخصوصها مهما كانت موجعة أو تمس تفاصيلهم اليومية والمعيشية بشكل مباشر.
لطالما كان السوريون شعباً محباً للفكاهة والمزاح وميالاً بطبعه إلى المرح، حتى إنهم قاوموا من خلاله القمع السياسي من بعد تغول الدولة البوليسية في سوريا.
تناول السوريون المواضيع التي يعرفون أنها تؤثر على حيواتهم بشكل مباشر من دون أن يكون لهم أدنى تأثير في تغيير مجراها، فسخروا من المجتمع ومن المشكلات الاقتصادية، ومن الأخبار السياسية، وسيناريوهات الحلول المقترحة على طاولات التفاوض الدولية والمحلية، وسخروا من الشخصيات الفنية والسياسية، حتى أصبحت السخرية بالنسبة إليهم نافذتهم إلى العالم.
بنظرة سريعة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أولويتها الفيسبوك تحديداً الذي يميل أغلب السوريين إلى استخدامه، نلاحظ وجود أكثر من صفحة سورية ساخرة ولديها من المتابعين ما قد يتجاوز مئات الآلاف مثل صفحة "شوئسمو" أو صفحة "ولدي ماهر" و"حاجز مشترك" و"يوميات قذيفة هاون"، تختلف هوية هذه الصفحات واتجاهاتها السياسية لكنها تشترك جميعاً بطابع التهكم من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجارية.
اعتمد السوريون تعزيز ثقافة عدم الاكتراث، وبرعوا في تحطيم كثير من التابوهات وإزالة الهالة القدسية حول كثير من الأشياء، وأبدعوا في ذلك في كثير من الأحيان حتى إنهم تفوّقوا في ذلك على كثير من الشعوب التي تتقاسم معهم في مأساة الحرب وتعاني من سرقة ثوراتها.
تشير كثير من المدارس النفسية إلى أن التهكم هو وسيلة ناجحة للتنفيس عن النفس وأن من ينتهجونه قد يتمتعون بصحة نفسية أكثر من نظرائهم الذين يميلون إلى أخذ الأمور بجدية أكثر، لكن أكثر ما ربحناه من هذه المعادلة ربما هو مقدرتنا على مقاومة فجاجة العالم.
لقد كان السوريون أمهر من أقرانهم في تحويل المأساة إلى كوميديا هادفة يعبرون من خلالها عن غضبهم ورفضهم، كما كانت الوسيلة الأنجح للصراخ في وجه ذلك الظلم الموغل من دون أن يحاسب على ذلك الصراخ قانون أو أن يجرّمه بشر.
كان من حقنا أن نواجه ذلك العالم غير المتعاطف مع مصابنا إلى درجة أنه حرمنا من حقنا في الصراخ من جراء الألم الذي استوطن في تفاصيل حياتنا البسيطة أو المعقدة، المتكررة أو النادرة، فاخترعنا تلك المساحة الضيقة كافية لنعبر فيها عن ألمنا بحرية، من دون أن يهاجمنا أحد.
لا يمكن اعتبار ذلك السلوك بأنه كان محض حب للسخرية أو الانحياز للمزاح المستمر، بقدر ما كان قشة النجاة الأخيرة التي تعلقنا بها بعد الوصول إلى أعلى مستويات عتبة الألم
أصبحت تلك المساحة ملعبنا الحر، وغابت عن أنظار الجميع أو ربما تركوه لنا ذلك كي نتحرك فيه بخفة، فأصبحنا نحلق فيه بحرية وصارت مشكلاتنا الأساسية مادة للسخرية والنكات المتداولة، ذلك أننا نعرف أننا لا نستطيع فعل ما أكثر من ذلك وأن ذلك هو سقف الحرية الأكثر علوّاً، وبات يقيناً أننا لا نملك سواها فأبدعنا في صنوف السخرية حتى صارت فناً احترافياً.
ربما لم تكن تلك المساحة خيارنا الواعي، لكنها ربما كانت الحل الأكثر منطقية في مواجهة العالم الذي ينضح بجنون لا يستوعبه عقل، فاخترنا إيجاد حل أخير للاستمرار في مجاراته أو للبقاء فيه، ما جعلنا نوصم باللامبالاة في رأي كثيرين ممن نتقاسم معهم هموم الحياة.
لا يمكن اعتبار ذلك السلوك بأنه كان محض حب للسخرية أو الانحياز للمزاح المستمر، بقدر ما كان قشة النجاة الأخيرة التي تعلقنا بها بعد الوصول إلى أعلى مستويات عتبة الألم من جراء ما تجرعناه من ألم وعجز مرافق خلال عشر سنوات، لم تحقق فيه الأزمة السورية سوى أزمات متتالية ومتكررة عاماً بعد عام.