في الريف المحيط بمدينة الحسكة، يميل الناس للسفر تحت جنح الظلام، بعدما انتشرت الكثير من الشائعات حول تسلل المقاتلين إلى الطرقات وتعقبهم لمن يمر بها. إذ بعد مرور ثلاث سنوات على الهزيمة التي لحقت بدولة الخلافة المزعومة، أخذ تنظيم الدولة يعيد ترتيب صفوفه في الأماكن المظلمة في سوريا، ولهذا لم يكن القرويون، خلا البعض منهم، على استعداد ليجربوا حظهم معهم.
يقول خليفة سالم الجدال، 64 عاماً، وملامح الجدية تلوح على وجهه المتغضن بفعل السنين والشمس: "هذا المكان ليس بآمن، إذ هنالك أماكن أعرف أنه ليس بوسعي أن أقود سيارتي فيها، بسبب وجود خلايا نائمة هناك".
بما أن خليفة فلاح من قرية جلو بريف الحسكة، فهو يعرف المخاطر الموجودة في تلك المنطقة أكثر من غيره، فقد عذبه المقاتلون عندما سيطروا على قريته وحكموها حسبما ذكر، والآن، أصبح عدد المقاتلين في ازدياد ولكن بالسر، إذ في بعض الأحيان، يظهر هؤلاء المقاتلون ببزاتهم العسكرية المموهة بحيث يصعب على المرء أن يميزهم من بعيد عن قوات الأمن التي تدعمها الولايات المتحدة والموجودة في هذه المنطقة.
عمليات أكثر تعقيداً
تلك هي حال تنظيم الدولة في عام 2022 بعد أن خسر مناطق سيطرته، لكنه حافظ على بقاء مجموعات صغيرة، تقوم بعمليات يتزايد تعقيدها وخطورتها، وتستغل الفترات الفاصلة بين المراحل السياسية المتصدعة في سوريا لتعيد تشكيل نفسها. ويستغل عناصر تنظيم الدولة مساعي الإدارة الذاتية المحلية للسيطرة بشكل كامل على مساحة شاسعة من شمال شرقي سوريا بما أنها أصبحت تسيطر على تلك المنطقة منذ سقوط "دولة الخلافة"، ولهذا يقوم التنظيم بتجنيد مخبرين من الأحياء الفقيرة، وترويع كل من يتعامل مع الإدارة الذاتية.
أصبحت تلك المخاطر واقعاً ملموساً خلال الشهر الماضي، عندما اقتحم عناصر تنظيم الدولة أحد السجون التي تحتجز مقاتلين سابقين لدى التنظيم في مدينة الحسكة الواقعة شمال شرقي البلاد. ولهذا اضطرت القوات الخاصة الأميركية والبريطانية للمشاركة في المعركة التي امتدت لعشرة أيام حتى تمت استعادة السيطرة على ذلك السجن، وقتل فيها أكثر من 500 شخص، ثلاثة أرباعهم تقريباً من مقاتلي تنظيم الدولة بحسب ما أوردته قوات سوريا الديمقراطية، إذ ذكر مظلوم كوباني الذي يتزعم قوات قسد المدعومة أميركياً في شمال شرقي سوريا: "أتت تلك الخلايا من مناطق مختلفة، ونشروا عناصرهم في الأحياء المحيطة بالسجن لخلق حالة من البلبلة فور بدء الهجوم".
ومع ظهور العنف في الحسكة، نفذ المقاتلون هجمات في مناطق أخرى بشمال شرقي سوريا، إذ عند حاجز أمني في منطقة ريفية تابعة لمحافظة دير الزور، بعدما أمضى ياسر ردحاً طويلاً من ساعات المناوبة في ليلة وصلت درجات الحرارة فيها حد التجمد، بما أنه يخدم لدى قوات قسد في هذه المنطقة، ظهر له ستة رجال يقودون دراجات نارية وأخذوا يعبرون الطريق الخالي باتجاهه. كان اثنان منهما يرتديان سترات ناسفة ثبتوها على صدورهم، حسبما ذكر ياسر الذي وصف الحادثة واشترط عدم ذكر اسم عائلته خوفاً على نفسه. وقد سمع بعد ذلك بوقوع هجمات مماثلة على حاجزين أمنيين آخرين.
بعد هروب بعض العناصر من قطعة ياسر من معركة تراشق بالنيران بواسطة الرشاشات التي أعقبت ظهور تلك العناصر، لم يقدم أي من أهالي القرية لهم المأوى هرباً من تلك العناصر، إذ يخبرنا ياسر عما جرى لهم فيقول: "أخذ الناس يهمسون خلف الأبواب ويقولون لنا: امضوا رجاء، فنحن لا نستطيع أن نفتح الباب لكم، كما قالوا: إن اكتشف تنظيم الدولة أمرنا فسوف يقتلنا".
استغلال الانقسامات السياسية
استغل مقاتلو تنظيم الدولة الانقسامات السياسية في سوريا لإعادة بناء صفوفهم وقدراتهم القتالية، إذ بضغط من قسد والتحالف العسكري الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، تراجعت بعض خلايا تنظيم الدولة في عام 2019 من شمال شرقي سوريا إلى منطقة تسيطر عليها قوات بشار الأسد، حيث تجري عمليات ضد التنظيم بوتيرة أقل. وبعد تعرض مقاتلي التنظيم لنيران قوات الأسد، تسللوا عائدين إلى منطقة الإدارة الذاتية.
وحول ذلك يخبرنا غريغوري ووترز، وهو باحث غير مقيم لدى معهد الشرق الأوسط فيقول: "لقد نقلوا الناس إلى جبهة أضمن لبقائهم، وهي الجبهة الموجودة وسط سوريا، إلا أن أصلح جبهة لهم اليوم عادت إلى شمال شرقي سوريا".
أشار مظلوم وغيره من المسؤولين لدى قسد بأن بعض المهاجمين في الحسكة قضوا بعض الوقت في معسكرات التدريب التابعة لتنظيم الدولة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد، ومن عاد من المقاتلين إلى شمال شرقي سوريا أظهر قدرة أكبر على تنفيذ هجمات معقدة.
تحول القرار إلى مركزي
في السابق، ذكر مسؤولون لدى الإدارة الكردية بأن التنسيق كان ضعيفاً بين الخلايا النائمة الصغيرة التي كانت تنفذ عمليات في شمال شرقي سوريا، إلا أنهم يرون بأنه بعد هجوم الحسكة الذي تورطت فيه ثلاث خلايا منفصلة تعمل بتنسيق عال بأن هنالك قراراً مركزياً صدر لتنفيذ تلك العملية.
أما ووترز فيرى بأن تنظيم الدولة في سوريا أصبح قادراً على تنفيذ عمليات معقدة من جديد، فقد طورت تلك الجماعة: "نواة مركزية أصغر تضم مقاتلين مخضرمين مرتبطين بشبكات إقليمية أوسع تعمل على التخطيط لهجمات أكبر وأكثر تعقيداً ولكن بوتيرة أقل، في حين تقوم الخلايا الطرفية اللامركزية بتنفيذ عمليات ذات مستوى متدن بوتيرة يومية".
وتشير المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها لمراقبة زعيم تنظيم الدولة، أبي إبراهيم الهاشمي القرشي، خلال الأشهر الماضية، قبل أن يلقى مصرعه في غارة أميركية تم تنفيذها في 3 من شباط الجاري أنه بقي على تواصل مع إحدى الشبكات التي تضم خلايا خفية تعمل في أنحاء متفرقة من سوريا والعراق.
لذا من المحتمل أن يشتت مقتل القرشي تنظيم الدولة وأن يحد من فعاليته، خلال الوقت الراهن على الأقل، بحسب رأي حسان حسان، رئيس تحرير مجلة نيو لاينز، والذي يقول: "أصبحت هذه الجماعة اليوم في موقف ضعيف، إلا أن هذا لا يعني بأنها لم تعد خطرة"، ويحكي لنا بأن القريشي لم يحظ بقبول واسع ولهذا يمكن لاختيار زعيم جديد لهذا التنظيم أن يعزز "الخلافات داخل تلك الجماعة بشكل يؤثر على تنشيط قاعدتها واجتذابها لأشخاص جدد".
الجميع يعمل في السر
ومع عودة بعض خلايا تنظيم الدولة لشمال شرقي سوريا، وجدت قسد نفسها أقل حضوراً في تلك العمليات عما كانت عليه في السابق، وذلك لعدم اطلاعها بشكل كبير على أنشطة المقاتلين في المناطق المجاورة التي تسيطر عليها قوات الأسد غربي نهر الفرات، أو تلك التي تسيطر عليها القوات المدعومة من قبل تركيا في الشمال، وفي بعض الأحيان داخل الجارة العراق.
تعلق دارين خليفة، وهي من كبار المحللين لدى مجموعة الأزمات الدولية فتقول: "جميعهم يعملون بالسر".
واستثمر مقاتلو تنظيم الدولة أيضاً في مساعي الإدارة الذاتية للسيطرة على المناطق ذات الغالبية العربية التي وقعت تحت حكمها، وذلك لأن الأهالي العرب أصبحوا يتظاهرون بسبب سوء الخدمات العامة وما وصفوه بالاعتقالات العشوائية التي جرت خلال الاقتحامات الساعية للقبض على عناصر تنظيم الدولة.
ولهذا استغل المقاتلون حالة الاستياء هذه، فأخذوا يدفعون لبعض الفئات من هؤلاء الأهالي مبالغ صغيرة من المال حتى يصبحوا مخبرين لديهم، وليقوموا بتزويدهم بمعلومات حول نشاط قادة الإدارة الذاتية أو تحركات قوات قسد مثلاً. وفي بعض الحالات، لجأ المتمردون لترويع الأشخاص الذين يتعاونون مع الإدارة المحلية، ووصل الأمر حد قتلهم. وبالنتيجة، ترى دارين بأن السلطات المحلية اكتشفت بأنه بات من الصعب عليها إطلاق معلومات استخبارية حول نشاطات المقاتلين، وتعلق على ذلك بقولها: "يعتقد البعض بأن القوات المحلية لا تستطيع أن تؤمن لهم الحماية".
المخيمات... البيئة الأمثل لاستقطاب المخبرين
أما مسؤولو قسد فقد تحدثوا بشكل خاص عن المخيمات المتوسعة والمتداعية التي تؤوي الآلاف من النازحين بسبب القتال والفقر، بما أن مقاتلي تنظيم الدولة يحاولون أن يصلوا إلى تلك المخيمات، ولذلك تم اعتقال العشرات من أبناء تلك المخيمات خلال الأشهر الماضية حسبما ذكرت قسد التي اتهمتهم بتقديم الدعم لتنظيم الدولة مقابل الحصول على المال، وهذا ما تحدث عنه فرهاد شامي، المتحدث الرسمي باسم قسد عندما قال: "إن تنظيم الدولة يستغل الفقر المنتشر في هذه المنطقة، ولهذا يحاول أن يستخدم النازحين كسلاح".
إلا أن الظروف في العديد من تلك المخيمات تعيسة، حيث يحرم الأهالي فيها من الخبز وغيره من المواد الغذائية في أغلب الأحيان، كما يرتدون ثياباً رثة ويحرقون القمامة لينعموا بالدفء وسط برد الشتاء القارس.
توسعت المخيمات المحيطة بمدينة الرقة، التي كانت في يوم من الأيام عاصمة لدولة الخلافة المزعومة، خلال السنوات الأخيرة، بسبب تغير المناخ والجفاف الذي أدى إلى تسريع عمليات الهجرة بين الآلاف من أبناء المراعي الذين لم يكن أمامهم أي خيار سوى الهجرة نحو المدن بحثاً عن فرصة عمل.
ولكن بمجرد وصولهم إلى هناك، اكتشفوا بأن الفرص شحيحة، ولهذا يعيش معظمهم في فقر مدقع، أما بالنسبة للأعيان وكبار قادة القبائل الذين يقومون بدور الوسيط بين مجتمعاتهم وقسد، فإن وصول هذا العدد الكبير من الأغراب أضعف متابعة ما يحدث بين أوساط القادمين الجدد بالنسبة لهم.
المصدر: واشنطن بوست