بهدوء.. فمن يعتبر نفسه منتصراً في ليلة "جدة" وضحاها، فهو واهم وملْتبس ومشبوه، خصوصاً من تعوَّد منهم على صناعة الهزائم وتحويلها إلى انتصارات دائمة بوجه مشاريع الغرب والاستعمار والاستكبار، كما يصفها مُدبِّجو الإيديولوجيات الحزبية الدينية والقومجيات واليسارية، التي لم تقرأ بعد وهي لا تريد أن تقرأ أصلاً واقعية الصراع ومساراته في الشرق الأوسط. وبأن بناء الدول وانتصاراتها على الخارج ومشاريع الاستعمار، تبدأ من الرضا والقبول والمشروعية في السلطة، وتبدأ في التنمية والتطوير والتعليم، وتبدأ من استقلالية القرار السيادي في الاكتفاء الذاتي لشعوبها ومنع تجويعه وربطه بالمتروبول المالي الغربي والأميركي. وهذا كله مفقود في بلاد الشرق ومنها لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والسودان وغيرها.. فكيف تَحقَّق النصر لهؤلاء في ليلة "جدة" العربية، ليرفدونا بنظرياتهم حول دفْن الربيع العربي..؟ أليس الربيع العربي وقوى التغيير فيه تنتقل من مرحلة إلى أخرى في النضال تكون مشْبعة بالتجارب والخذلان والصعود والهبوط؟ ألم تؤسِّس الثورة الفرنسية عام 1789 لبناء خمس جمهوريات فرنسية متتالية، استمرت حتى منتصف القرن العشرين وأزيد، لتثَبِّت الديمقراطية وتداول السلطة وسيادة القانون؟
وهل خلق الله النظام في دمشق وممارسات الميليشيات الطائفية في العراق، وسلطة أحزاب الطوائف وأمراء الحرب في لبنان، ثم كسر قالب بناء المؤسسات والنظم الديمقراطية، لننتهي بالتسليم لهذه القوى الاستبدادية الظالمة بحقِّ شعوبها ومصير دولها؟
في الوقائع.. الحديث عن تسوية متسارعة في الإقليم بأنْ قُضِي الأمر فيها في مؤتمر "جدة" للقمة العربية، ليتوجَّب اللَّحاق بركوب بوسطة الحل كما هو دارج بالعرف اللُّبناني كثقافة في التدليس، هي نظرة أو رؤية ساذجة وتحاكي الوجدان أو النوستالوجيا الإيديولوجية المغلَّفة بأكياس الدين والمذهب لبعض قوى الأحزاب والقومجيات اليسارية، فحركات التغيير والثورات التي خرجت ضدَّ السلطة الاستبدادية في أكثر من بلد عربي، ما زالت أسبابها قائمة بل وتزيد أكثر عمقاً وشرخاً وتفسُّخاً واستبداداً ومظلومية وفساداً وسوءًا في التدبير والحكم.
لا تقبل بُنية النظام السوري تقديم التنازلات، لأنها ستقود إلى انهياره، وسيظل متمسّكاً بخطابه الخشبي حول الانتصار. والعرب يدركون هذه الحقيقة، ولا يملكون القدرة للضغط عليه وإجباره على الرضوخ
في سوريا شرط الحل هو التقدم "خطوة بخطوة"، وأي خطوة تنازلية يتقدم بها النظام في سوريا تعني انتهاء مفاعيله وكشف خطابه والبروباغندا التي قام عليها الحكم لخميسن عاما. حتى لو كانت من باب الرغبة في إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أو مكافحة المخدرات والكابتاغون ومعامله، فمعلوم أنَّ نهاية أي ديكتاتورية تبدأ عندما يشرع بالإصلاح.. وكفى.
ولكي نكون موضوعيين في طرحنا، لا تقبل بُنية النظام السوري تقديم التنازلات، لأنها ستقود إلى انهياره، وسيظل متمسّكاً بخطابه الخشبي حول الانتصار. والعرب يدركون هذه الحقيقة، ولا يملكون القدرة للضغط عليه وإجباره على الرضوخ. وعليه فإن أيّ حلول في سوريا يجب أن تمرّ عبر توافقات أميركية - روسية، وترضي تركيا وإيران، وهي غير متوافرة في ظل المناخ الدولي المتوتر بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. فأفضل ما يمكن، هو دور الوساطة الذي تحاول الرياض القيام به في قيادة دور عربي فاعل في الإقليم والعالم أيضاً، يلبي طموحات ولي العهد، محمد بن سلمان، في نسج سياسات جديدة في المنطقة عمادها التهدئة. ولذلك كان التقارُبَ مع إيران بدعم من الصين، وكان التنسيق مع روسيا في ما يتعلق بتخفيض إنتاج النفط في "أوبك+"، وأعاد العلاقات مع دمشق وصافح الأسد. لكنّ الرياض حليفة للولايات المتحدة وما زالت. لذلك، كانت دعوة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى القمّة لموازنة موقف السعودية المحايد من الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، وتقديم نفسها وسيطاً عادلاً ومحتوياً كلّ الأطراف على تناقضاتها. والمهم أنّها نجحت في قمّة جدّة، بدبلوماسية فائقة، أما الإنجازات فمرهونة بمسار عمّان، وبألّا تقع اللجنة الوزارية المشَكَّلة عنه، برئاسة أحمد أبو الغيط، كما المسارات الأممية، في فخّ التفاصيل الذي سينصُبه لها النظام.
في لبنان، لن يستوي نظام الحكم فيه إلاّ بإلغاء الطائفية السياسية، وبناء حكم مدني تتعزَّز فيه سيادة القانون. حتى لا تتكرَّر مأساة الحروب فيه كل عشر سنوات، من جراء تقوقع الطوائف وحفر الخنادق المذهبية، وهذا مستحيل تطبيقه في ظلِّ حكم ميليشياوي مسلح اقتطع مساحات كبيرة من جسد الدولة، وعزَّزها بتفوُّق الخطاب المذهبي والطائفي مع شلل تام في مؤسسات وإدارات الدولة، ويريد فرض رئيس للجمهورية من قماشة وبطانة الإقطاع السياسي الذي هو بالأصل المتسبِّب في عُقْم الإنتاج الديمقراطي في البلد، ونقصد هنا التمسك بترشيح سليمان فرنجية. وعدم القيام بأية إصلاحات لكل القوى السياسية تماشياً مع متطلبات باريس والرياض والبنك الدولي، حتى صار لبنان معزولاً مالياً عن العالم وعن التبادل العالمي مع الخارج. ولم يعرف أحد بعد أنَّ من يقرِّر ذلك بوضع لبنان على اللائحة الرمادية هي واشنطن لا غيرها، بحسب تأكيد دبلوماسي أمام أحد المسؤولين، بأنَّ تصنيف لبنان ضمن لائحة الدول التي لا تواجه تبييض الأموال، وإدراجه على اللائحة الرمادية، لا يعني بالضرورة أن لبنان سيخرج من النظام المالي العالمي، إذ أشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، هي التي تقرّر بقاء لبنان، أو خروجه من هذا النظام.
من هي القوى التي تفرض على النظام الحاكم في دمشق القيام بتسويات داخلية وإصلاحات دستورية.. وما كلفة عدم الامتثال والتقدم "خطوة بخطوة" في هذا الاتجاه؟
المراقب يعرف ما يدور في الإقليم من تسويات يحاولون تصويرها كــ "بلدوزر" آتي ليفرض ويمدِّد حكم ونظام حكم حتى لو كان استبدادياً، فالمهم تثبيت الاستقرار والأمن، وهذا خطأ وخطيئة في علم السياسة والتسويات، فقدرة الجامعة العربية على فرض الحلول، هي أقل بكثير من حجم المشكلات وإفرازات النظم الاستبدادية الحاكمة، وما خلَّفته من دمار وأحقاد وقتل ووحشية وتنكيل وتهجير وملء السجون بأصحاب الفكر والرأي الحر. بدليل أنه حتى في محاولة التسوية في السودان والدخول الأميركي على خط تثبيت الهدنة، بقيت الخروقات وعدم الالتزام المتكرِّر لأكثر من مرة، سيدة الموقف.. فمن هو القادر وله الإرادة السياسية والأمنية والقوة والقدرة على فرض تسوية في السودان بين الجنرالين المتحاربين..؟ ومن هو قادر على فرض تسويات في لبنان عانى شعبه ولا يزال من آثار التدمير الممنهج لمؤسساته وإداراته واقتصاده وتعزيز قدرات الميليشيات الطائفية على حساب الشرعية، علماً أن الرياض هي أول من اكتوى بنار عدم الالتزام بمسؤولية بناء الدولة في لبنان من قبل قوى السلطة الحاكمة..؟
ومن هي القوى التي تفرض على النظام الحاكم في دمشق القيام بتسويات داخلية وإصلاحات دستورية.. وما كلفة عدم الامتثال والتقدم "خطوة بخطوة" في هذا الاتجاه؟ هل هو الروسي الضامن لذلك؟ وما هو الثمن المدفوع؟ أم الإيراني وكم سيقبض سياسياً وأمنياً ليبقى متمدداً إلى المتوسط؟
إنها أسئلة مطروحة، لم تجد أجوبتها بعد، لا من الساسة ولا من المحلِّلين وأصحاب الرأي، ولا من النُّخب والقادة المحدِّدين لمصير الشعوب في منطقة الشرق الأوسط.. ذلك أن التحوُّلات التي قادتها الشعوب هي أكبر وأعمق وأعقد من أن يُفرض الحل عليها بتدبيج خطاب أو بيان غير واضح فيه آلية التنفيذ ولا عقوبة للمحاسبة.. فالعقل السياسي العربي بامتلاكه محددات الفعل السياسي كالعقيدة والعشيرة والغنيمة، هو كفيل بأن يشرح لنا الكثير من عوامل تمزق العالم العربي، واستحالة اجتراح الحلول نتيجة النزاعات العشائرية والطائفية والأصولية الدينية.