التشكل الفسيفسائي للنسيج السكاني للدولة والشعب السوري وتنوعه الديمغرافي، أعطى هذا البلد غنىً اجتماعياً وتنوعاً في البنى الفوقية للشعب السوري، التي تميز بها عبر العصور.
وهذا الغنى والتميز في التعددية والخليط الثقافي والاجتماعي والعرقي والديني والقومي، جعل من سوريا حالة فريدة من نوعها على مستوى السياسة والحكم تاريخياً، حتى وصول حزب البعث إلى الحكم فيها.
وكذلك، كانت المعارضة السياسية للنظام القائم حالة فريدة، حيث لم يكن من السهل أن تكون معارضاً للحكم في سوريا، فذلك يحمل تبعات داخلية وإقليمية، وله أثمانه الخارجية قبل الداخلية. ولهذا، ظُلم الشعب السوري في كل المحطات والمناسبات، والتاريخ شاهد على ذلك.
هذا المزج بين السياسة والأمن وربطهما بالنظام الإقليمي، الذي يعتبره النظام مفصلاً على مقاسه، جعل من سوريا اليوم مسرحاً للتدخلات الميليشياوية والنفوذ الإيراني.
الدور الحيوي الناعم
النظام السوري الحاكم بقبضته الحديدية، والنار والحديد الاستخباراتي وفروعه المتعددة، له امتداداته الخارجية عربياً ودولياً، حيث ربط أسلوب الحكم وإدارة هذا التنوع وفق المصالح الآنية والخدمات اليومية، رغم ادعائه في الأدبيات السياسية أنه قائم على الوحدة العربية والحرية والاشتراكية.
فقد أعطى النظام مميزات للحكم ولتفلُّت الموالين والمقربين من القانون، ما سمح بانتشار المافيات التي يعدها ضرورية لربط المجتمع السوري بالنظام الأمني، باعتبار أن مخالفة ذلك قد تطيح بالمجتمع والدولة معاً. هذا المجتمع القائم في عيشه على قاعدة دينية متنوعة تنفر من حال عدم الاستقرار وتسعى للثبات في العيش الكريم، الذي هو بالأساس مفقود منذ حقبة السبعينيات من القرن العشرين، أي منذ وصول البعث إلى السلطة.
هذا الربط السياسي والأمني له امتداداته الخارجية على مستوى الاستقرار في المحيط الشرق أوسطي. فقد استخدم النظام السوري العديد من الذرائع لربط بقائه واستمراريته بالاستقرار الإقليمي وعدم العبث بخريطته. وهذه هي الحجة الأساسية التي تمسك بها النظام عند كل مفترق أو محاولة للتغيير السياسي والإصلاح، سواء من الداخل أو من الخارج. وهذا المزج بين السياسة والأمن وربطهما بالنظام الإقليمي، الذي يعتبره النظام مفصلاً على مقاسه، جعل من سوريا اليوم مسرحاً للتدخلات الميليشياوية والنفوذ الإيراني، وللخروقات العسكرية الإسرائيلية، التي تستبيح السيادة والأرض السورية، حيث باتت سوريا تشكل ساحة فراغ سياسي لا بد من ملئها.
ملء الفراغ السياسي
سمح النظام السوري لكل الدول والمنظمات والميليشيات على أرضه بملء الفراغ الذي تركه في البلاد، إلا المعارضة السورية _ وهم أبناء سوريا التاريخيون _ التي كانت طروحاتها في التغيير السلمي والإصلاحي محرمة وممنوعة. النظام مستعد دائماً لتقديم تنازلات للخارج بشرط الحفاظ على مؤسساته الأمنية في الدولة العميقة. نتيجة لذلك، خسرت سوريا دورها التاريخي في لبنان والعراق وكل الدول العربية، وحتى مع الغرب، وأصبحت ملحقة بسياسات إيران التي تفتقر لأي معطى أو وزن إقليمي، كما أصبحت جزءاً من استراتيجية روسيا، التي تعتبر سوريا مرتكزاً لها في المتوسط، أو جسراً لعبور نفوذها الإقليمي إلى طهران.
لا تزال أدوات النظام في الدولة الاستخبارية العميقة غائبة عن مسرح التحولات الكبرى التي تدور في الشرق الأوسط، والتي يمكن أن تطيح برؤوس دول وجغرافيات كاملة.
سوريا لا يمكن أن تكون جسراً لعبور أي طرف إقليمي أو دولي، بل هي محطة أساسية في تثبيت النظام الإقليمي. وهي لا يمكنها إلا أن تكون ركناً في التوازن الدولي المفقود اليوم. فهذه الدولة بشعبها المتنوع والمشبع بثقافة الحوار والتلاقي بين الشعوب، لا تستقيم إلا بدور حيوي ناعم مع جيرانها العرب وغير العرب، يستند إلى البنى الفوقية للمجتمع السوري وتأثيراته في محيطه العربي، بعيداً عن أي أذى أو نزعات قومية شوفينية قد تؤدي إلى استقطابات حادة تقسم المجتمعات أفقياً وعمودياً. وهذا ما عمل عليه النظام الحاكم، من أجل تسيده وتفرده بالحكم والنفوذ، وتعزيز القمع والتسلط والاستبداد، ومنع أي تغيير أو معارضة، باعتبار أن ذلك يشكل تهديداً وجودياً له.
حتى اليوم، يستمر النظام السوري في استخدام وسائل القمع والإخفاء، وملء الزنازين بالمعارضين، وكأن شيئاً لم يتغير منذ عام 2011. الخراب والتدمير والتهجير الذي عاناه الشعب السوري، والكيان السوري الذي وُضع على طريق التقسيم والتفتيت، كل هذا لم يمنع النظام من تجاهل الشخصيات الوطنية المرموقة وأصحاب الفكر والاقتصاد. لم يُبدِ النظام أي نية لتمكين الاقتصاد السوري من النهوض لتحسين معيشة الناس، الذين يعانون تحت حكمه. سوريا لا تزال محكومة بالعقلية الأمنية، وجهاز الدولة منهار وعاجز عن تقديم أي شيء. أما حزب البعث، فيعاد تشكيله ليتوافق مع التحديات التي يواجهها النظام، بعيداً عن واجهة الإعلام، ليكون أكثر مرونة أمام المتغيرات والاستحقاقات التي قد يضطر النظام إلى مواجهتها مستقبلاً.
ورغم كل ذلك، لا تزال أدوات النظام في الدولة الاستخبارية العميقة غائبة عن مسرح التحولات الكبرى التي تدور في الشرق الأوسط، والتي يمكن أن تطيح برؤوس دول وجغرافيات كاملة.
النظام مستمر في تعزيز نفوذ المافيات المالية في جميع أنحاء سوريا، التي تجبي الأموال لخزينة الدولة، ومن يمتنع عن دفع "الجزية القومية" يُتهم بالعمالة لإسرائيل والخارج.