بين الملاحظات المتناثرة هنا وهناك والملصقة بباب غرفة مكتب المؤلف الأيرلندي كولم ماكان في بيته بمنهاتن، ثمة صورة للصحفي الأميركي جيمس فولي الذي اغتالته عناصر تنظيم الدولة في آب من عام 2014، وفي تلك الصورة، نراه قد أسند ظهره على حاجز مؤلف من أكياس رمل وهو يرتدي بنطال جينز وسترة واقية من الرصاص.
تأثر ماكان أيما تأثر عندما رأى صورة الصحفي فولي بعد مدة قصيرة من مقتله، ولهذا تواصل مع والدته، دايان فولي، ليعزيها بوفاته، وليمد يد المساعدة عبر سرد قصة ابنها إن وافقت على ذلك، بيد أن السيدة فولي لم ترد على رسالته يومئذ، إذ كانت مشغولة بإنشاء مؤسسة إرث جيمس فولي وهي منظمة تهتم بحماية الصحفيين وضمان تحرير من أسر من الأميركيين أو من جرى اعتقاله ظلماً في أي دولة خارج بلده. ثم إنها كانت ماتزال في فترة حزن وحداد على ابنها الذي اختطف وهو يغطي أخبار الحرب السورية وظل محتجزاً لمدة سنة وتسعة أشهر قبل أن يعدم أمام الكاميرا وينتشر فيديو إعدامه عبر الإنترنت.
"ضربة حظ"
ولكن فجأة في عام 2021 ألفى ماكان نفسه وجهاً لوجه مع السيدة فولي في مكالمة جماعية عبر تطبيق زوم أقيمت لصالح منتدى القراءة بجامعة ماركيت، إذ كان أعضاء المنتدى يقرأون رواية أخرى من روايات ماكان، وبما أن هذه الجامعة هي الجامعة التي تخرج منها جيمس فولي لذا فقد دعيت والدته للمشاركة، ومنذ ذلك الحين تعارف المؤلف والأم وصارا يتواصلان مع بعضهما.
"كانت ضربة حظ" هذا ما قالته السيدة فولي وهي جالسة بجانب ماكان في غرفة المعيشة ببيته، وتابعت: "ذكرني كولم بجيم من نواح عدة، منها طيبته وقدرته على التعبير من خلال الكلام".
في غضون شهر إثر مكالمة الزوم، زار ماكان دار آل فولي لمناقشة ما تحول إلى "أم أميركية" وهو كتاب ذو نوع هجين يضم سيرة ذاتية مع ذكريات نشرته دار إيروسكان بالولايات المتحدة في الخامس من آذار الماضي.
يعلق ماكان على تعاونهما فيقول: "حاولت أن أفكر كما تفكر دايان" إذ كان يرسل لها الفصول لترد عليه مقدمة توجيهاتها وتصحيحاتها وتوضيحاتها.
كتاب فريد من نوعه
ليس من الغريب على ماكان أن يهتم بقصة آل فولي، إذ إن كثيراً من رواياته تقوم على شخوص وأحداث حقيقية، إذ مثلاً تتطرق رواية "دع العالم العظيم يدور" لقصة سير فيليب بيتيت على حبل رفيع بين البرجين التوأمين في عام 1974، أما قصة روايته " Apeirogon" فتدور حول علاقة ربطت رامي الحنان وهو مصمم غرافيكي إسرائيلي بالباحث الفلسطيني بسام أرمين، ولكن بخلاف تلك الروايات، لم يحمل كتاب: "أم أميركية" أي شيء من الخيال.
يعلق مايكل كانينغهام على الرواية بقوله" "أرى من خلال تجربتي أنه كتاب فريد من نوعه، إذ هنالك روائي يكتب عن حدث حقيقي بعمق وتفاصيل كاملة لا يمكنك أن تحصل عليها من الأخبار" وكانينغهام مؤلف فاز بجائزة بولتزر عن روايتيه "الساعات" و"يوم". وبالبحث عن نموذج آخر من هذا النوع من الأدب، يقترح كانينغهام رواية "بدم بارد" الكلاسيكية للمؤلف ترومان كابوت والتي صدرت عام 1959.
بالحديث عن بنية العمل، نكتشف بأن "أم أميركية" ليس كتاباً عادياً، إذ في قسميه الأول والثالث نسمع القصة من وجهة نظر راو مطلع على كل الأمور يركز على سلسلة من الأحاديث التي دارت بين فولي وأليكساندا كوتي وهو أحد عناصر تنظيم الدولة ولد في بريطانيا ثم حكم عليه بالسجن المؤبد في عام 2022 وذلك لأنه تولى الدور الأهم في عملية إعدام جيمس فولي، إلى جانب عمليات إعدام أخرى طالت ثلاثة رهائن أميركيين آخرين.
في اتفاقية الإقرار بالذنب، وافق كوتي على لقاء أهالي الضحايا إن رغبوا بلقائه، فكان ذلك شرطاً غريباً، إلا أن السيدة فولي تلهفت لقبول هذا الشرط.
وعن لقائها به تقول: "شعرت أنه من الضروري التحدث إلى إليكساندا لأنني لا أريد أن يعتقد بأننا نهابه، كما أردت أن يعرف من هو جيم، وأردت أن أستمع لقصته حتى أعرف ما الذي أوصله إلى هناك".
هذا ويتخلل ما سرده ماكان عن تلك اللقاءات ذكريات تقليدية كتبت من منظور جيمس فولي، وهذا القسم مليء بتفاصيل شخصية، ومنها كيف استخدم مصباحاً يدوياً ليقرأ مغامرات تان تان تحت الأغطية، وكيف ارتدى بزة زرقاء فاتحة في حفلة موسيقية راقصة كبرى، وكيف قام بتدريس الإنكليزية عندما كان في العشرينيات من عمره، وتفاصيل أخرى تعرفت عليها السيدة فولي من خلال أسرى آخرين احتجزوا مع ابنها ثم أطلق سراحهم، ومنها كيف أجبره سجانوه وغيره على غناء مقطع من أغنية: "هوتيل كاليفورنيا" مع تكرار عبارة: "لن تغادر"، وكيف بقي متمسكاً بإيمانه على الرغم من وحشيتهم، وكيف أسهم في تنظيم ألعاب الطاولة سراً ليرفع معنويات الجميع.
تعلق السيدة فولي على ذلك بقولها: "كل ما أتمناه أن يترك ذلك أثراً لدى كل من فقد عزيزاً"، وأضافت أن الكتاب يحمل رسالة وهي أننا: "بوصفنا بشراً علينا أن نبني جسوراً حتى مع أشخاص لا نطيق رؤيتهم كما علينا أن نجد طريقة نتحدث من خلالها إلى بعضنا بعضاً".
ثم إن الدافع الذي حدا بالسيدة فولي لفهم عقلية ونفسية أحد سجاني ابنها هو الذي جعلها مناسبة للتحول إلى موضوع كتاب من كتب ماكان الذي وصف قيمة "التعاطف المتطرف" في بوصلته الأخلاقية، ويعلق على ذلك الممثل غابرييل بيرن وهو صديق لماكان فيقول: "إنه يؤمن إيماناً عميقاً بالتقاء الأشخاص صدفة والبحث في عيون بعضهم بعضاً واكتشاف كل منهم لإنسانية الآخر، وبرأيي أن السبب الذي جعله ينجذب إلى قصة دايان فولي هو أن القصة تدور حول التواصل مع شخص ومواجهته على الرغم من معرفتك بأن هذا الشخص عدو لا يمكن غفران ما اقترفت يداه، مع السعي للبحث عن الإنسانية في شخص هذا الإنسان".
مصافحة تاريخية
التقت السيدة فولي بكوتي خلال جلسات مدتها ثلاث ساعات وذلك داخل غرفة معزولة خالية من أية نوافذ وسط المحكمة الفيدرالية بولاية فيرجينيا الأميركية، بيد أن أحداً من أفراد عائلتها لم يرغب بالانضمام إليها، وعن ذلك تقول: "اعتقدوا أن الأمر سخيف" بيد أن ماكان رافقها في إحدى المرات وطرح أسئلته على كوتي هو أيضاً.
يتذكر ماكان والسيدة فولي حديثهما مع كوتي، فيصفانه بأنه أنار لهما الطريق على الرغم من أنه أزعجهما وكسر قلبيهما، فلقد اكتشفت السيدة فولي في كوتي رجلاً ذكياً ومعقداً، وقارئاً نهماً، لكنه بكى عندما عرض عليها صور ابنتيه في سوريا، وعنه تقول: "لقد غرق الجميع في هذه حتى هو" وهنا تنسب دايان الفضل لدينها المسيحي ومذهبها الكاثوليكي الذي ساعدها في الاحتفاظ على تعاطفها مع الرجل الذي أسهم بقتل ابنها.
وأضافت: "كان أكبر وأشد فوضوية مما اعتقدت، لكني أحب هذه التعقيدات، وأخالني لا أريد التحدث عنها".
أما بالنسبة لماكان أتت أهم لحظة في تلك اللقاءات بنهاية الجلسة الثالثة والأخيرة، وذلك عندما مدت السيدة فولي يدها لتصافح كوتي، فأمسك كوتي بيدها وهذا ما أدهش ماكان، لأن هذه الحركة محظورة في الشريعة الإسلامية، وعندما تساءل ماكان عن رد كوتي أجابه بالقول بإن فولي كانت أشبه بأم للجميع، ولهذا يجوز ملامستها حتى وإن لم تكن من المحارم.
ويعلق ماكان على ذلك بقوله: "لقد لمس يد امرأة، لكنه اعترف بأنها أم".
في نهاية الأمر، وجهت السيدة فولي غضبها نحو بلدها لا نحو كوتي، إذ عندما أسر جيمس فولي، صرحت بالقول بإن الحكومة تركتها في الظلمة لأنها تود أن تلتزم بسياسة صارمة تقوم على عدم التفاوض مع الإرهابيين، وتخبرنا السيدة فولي بأنها أمضت سنوات وهي تذهب من مؤسسة حكومية إلى أخرى، بل إنها تعرضت للتهديد بالمقاضاة في حال حاولت أسرتها دفع الفدية، وعن ذلك تقول: "غضبت على بلدي وطريقة معاملتها لي، وطريقة تعاملها مع مصيبة جيم".
ومن خلال المؤسسة التي أقامتها، حثت السيدة فولي الرئيس الأسبق أوباما على إصلاح سياسة الأسرى الدوليين في الولايات المتحدة، ولهذا وبضغط منها، شكل أوباما في نهاية الأمر مجموعات استجابة للرهائن لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية ومجلس الأمن القومي، كما استحدث منصب منسق شؤون الرهائن لدعم أهاليهم، وعنها تقول الصحفية جودي وودروف: "إنها تتمتع بشجاعة صرف، فهي قادرة على أن تنظر بحدة في عيون المسؤولين لدى الحكومة وهي تقول لهم: هذا ما يجب علينا أن نفعله".
منذ فترة قريبة، كانت السيدة فولي بين من قدموا الحجج بكل نجاح لتمرير قانون ليفينسون عبر الكونغرس، والذي يسعى لحشد مزيد من الموارد بهدف إعادة الأسرى.
وهنا يعلق روجر كارستينز، المبعوث الرئاسي الخاص المعنى بشؤون الأسرى عن وزارة الخارجية الأميركية فيقول: "إن ما نصفه بأنه مشروع استعادة الأسرى لم يكن ليبصر النور لولا دايان فولي"، ويعتقد هذا الرجل بأن عملية التفاوض التي قامت بها إدارة بايدن لتأمين تحرير ستة أميركيين احتجزوا ظلماً في فنزويلا خلال العام الفائت يمكن أن تعزى مباشرة إلى ما قامت به السيدة فولي من مناصرة، ويتابع واصفاً إياها بالقول: "لقد أوجدت هذه السيدة الآلية التي تتيح إعادة مثل هؤلاء الأشخاص إلى وطنهم".
المصدر: The New York Times