لا يوجد أدنى شك لدى أي متابع بأن تنظيم فعالية كأس العالم في قطر هذا العام ليس مجرد عملية تنظيم الفعالية الرياضية الأكبر لكرة القدم في العالم كعمليات التنظيم السابقة، بل هو استمرار لاستثمار دولة قطر في المجال الرياضي خدمة لاستراتيجية الدولة.
من الواضح أن قطر لم تنظر بالدرجة الأولى لكأس العالم كفعالية لتحقيق فوائد اقتصادية أو سياحية مجردة بل كجزء لا يتجزأ من استراتيجية أوسع ترتبط بمكانة الدولة وصورتها، وتشمل كل الأبعاد السياسية والأمنية والثقافية والإعلامية وغيرها.
وربما نعرج هنا على بعض الأبعاد، فعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى البعد الأمني المتعلق بتأمين فعاليات البطولة سنجد أن قطر تستضيف نحو مليون زائر وهي الدولة التي يصل عدد سكانها إلى 3 ملايين، لذلك لجأت إلى التعاون مع عدة دول في المجال الأمني والسيبراني والجوي والشرطي لتأمين الفعالية، وأجرت تمارين وتدريبات أمنية لمعالجة الأزمات المحتملة وسيناريوهات الطوارئ.
ولم يقتصر الأمر على محيط الملاعب التي تحتضن المباريات بل شمل حتى المياه الإقليمية واحتمالات التعرّض لاعتداءات بطائرات من دون طيار وغير ذلك، وقد أخذ بالحسبان مواجهة كل ما من شأنه أن يعرّض أمن الحشود القادمة للخطر، وهذا من شأنه أن يرفع القدرات الأمنية لقطر ومكوناتها وكوادرها الأمنية حتى بعد انتهاء كأس العالم ويمكن فقط الإشارة إلى أن هذه العملية مستمرة منذ عدة سنوات في إطار التحضير.
وعلى المستوى الثقافي يمكن للمتابع العادي أن يرى حجم الجدل في الغرب على موضوع منع بيع الكحول أو موضوع صوت الأذان ورموز الثقافة الإسلامية والعربية وكيف وظفت قطر كأس العالم لإعلاء مكانة الثقافة العربية والإسلامية.
على المستوى السياسي تصرّفت قطر بذكاء وهي التي خرجت من أزمة مع جيرانها امتدت من 2017 وحتى بداية 2021، حيث لم تتصرف بأنانية بل تعاطت مع استفادة جيرانها من الحدث الكبير الذي تستضيفه المنطقة العربية لأول مرة في التاريخ
على المستوى السياسي تصرّفت قطر بذكاء وهي التي خرجت من أزمة مع جيرانها امتدت من 2017 وحتى بداية 2021، حيث لم تتصرف بأنانية بل تعاطت مع استفادة جيرانها من الحدث الكبير الذي تستضيفه المنطقة العربية لأول مرة في التاريخ.
من جانب آخر، لقد كانت بطولة كأس العالم فرصة للارتقاء بالبنية التحتية في قطر بنقلة نوعية في الطرق والجسور والمباني والأنفاق وخطوط القطار (المترو) إلى درجة القول، إن هناك مدنا جديدة أنشئت وهذه أصول من شأنها أن تضاف لقيمة البلد وإمكاناتها.
تقوم استراتيجية قطر على استخدام القوة الناعمة في أبدع أشكالها ولديها المقومات والإمكانات المالية للقيام بذلك بفضل مواردها من النفط والغاز بالدرجة الأولى، ولهذا فإنّ الرياضة والثقافة والإعلام والتعليم والفن وغير ذلك تعتبر من المجالات الجوهرية للقوة الناعمة.
وعلى مستوى الهوية والثقافة يمكن أن نقف عند تميمة كأس العالم المستمدة من الغترة العربية واسم التميمة "لعّيب" وهي تعبّر عن أحد رموز الثقافة العربية، كما أن الملاعب التي تستضيف البطولة صممت لتعكس الثقافة القطرية والعربية، فمثلا "استاد البيت" الذي استضاف المباراة الافتتاحية صُمّم على شكل خيمة عربية، كما أن "استاد لوسيل" الذي يستضيف المباراة النهائية جمع تصميمه بين الأواني المستخدمة في التراث العربي وبين الفنار الذي يرشد السفن.
لم تسع قطر لتنظيم فعاليات كأس العالم لكرة القدم فحسب، بل سعت لتنظيم النسخة الأفضل منه على مدار التاريخ والتي سيظل العالم كله يتحدث عنها. وهذه بحد ذاتها مرتبطة باسم قطر.
لن يكون كأس العالم هذا عابراً، إنه فرصة مهمة ليس لكرة القدم بل للسياسة والثقافة والهوية والاقتصاد، ولا أستبعد أن نرى تداعيات إيجابية على هذه المستويات لا تشمل قطر وحدها، لكن قطر هي المستفيد الأول والرئيسي.