لقد كانت ألمانيا وما تزال الدولة الأكثر احتضاناً للاجئين السوريين أمام باقي دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، فمنذ قرارها بفتح حدود ألمانيا أمامهم عام 2015، تعاملت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مع اللاجئين السوريين بما يشبه الاحتضان. لقد أخذ اسم ميركل رمزية تكاد تكون استثنائية في وعي وذاكرة السوريين، لذلك، عندما ذهبت ميركل شعر الكثير من اللاجئين السوريين بالخوف الداخلي من تغير السياسات الألمانية تجاههم، شعور كان يخفف منه اعتبار مهم، وهو أن ألمانيا دولة مؤسسات، ولا يمكن أن تغير سياساتها العامة الأساسية تجاههم بفضل الاحتياجات المستمرة للاقتصاد الألماني لليد العاملة، فهل كانت التطورات والواقع في هذا الاتجاه فعلاً؟!
الانتقال السياسي الذي جرى في كانون الأول 2021 من أنغيلا ميركل إلى نائبها وشريكها السياسي أولاف شولتز زعيم الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي اليسار الوسط، بدل نائبها في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس الأقل مرونة تجاه الهجرة، بدا مريحاً، وبقي الموقف الرسمي الألماني على نفس الإرادة، بالاستمرار بسياسات استقبال ودعم اللاجئين، لا سيما السوريين حيث بلغت أعدادهم في تلك الآونة 800 ألف لاجئ كأكبر كتلة من اللاجئين الجدد، إلا أن زحف اللاجئين الأفغان الذي تضاعف عن سنوات سابقة بُعيد الانسحاب الأميركي الدراماتيكي من أفغانستان لصالح طالبان في أواخر آب 2021، بدأ يشكل عامل ضغط مهم ولا سيما خلال الأشهر الأولى من حكم شولتز.
تطور آخر شكل منعطفاً خطيراً في أوضاع أوروبا، وعامل ضغط هائل في ملف الهجرة واللجوء إلى ألمانيا، وهو الغزو الروسي لأوكرانيا أواخر شباط 2022، الذي أدى إلى تدفق مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين إلى ألمانيا في غضون أشهر، ليُشكلوا فيما بعد أكبر كتلة من اللاجئين فيها. أمام تلك التطورات المتلاحقة، ومع تجاوز عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا حاجز المليون، بدأ تسجيل تغيرات بخصوص ملفات لم الشمل، حيث أصبحت المدة اللازمة لذلك تتجاوز العام ونصف العام ثم العامين، إضافة إلى اعتماد الحماية الفرعية (المؤقتة) على نطاق واسع، بينما أصبح حق اللجوء يُمنح بنسب أقل من الماضي.
على مدار سنتين بقي اللاجئون السوريون يتدفقون إلى ألمانيا، وقد زاد استيعاب ألمانيا من الموجودين منهم في تركيا بعد الزلزال الكبير في شباط 2023. إضافة إلى استمرار تدفق الآلاف عبر الطرق غير الشرعية بحراً عبر اليونان وإيطاليا أو براً عبر شرق أوروبا.
في العام الجاري 2024، ساد الشعور العام لدى اللاجئين السوريين بأثر وجود تنسيق بين الدول المحيطة بسوريا المستضيفة لهم، في تشديد الإجراءات وزيادة ضوابط وجودهم، وصولاً لإجبارهم على ما يسمى بالعودة الطوعية، مما أدى إلى زيادة تدفق اللاجئين السوريين نحو دول أوروبا الغربية وعلى رأسها ألمانيا. ومع السياسات المتشددة للحكومة اليمينية في هولندا، الدولة التي كانت الهدف الثاني للجوء السوري، تكدس الآلاف من السوريين في مخيمات استقبال اللاجئين في ألمانيا، مشكلين ضغوطاً إدارية ومالية كبيرة جداً، في بيئة سياسية عامة لم تعد تتقبل الاستمرار على هذه الحال، وكانت تنتظر شرارة أو أكثر لانطلاقة نحو تغيير بات ملحاً.
حادثة زولينغن سُبقت بتحركات سياسية داخل الاتحاد الأوروبي لإجراء تغييرات مهمة في سياسات اللجوء الأوروبية، لمواجهة موجات جديدة من اللاجئين السوريين، هذه التحركات انطلقت في أواخر تموز 2024، بقيادة إيطاليا وإلى جانبها سبع دول
وهنا وقعت حادثة الطعن الإرهابية في مهرجان بمدينة زولينغن الألمانية، في أواخر آب الماضي، على يد شابٍ سوري، أُشير إلى أنه منتمٍ لتنظيم الدولة، بالتزامن مع قيام ألمانيا بترحيل لاجئين أفغان ممن لديهم ملفات جنائية أو اُعتبِروا خطرين إلى أفغانستان لأول مرة منذ تولي طالبان الحكم هناك، وقبل أيام من الانتخابات الإقليمية في البلاد، والتي حقق فيها حزب (البديل) اليميني المعادي للهجرة نتائج تاريخية في الولايات الشرقية، حيث حصل على قرابة ثلث الأصوات في ثلاث منها، في تجاوز للإنجاز الذي حققه في الانتخابات الأوروبية في حزيران الماضي 2024 عندما حقق نسبة تقارب 16%، الأمر الذي دفع حكومة شولتز، الذي اُعتبر حزبه مهزوماً، للإعلان عن حزمة إجراءات أمنية: داخلية متعلقة بضبط حمل السكاكين واقتناء السلاح وغيرها من الإجراءات الوقائية تجاه اللاجئين، وخارجية بتوسيع عمليات التدقيق على الحدود مع الدول الأوروبية المجاورة لها، حيث قامت الحكومة الألمانية بتعليق مؤقت لبعض أحكام حرّية التنقّل في الاتحاد الأوروبي، كما قامت بنشر الجيش الألماني على حدود البلاد لمواجهة تدفق اللاجئين.
حادثة زولينغن سُبقت بتحركات سياسية داخل الاتحاد الأوروبي لإجراء تغييرات مهمة في سياسات اللجوء الأوروبية، لمواجهة موجات جديدة من اللاجئين السوريين، هذه التحركات انطلقت في أواخر تموز 2024، بقيادة إيطاليا وإلى جانبها سبع دول هي: النمسا، قبرص، التشيك، اليونان، كرواتيا، سلوفينيا، وسلوفاكيا، حيث ركزت هذه التحركات على الوضع الإنساني والاقتصادي المتدهور في سوريا، وضرورة العمل على معالجة الأوضاع هناك. وانطلاقاً من ذلك قامت إيطاليا بتعيين سفير لها في دمشق لتكون الدولة الأولى من مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى التي تقوم بذلك. ألمانيا لم تتعاطَ بصورة مباشرة مع هذه التحركات، إلا أنها رشحت مؤخراً سياسياً ألمانياً هو (مايكل أونماخت) كقائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا، والذي أعرب -بحسب بيان تعيينه- عن "حرصه على قيادة جهود الاتحاد الأوروبي في سوريا، والتواصل مع الشركاء لدفع الحل السياسي للأزمة السورية، ودعم أنشطة الاتحاد الأوروبي في مختلف القطاعات"، الأمر الذي أشار إلى رغبة ألمانية بشكل أو بآخر بالتواصل مع دمشق، وإن تحت الراية الأوروبية. كما قام التحالف الحاكم بقيادة شولتز بفتح حوار مع الأحزاب المعارضة، بما فيها اليمينية، للاتفاق على التغيرات المطلوبة في معالجة ملف اللجوء بشكل كامل، في ظل حملات إعلامية غير مسبوقة داعية لوضع حدٍ للسياسات المتبعة واعتبارها جزءاً من الماضي، مع تصاعد شعبية اليمين المتشدد وأحزابه قبل عام من الانتخابات التشريعية.
في هذه الأجواء، وبعد يوم واحد من قمة زعماء الاتحاد الأوروبي الذين دعوا فيها إلى تشريع عاجل جديد لزيادة حالات إعادة المهاجرين ووتيرة الإجراءات، وافق البرلمان الألماني يوم الجمعة 18 تشرين أول الماضي على الحد من المنافع الاجتماعية الممنوحة لطالبي اللجوء الذين سبق لهم أن سجلوا في دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي، وبات هؤلاء -لأول مرة-معرضين لخطر حقيقي بترحيلهم إلى تلك الدول، وهي في غالبها دول أوروبية شرقية. أحزاب اليمين اعتبروا تلك التغيرات مرنة وغير كافية، وطالبوا باتخاذ ما يلزم لمنع اللاجئين من الدخول إلى الأراضي الألمانية، مع نداءات غير مسبوقة بالترحيل، بل والرحيل، وللجميع.
وهكذا، ومع التشدد غير المسبوق في الطريق إليها، أصبح لجوء السوري إلى ألمانيا حلماً صعباً، بل إن مستقبلاً ضبابياً بدأ يخيم حتى على اللاجئين السوريين الموجودين فيها فعلاً، فتطبيق الحزمة الجديدة من القرارات المشار إليها قد تحمل معها ترحيل الآلاف منهم إلى دول أوروبية أخرى، كما زادت المخاوف من عمليات ترحيل آخرين ممن لديهم توصيفات جنائية أو غيرها إلى سوريا نفسها، كما حصل بخصوص لاجئين أفغان، في إطار استغلال محتمل جداً لنتائج الحراك الذي تقوده إيطاليا لتوجيه نوع من الدعم الأوروبي لمناطق في سوريا، سيتم اعتبارها آمنة وقابلة لاحتضان اللاجئين المرُحلين، والذي يتم التمهيد له –حالياً- ببحث تعيين مبعوث للاتحاد الأوروبي في سوريا خاص باللاجئين.