يمر القرن الأول من معاهدة لوزان التركية التي وقّعها وفد حكومة أنقرة عام ١٩٢٣، وسط جدل غير منته حول انتهاء مدة الاتفاقية من عدمها، وقد بدأت تلك التكهنات تنتشر بشدّة منتصف تسعينات القرن المنصرم، مع صعود التيار الإسلامي في تركيا، وقرب مدة انتهاء المعاهدة التي أسست لمرحلة انتقال مهمة في عمر المنطقة ورسمت ملامح الجغرافيا والامتيازات والهويات المتخيلة التي أحدث بعضها طلاقاً مع التاريخ رغبة بالتصالح مع الواقع الحديث.
لم تُشر اتفاقية لوزان المكونة من ١٤٣ بنداً في كل البنود المنشورة في موقع الخارجية التركية، إلى بند يشير إلى وجود مدّة لانتهاء تلك الاتفاقية، لكن مع ذلك كان هناك قناعات تحاول مقاربة الفرضية انطلاقاً من عودة صعود التيار المؤيد للتصالح مع تاريخ الدول الجغرافيا بكونها مركباً مهماً من عمر الدولة. إنّ الدافع الأساسي خلف محاولات خلق تلك التصورات ربما يرجع للإيمان بحرمان تركيا من الامتيازات الخاصة باستجرار النفط والاستفادة من مواردها أو وجود نفوذ دولي على منافذها الدولية خاصة في مضيق البوسفور. مع أن لأنقرة حقوقاً تستخدمها داخل حدود الدولة القومية التي رسمتها معاهدة لوزان.
تقوم أنقرة بالفعل بالتنقيب والاستفادة من مواردها منذ عام ١٩٦٦ باستثناء قدرتها على استخدام مساحات خارج أراضيها أو محل خلاف فيما يتعلق بالجرف القاري أو قانون البحار ١٩٨٢ بجانب الاعتراف بقبرص التركية الذي يترتب عليه تغيير مساحات تركية في الاستفادة من المتوسط كما في حالة خلافاتها الخاصة بالجزر مع اليونان لا سيما حول جزر إيجه التي استفادت من وضعها أثينا لتوسيع مياهها الإقليمية وجرفها القاري على حساب تركيا مما ترك صراعاً أبرز محطاته كانت خلال ما عُرف بـ "أزمة إيميا" خلال حقبة رئيسة الوزراء تانسو تشيلر.
لوح السياسيون الأتراك في مناسبات عديدة من بينهم الرئيس رجب طيب أردوغان بالميثاق الوطني باعتباره مرجعاً أساسياً لتوجهات تركيا الحديثة
لكن ليس قناعة حرمان تركيا من الامتيازات وحدها خلف رغبة شريحة بنهاية لوزان، وإنما استعادة الأراضي التي خسرتها الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى خاصة الموصل، التي تعتبرها أنقرة في ميثاقها الوطني حقاً من حقوقها المسلوبة، لكن مع ذلك فإن تركيا قد توافق مع المملكة المتحدة في اتفاقية أنقرة الثانية ١٩٢٦ في التنازل عن هذا الحق كمتمم لتبلور لوزان. مع ذلك لوح السياسيون الأتراك في مناسبات عديدة من بينهم الرئيس رجب طيب أردوغان بالميثاق الوطني باعتباره مرجعاً أساسياً لتوجهات تركيا الحديثة.
الحقيقة، قد يكون من المهم عدم فصل التطورات الإقليمية التي تتراكم في حدود تركيا الجيوسياسية عن أسباب توفر أرضية لطرح انتهاء معاهدة لوزان الأمر الذي من الصعب تصوره أنه عبثي أو جاء وفق تحليلات خاصة بالتكهنات الرغبوية وإنما بعد تطورات كبيرة شهدتها المنطقة حيث استعادت بها أنقرة حظوتها ودورها المنوط بها، إبان ثورات الربيع العربي التي ارتدت على جنوب تركيا، أو التطورات في شمال شرقها من جهة الصراع الأرميني- الأذري بخصوص إقليمي قره باغ كما لا يمكن تجاهل فعالية أنقرة في ملفات المتوسط من خلال ترسيم حدودها مع ليبيا وتوطيد علاقاتها مع قطر ودخولها في منافسة عميقة مع دول إقليمية كالسعودية وإسرائيل وإيران في ملفات مختلفة قبل أن تعود وتستقر الأمور.
لقد كانت تلك الملفات عنواناً عريضاً لنجاح كبير حققته تركيا عبر أخذ دور مهم في الصراعات الدائرة مع التدخل من قبل قوى قطبية وإقليمية واشتداد وتيرة المنافسة على المركز الإقليمي والتموضع القطبي من خلال مصفوفة العلاقات التي أعادت تركيا تشكيلها خلال العقد الثاني من القرن الجاري، ومنحتها نفوذاً مباشراً في مناطق شمال سوريا، أو في العراق بعد العمليات العسكرية التي نفذتها كذلك انتشار قواعد عسكرية في قطر، بجانب دعم قوات الحكومة الشرعية في ليبيا الموالية لأنقرة، بينما كانت محطة قره باغ منعطفاً مهماً لقياس مدى توسع القدرات التركية في مواجهة التحديات الجيوسياسية وتوسيع نفوذها وتحقيق الوصول والتواصل لشعوبها القومية في آسيا بعدما حرمتها مخرجات الحرب العالمية الأولى ولا سيما عند تقاسم نفوذ تلك المناطق بين الدول الحلفاء حينها.
كذلك لاحقاً في معاهدة لوزان التي رسمت حدود تركيا الجغرافية وأعادت تعريف الهوية، ليس الهوية الدينية فحسب، وإنما شملت هويتها القومية عندما انتقلت من الطورانية إلى الكمالية المحلية، لكن دون أن يكون هناك قطيعة كاملة مشابهة للدينية. ومن هنا يعود أصل الخلاف بين تلك التيارات إلى خلاف مشابه بين حكومتي إسطنبول التي تعتبر امتداداً للدولة العثمانية وسعت للحفاظ على إرثها بأقل الخسائر بعد خسارتها خلال الحرب العالمية الأولى وبين حكومة أنقرة التي رفضت الانصياع لاتفاقية سيفر ومهدت الطريق نحو ولادة الدول التركية الحديثة المستقلة بحدودها الحالية.
إن معاهدة لوازان تحمل أهمية أبعد من كونها مجرد توافق سياسي بين الأطراف الدولية وإنما أصبحت جزءًا من هوية الدولة التركية، فالتنازل عنها أو إلغاؤها سيعني نهاية الجمهورية
عند تلك المتغيرات، من المهم إعادة تعريف المعاهدات أو الاتفاقيات بأنها نتاج توازن القوى -المصطلح الذي كان عصارة معاهدة أوترخت التي مهدت لسلام في أوروبا- وإن أي اختلال في تلك الموازين أو تقلّص قوة على حساب أخرى يجعلها في دائرة الاستهداف ورهينة التعديلات أو البروتوكولات المضافة؛ وخير دليل على ذلك التوافقات التي عقبت لوزان لا سيما بعد تشميل لواء إسكندرون للأراضي التركية العام ١٩٣٦. ولا يلغي ذلك استمرار المعاهدات دون تجاوزها، فالتعديلات التي شملت مناطق جديدة لم تلغ لوزان.
إن معاهدة لوازان تحمل أهمية أبعد من كونها مجرد توافق سياسي بين الأطراف الدولية وإنما أصبحت جزءًا من هوية الدولة التركية، فالتنازل عنها أو إلغاؤها سيعني نهاية الجمهورية لأن من لوزان انبثقت الجمهورية التركية الحديثة التي جاءت نتيجة نضال قومي وطني خاضه الأتراك في حرب التحرير العام ١٩١٩ الطويلة التي أرغمت قوات الحلفاء على الانسحاب من مناطق في الأناضول وغيرها. في النهاية صحيح أن هناك شرائح تعتبر بأنّ لوزان تمثل هزيمة للدولة العثمانية لكنها عملياً انتصار للجمهورية التركية.