في الواقع لقد برزت القضية الكردية خلال العقود الماضية على الساحة الدولية كأحد القضايا الكبرى الشائكة والمعقدة والتي باتت تشغل الرأي العام العالمي، ناهيك عن استمرار هذه القضية بتشكيل التهديد الأمني الكبير لاستقرار الدول التي تضم بين جنباتها وعلى جغرافياتها أكبر نسبة من الأكراد وهي تركيا وسوريا والعراق وإيران، ولكن ومع مرور الوقت ومع ظهور حزب العمال الكردستاني في نهاية السبعينات ازدادت هذه القضية الشائكة تعقيدا واتخذت أشكالا دموية تصاعدية وخاصة في الداخل التركي، وعلى الحدود الجنوبية المشتركة مع دول الجوار في كل من سوريا والعراق.
لا شك أن المواجهات المسلحة بين الحكومات التركية المتعاقبة وعدوها التاريخي حزب العمال الكردستاني ليست مواجهات خلافية عادية أو وليدة اليوم و الأمس القريب، بل هو عداء دموي متأصل ومتواصل بدأت بوادره في عام 1978 عندما تمت انطلاقة حزب العمال الذي تم تصنيفه لاحقا من قبل أنقرة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أنه جماعة إرهابية مسلحة تنتهج وتتخذ من العنف والإرهاب طريقا لتحقيق أهدافها الانفصالية، وعمليا لا يخفى على أحد أن حزب العمال الكردستاني pkk ومنذ تشكيله وانطلاقته دعا في أدبياته على العمل بكل الوسائل الممكنة والمتاحة وعلى رأسها العمل المسلح في سبيل تحقيق إقامة دولة كردية مستقلة في جنوب شرقي تركيا وعلى مناطق حدودية واسعة في سوريا والعراق وإيران، وعليه فقد بات هدف الحزب الأولي والأساسي هو الاعتماد والجنوح للعمليات المسلحة والعمليات الإرهابية للمطالبة باستقلال المناطق الكردية داخل تركيا، أو أقلها تأمين حصول الأكراد الأتراك على الحكم الذاتي في مناطق تركية بعينها.
في الواقع أن تركيا ومنذ عام 1984 وفي السنوات اللاحقة وبعد الخسائر الكبيرة في صفوف قواتها الأمنية والعسكرية والعمليات الإرهابية الدامية التي تحدث على أراضيها، أظهرت تصميما عسكريا وميدانيا واضحا على كبح جماح حزب العمال الكردستاني. ووضع حد لأنشطته الانفصالية والعمل المتواصل على تطهير البلاد والمحيط الإقليمي منهم، وخاصة في سوريا والعراق وذلك من خلال القيام بعمليات عسكرية متعددة في كلتا الدولتين. وعليه فالقوات المسلحة التركية قامت في السنوات الأخيرة بملاحقة وتتبع نشاطات هذا الحزب الإرهابي وتضييق الخناق كثيرا عليه وتتبعه في غالبية الأراضي التركية وتكبيده خسائر فادحة، وهذا ما أدَّى إلى فقدان عناصر ومقاتلي الحزب قدراتهم على التحرك والمناورة بأريحية في الداخل لتنفيذ عملياتهم المسلحة وإبقاء مناطق كثيرة في حالة فلتان أمني، ولكن ورغم كل ذلك فإن أنقرة تعي وتدرك أن الواقع الميداني وبكل تعقيداته يشير إلى أن إنهاء خطر حزب العمال الانفصالي وأذرعه وتفرعاته مثل ميليشيات قسد يتطلب وبشكل مستمر متابعته والقضاء على أوكاره ومنطلقاته في أماكن وجوده وتجذره في كل من شمالي سوريا وشمالي العراق.
حقيقة يشن الجيش التركي بشكل منتظم عمليات عسكرية برية وجوية مثل عملية "مخلب البرق" و"مخلب الصاعقة"، ويقوم بعمليات كوماندوس خاصة ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني على طول خطوطهم ومواقعهم الوعرة في شمال العراق بإقليم "كردستان" العراق، وفي منطقة "سنجار" حيث أطلقت أنقرة في 17 من نيسان عام 2022، عملية "مخلب القفل" ضد معاقل حزب العمال الكردستاني في مناطق "متينا والزاب وأفشين باسيان" شمالي العراق، ومن المؤكد أن العمليات العسكرية الكثيرة وآخرها عملية "مخلب القفل" التي ما تزال مستمرة حتى الآن ستقرِّب أنقرة وبشكل كبير من الوصول إلى هدفها النهائي في شمالي العراق والذي يتمثل بفتح الطريق أمام الجيش التركي إلى أودية وجبال قنديل والوصول إلى معسكرات حزب العمال الكردستاني والعمل على تفكيكها وتدميرها وتجفيف منابع الإرهاب فيها.
ميدانيا فالعمليتان التي قام بها العمال الكردستاني مؤخرا ضد الجنود الأتراك في شمالي العراق 23 من كانون الأول من العام الماضي وفي 12 من كانون الثاني من العام الحالي والتي أسفرت عن قتل 21 جنديا كانت وبلا شك رسائل دموية آلمت تركيا وحكومتها وجيشها كثيرا، وعليه فقد عاود الجيش التركي تصعيد عملياته في شمالي العراق والتي لم تستثنِ أيضا مواقع كثيرة لقوات سوريا الديمقراطية في شمالي وشمال شرقي سوريا وذلك من خلال زيادة وتيرة القصف المدفعي والجوي للبنى التحتية الميدانية والاقتصادية والنفطية لقسد، واستهدافات الطائرات المسيرة التركية لقياداتهم السياسية والميدانية العابرة للحدود والمعروف أنها تدين بالولاء المطلق لحزب العمال الكردستاني وتنفذ تكتيكاته واستراتيجياته الانفصالية على الأراضي السورية.
في الواقع إن أنقرة وكما أشار العديد من مسؤوليها في مرات عديدة أن معركتهم ضد الإرهاب لا يمكن أن تنفصل بين سوريا والعراق، فسوريا هي المورد البشري للمنظمة الإرهابية وهناك حركة مستمرة لعناصرهم بين سوريا والعراق، وعليه فعمليا تركيا لا تفصل بين وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني"، وتعتبر أن كلاهما تنظيم إرهابي واحد ويعملان على تهديد أمن واستقرار تركيا. وبالتالي فهناك أحاديث قديمة جديدة عن احتمالات قيام أنقرة بعملية عسكرية برية واسعة جديدة، على غرار عمليات «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام» التي حدثت خلال السنوات السابقة على الأراضي السورية، وهذا ما أشار اليه الرئيس رجب طيب أردوغان في وقت سابق حين قال "إن تركيا لن تقف صامتة تجاه الذي حدث في شمالي العراق، وستواصل حماية أمنها عبر إجراءات وعمليات عسكرية جديدة قرب حدودها". وهذا ما أكده أيضا مسؤول بوزارة الدفاع التركية، حين قال إن أنقرة قد تنفذ المزيد من العمليات العسكرية داخل العراق وسوريا إذا لزم الأمر. وأضاف أنه و"بموجب القانون الدولي وحق الدفاع عن النفس، فتركيا لها كل الحق في تنفيذ عمليات للحفاظ على أمن حدودها وأمن مواطنيها"، وأردف أن القوات المسلحة التركية فعلت وستفعل كل ما هو ضروري أينما كان ومتى كان ذلك ضرورياً.
ختاما.. لاشك أن العمليات العسكرية الخاصة التي تقوم بها القوات التركية في شمالي العراق تختلف كثيرا عن العمليات التي تجري في شمالي وشمال شرقي سوريا، فلاشك أن العمليات في شمالي العراق هي عمليات عسكرية أصعب وأشد كلفة من حيث الخسائر المادية والبشرية، وخاصة أن التمشيط والمعارك إنما تدور على جغرافيا جبلية وعرة جدا وصعبة الرصد ومليئة بالكهوف والمغاور والاستحكامات الدفاعية، وحزب العمال الكردستاني حقيقة متمرس على التحرك والقتال والتمركز في مثل هذه المناطق ويعرف مداخل المناطق ومخارجها وكيفية التقرب من أهدافه ومباغتتها، أو نصب الكمائن الكثيرة للقوات التركية، وبالتالي هذا ما سيفرض على الجيش التركي إجراءات أمنية إضافية مشددة والعمل بحذر وحرص، والاعتماد على الاستطلاع المستمر والضربات الجوية والصاروخية والاستثمار الأوسع للطائرات المسيرة التي أثبتت قدرتها وفعاليتها في جميع الظروف القتالية والميدانية.