منذ 27 آب الماضي تاريخ الحراك العشائري واندلاع الاشتباكات الدامية بين العشائر العربية في أرياف محافظة دير الزور الشرقية والشمالية، وبين تنظيم قسد الذي تديره وتسيطر على قراراته وكما بات معروفا قيادات غير سورية عابرة للحدود (مرتزقة قنديل)، زادت هذه الميليشيات سيطرتها بغير حول ولا قوة من أصحاب الحق والأرض على محافظات ومناطق شرقي الفرات تحت مظلة وحماية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التحالف الذي أوجد في عام 2014 لمحاربة الإرهاب وقتال تنظيم داعش. وكما مر فإن هذه الاشتباكات ما لبثت أن امتدت إلى مناطق سيطرة التنظيم في محافظات الرقة والحسكة وأرياف مدينة منبج بريف حلب الشمالي، حيث سيطرت العشائر خلال فترة وجيزة على 33 قرية في شرقي دير الزور قبل أن تنسحب منها لاحقا لعدة أسباب لا مجال للبت فيها وذكرها في هذا المقال.
إن التحركات والاشتباكات الأخيرة لعشائر دير الزور والذي وكما نعلم قد أشعل شرارتها اعتقال قسد لقائد المجلس العسكري المدعو "أحمد الخبيل"، مضافا إليه جملة من المظالم المحلية الكثيرة والمتراكمة والتي يأتي على رأسها تهميش المجتمعات العشائرية المحلية، والفقر الذي تعيشه هذه المجتمعات على الرغم من غنى مناطقها بالثروات الزراعية والنفطية والغازية وذلك منذ لحظة سيطرة ميليشيات قنديل على المنطقة بعد هزيمة داعش وفقدان سيطرتها على هذه المناطق في عام2017. من ناحية أخرى فلا شك أن هذه التحركات والتمرد العشائري الذي انتقل منذ فترة ولايزال إلى مستويات جديدة وعمليات مسلحة منظمة أصبحت أشبه بالمقاومة الشعبية وأعمال العصابات التي تعتمد على مهاجمة مصالح وحواجز ومقار قسد بأعمال الكر والفر والتفخيخ وإيقاع الخسائر الفادحة فيها، كل هذا مجتمعا بات يقض مضاجع قيادات قنديل والتحالف، بل وبات يشكل تحديًا أمنيا ووجوديا كبيرا للولايات المتحدة وحلفائها وميليشيات قسد في المنطقة، وخاصة عند التفكير والخوض بأن لدى نظام الأسد وإيران وميليشياتها كل النوايا والإرادة والمصلحة العليا بطرق عدة للعمل على تغذية وتوسيع دائرة الاضطرابات القبلية في دير الزور ومحيطها والاستفادة منها، وذلك حرصا منهما على الإمساك بأوراق مهمة أخرى لممارسة ضغوط إضافية في هذه المنطقة الاستراتيجية، خاصة في ظل المتغيرات الإقليمية الأخيرة والنزاع الدموي المستمر بين إسرائيل و"حماس" إثر عملية طوفان الأقصى، وتكثيف أذرع طهران والميليشيات المدعومة من قبل الحرس الثوري هجماتها غير المسبوقة على المصالح والقوات الأميركية وتهديد قواعدها في شرقي وشمال شرقي سوريا والعراق بالصواريخ والطائرات المسيرة.
في الواقع ومن خلال معلومات ومصادر محلية عديدة من مناطق دير الزور، فإن إيران وحرسها الثوري والنظام السوري لايزالون يستغلون تردي الأوضاع المعيشية والأمنية وتجييرها لصالحهما ولا يدخرون جهدا في زيادة تحريض العشائر ضد الوجود الأميركي بالمنطقة، وإرسالهم ميليشيات الدفاع الوطني وخلايا تتبع لهم لخلق فوضى في شرقي الفرات ومنطقة الجزيرة، وهذا ما صرحت به قيادات كثيرة لقسد والتحالف مرارا وتكرارا، وعليه فالملاحظ أن طهران حقيقة الأمر قد زادت من وتيرة تحركاتها وخطواتها على أمل إيجاد أذرع مسلحة ومواطئ أقدام لها في شرقي الفرات والتوسع لاحقا في مناطق نفوذ الميليشيات الكردية والقوات الأميركية، أو في محيطها، مع كل الحرص على تعزيز وجودها وزيادة قوتها ونفوذها أكثر في الجهة المقابلة للنهر استعدادا لأي أعمال قتالية طارئة، حيث إنها كثفت في الفترات الأخيرة من برامج زيادة صلاتها بالمكونات العشائرية والعمل على تجنيد وتسليح أفراد من العشائر العربية في المنطقة عبر إقامة مقار ومراكز استقطاب عدة تقوم بتقديم الخدمات المتعددة والإغراءات المالية الكبيرة للمتطوعين، في مساع حثيثة للتحريض والتشويش على التحالف والوجود الأميركي بالذات، وزيادة الأخطار على مصالحهم وقواعدهم وتهديدها بشكل دائم ومستمر.
اللافت وفي وقت سابق، وفي مساع لتنظيم وتأطير العمل المسلح فإن شيخ قبيلة العكيدات "إبراهيم الهفل" الذي حقيقة لا يُعرَفُ أين يوجد قد أعلن وفي بيانات عدة عن تشكيل قيادة عسكرية موحدة تحمل اسم "قوات العشائر العربية" تضم وكما صرح بين جنباتها 11 فصيلا عسكريا لمواجهة ميليشيات سوريا الديمقراطية (قسد) شرقي سوريا، لافتا الأنظار إلى أن هذا التشكيل لا يتبع لأي جهة أو حزب في إشارة منه على عدم ارتباط هذا التشكيل بنظام الأسد أو إيران، وأن الهدف من هذا المكون هو العمل على تحرير دير الزور من “احتلال” قسد ومرتزقة قنديل والمتعاونين معهم وأتباعهم من الخونة العرب، لافتا النظر إلى أن الحراك لن يتراجع حتى تطهير المنطقة من هذه العصابات الغريبة عن المنطقة.
في الواقع ورغم فترة الكمون والهدوء النسبي وسعي التحالف بكل الوسائل السلمية الممكنة لتطويق كل ما من شأنه أن يحدث ويجدد الاضطرابات والاشتباكات، ولكن الحراك العشائري العفوي وغير المنظم والقلاقل الأمنية في شرقي الفرات لم تنتهِ وجذوة النار التي اشتعلت في شهر آب الماضي لم ولن تنطفئ، بل هي قابلة للتوسع والتمدد في أي وقت ولأي سبب كان مادام هذا المكون الغريب (ميليشيات قسد وقياداته قنديل) مستمرين بالدعم والوجود الأميركي بالحكم والتحكم في المجتمعات العشائرية وممارسة كل ما من شأنه الإساءة المقصودة وغير المقصودة لهذه المجتمعات وسرقة مواردهم وإبعادهم عن القرارات الخدمية والعسكرية والمصيرية للمنطقة.
ختاما... لا شك في أن القبائل في انتفاضتها الماضية رغم خفة حدتها وتواصل نشاطاتها الميدانية المقلقة للتحالف ولميليشيات قسد بين الحين والآخر، ومهما كانت دوافعها وأسبابها وتواصل عملياتها، وبغض النظر عمن يقف مستترا وراءها أو يحاول ولأسبابه وأهدافه العمل على زيادة زخمها وتغذية جذوتها، فلا شك في أن هذه التحركات قد حققت على أقل تقدير الحد الأدنى من التأثيرات الميدانية والعسكرية التي أقلقت قسد وكسرت عنجهيتها وهددت سيطرتها، بل واستطاعت أن تثبت للتحالف الدولي ولجميع أصحاب النفوذ الآخرين، أن هذه الميليشيات مهما تعاظمت قوتها ومهما كانت تحالفاتها ومن يقف معها ويدعم سياساتها ونشاطاتها، فإنها وبشكل لا يقبل مجرد الشك أنها ستستطيع ومهما فعلت على تحييد المكون العربي والعشائري وتجاهله وإبعاده وأقلها عن المشاركة الفعلية والفعالة في إدارة شؤون مناطقهم إدارة حقيقية لا صورية، والاستفادة من خيراتها والأيام والأسابيع المقبلة ومهما طالت فلاشك مطلقا أنها ستثبت لنا وللعالم ذلك.