لا مندوحة من القول إنّ بشار الأسد لم يكن مصلحاً، ولا حداثياً، إنما كلّ ما فعله أنه حدّث الدولة البوليسية. وعليه قيستْ سطوته الاستبدادية بمقدار تحكمه بتقنين المعرفة وتحجيم وتغييب الحقائق قدر المستطاع. عزّز هذه السطوة إعلامٌ ضليع بتقديم معلومات مكذوبة، لترويج رواياته حول ما يجري في البلاد، ركّز على خنق الوقائع والمعطيات، واستخدام لغة الخشب، والشعارات الرنانة. يعني هذا، أنّ المركز فقدَ قيمته بالفعل، وهامش التلاعب أصبح يضاهي المركز قوة وتأثيراً، مذ بدأ التسويق أنّ "الحقيقةَ المُقنِعة كذبةٌ متقنَة". بهذا المعنى، بقيت الحقائق المطلقة تلك الموجودة داخل جماجم السوريين فقط، وعلى مستوى التأمل الذهني الخالص.
وهنا يُطرح سؤال الأولويات بالطبع، لمعرفة ماهية الحدود الفاصلة بين ما هو من صميم عمل الدولة ومؤسساتها السياسية، وما هو من صميم عمل المؤسسة الإعلامية السورية بعدما تمّ تزييف المخيال الشعبي، وهو ما يطرحه جوستاف لوبون بقوله: "إنّ معرفة فنّ صياغة مخيلة الجماهير تعني معرفة فنّ حكمها"، فهي استراتيجية الطغاة الناجعة بالتأكيد. وهنا يظهر الإعلام السوري، "الذي يكذب حتى في النشرة الجوية"، مصاحباً لجو معمّم من "الفرجوية الاستهلاكية الفجة" لفئاتٍ تستفيد وبطرائق شتى مما هو قائم. إعلام لم تكن مهمته كشف الحقائق، على الإطلاق، وإنما كشف ما يريده النظام ويريد للشعب وللعالم أن يصدقه، مطلقاً مخالبه السياسية كالكلاب المسعورة تنهش جسد الحقيقة، التي غدت هلامية لدرجة أنه لم يعد لها وجود.
غدا الإعلام السلطوي السوري، أشبه بعنف رمزي مشبع ببراغماتية الانحياز إلى معسكر الحاكم المستبد، الواحد الأحد، ليكون جزءاً من صنع السياسة العامة
وفي جانب موازٍ لسيطرة الشمولية ومحاولة الرجوع بالعجلة للخلف، يقول نويل كالهون: (يُظهر الزعماء السياسيون، الذين تمرّغ عهدهم بتاريخ طويل من الجرائم، غيرةً استثنائية على السلطة لأنها الضامن الأوحد لأمنهم المادي). من هنا غدا الإعلام السلطوي السوري، أشبه بعنف رمزي مشبع ببراغماتية الانحياز إلى معسكر الحاكم المستبد، الواحد الأحد، ليكون جزءاً من صنع السياسة العامة، بعدما غدا قوة مستقلة قادرة على خلق إشكاليات معينة، ستصبح لاحقاً من أجندة عمل السلطة. وفي أحد جوانب التسويق الإعلامي، الأكثر حساسية، تولت العائلة الحاكمة نفسها مهمة إدارته. فثمة فيلم وثائقي بعنوان (أسماء الأسد... وجه الديكتاتورية الجميل) تحدّث عن دور الأخيرة في صناعة بروباغندا النظام وتلميع صورته أمام المجتمع الدولي.
واليوم، وعلى التوازي، يحاول نظام الأسد المفلس سياسياً، الترويج لنفسه من خلال قنوات إعلامية جديدة لإعادة شرعيته وشعبيته، ولنا في الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد دليل حيّ، إذ عمل النظام على تصدير نفسه "إنسانياً" مستغلاً أوجاع حتى الأطفال، وذلك من خلال تسليم هذه المهمة لأسماء الأسد التي ظهرت بصورة السيدة "المحبّة والمتعاطفة" خلال اتصال بتقنية الفيديو مع طفلة تدعى شام، فقدت قدميها متأثرة بالزلزال، وقبل أن تنهي مكالمة معها قامت بإرسال قبلة ورسمت قلباً بأصابع يديها للطفلة المنكوبة. في وقت سابق سارع إعلام الأسد إلى استغلال الإنجاز الذي حققته الطفلة السورية "شام البكور" بعد فوزها في مسابقة "تحدي القراءة العربي"، لإثبات رعاية النظام للطفولة وتشجيعه الإبداع، رغم أنّ والد الفتاة قُتل بقصف خلال أعمال العنف في حلب. فسوريا بلد المفارقات المدهشة لا شك. لا يضير مثلاً، أن ترى صوراً للأسد وزوجته في دار للأيتام يلعبان مع الأطفال، رغم أنهما المتسببان بيتم مئات آلاف الأطفال منذ بداية الحرب الطاحنة. وقد وُثّق قتل ما لا يقل عن 22981 طفلاً منذ 2011، قضى معظمهم بسبب عمليات القصف الجوي العشوائي، إضافة إلى ما لا يقل عن 3691 لا يزالون قيد الاعتقال/الاحتجاز أو الاختفاء القسري، في حين قُتل ما لا يقل عن 190 طفلاً بسبب التعذيب.
بموازاة هذه الحقائق الجحيمية، وعلى سبيل استقطاب المستثمرين القادرين على إعادة إنعاش السوق السوري، وعلى كافة الأصعدة، رصدت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية محاولة نظام الأسد توظيف المؤثرين الغربيين أمثال المدونة الإيرلندية الشهيرة جانيت نيوينهام، والمدونة البولندية إيفا زو بيك، والمدون الليتواني جاكوب لوكايتيس، وغيرهم الكثير. فمنذ مطلع عام 2022، سهلت الآلة الدعائية الموالية وبشكل مكثف قدوم صانعي المحتوى الغربيين إلى مناطق النظام، لتستغل سذاجة وانتهازية هؤلاء المؤثرين وتعطي زخماً للتصريحات التي يعلنون فيها أنّ سوريا بلدٌ آمن. ورغم أنهم يصورون مشاهد الدمار الهائل في المناطق التي يمرون بها، فإنهم يتجنبون الحديث عن تلك المباني التي سويت بالأرض من جراء القصف خشية الاعتقال.
وهذا ما اعترف به مدوّن السفر الإسباني جوان توريس لصحيفة الغارديان الذي نفّذ رحلات متعددة إلى سوريا منذ عام 2018 بقوله: "لن أقول أي شيء سيئ عن الحكومة، بالطبع، لأنني أخاطر باعتقالي". ما يزيد الطين بلّة أنّ هؤلاء لا يخرقون فقط أخلاقيات صناعة محتوى السفر، بل ينشرون المعلومات المضللة والمغلوطة عن بلد منكوب تتحكم به أجهزة المخابرات، ولا يستطيع أيّ مواطن فيه رفع حتى هاتفه الجوال لتصوير معالم بلده دون موافقة أمنية.
تتحول الحقائق الخرساء داخل الديكتاتوريات المتشددة إلى نوع من الكذب المغلّف بمديحٍ شعبي استهزائي
ولنزد من الشعر بيتاً.. في عام 1937 افتتح هتلر بنفسه (بيت الفن الألماني)، كما سماه حينها، ليكون في خدمة أيديولوجية الحزب الاشتراكي القومي العمالي الألماني، أيضاً في "سوريا الأسد" يبدو استثمار الفن كسلعة مجردة، أشبه بتكنيك إعلامي مسيّس يمارس الاستلاب الناعم على السوريين بحجة الترفيه. فكلّ الاحتفاليات الفنية التي تُقام تنضوي في إطار ما يمكن تسميته بالكرنفال السياسي منتهي الصلاحية. مع هذا يلعب نظام الأسد على وتر إعادة تصنيف سوريا على أنها الآمنة والمنفتحة، بينما يسير في ملف التطبيع، وإن بخطى خجولة، مظهراً للعالم استقرار بلاده على الرغم من نزوح ملايين السوريين، الذين يعيشون في خيام تفتقر لأدنى مقومات الحياة. سهّل هذه اللعبة الخبيثة تهافت عدد من مشاهير الغناء إلى مناطق النظام للمشاركة في الحملات الترويجية. فنانون مغيبون، متواطئون أو انتهازيون، لا يهم، ما يهم فعلياً أنهم لا يترددون في استثمار اللحظة السياسية مهما كانت تكلفتها الإنسانية والأخلاقية مرتفعة. ثمة مغنية شهيرة أقامت حفلة في قلعة دمشق قالت بملء شدقيها: "فتت عالأوتيل شميت ريحة النصر.. شميت ريحة الفرح.. شميت ريحة النجاح..".
عملياً.. تتحول الحقائق الخرساء داخل الديكتاتوريات المتشددة إلى نوع من الكذب المغلّف بمديحٍ شعبي استهزائي، ورغم أنّ البروباغندا الإعلامية السلطوية ليست ظاهرة جديدة، إلا أنها أخذت بُعداً جديداً عند النظام السوري بعدما أولت اهتماماً بالغاً لبناء مؤسسات القهر والقمع، فغدت أشبه بـ "كلب حراسة لا يتوقف عن النباح"، تشتّت أنظار السوريين عن الورم الخبيث، وتحوّل الانتكاسات الجمعية إلى سياسة الإلهاء والارتباك. وتماشياً مع رؤية الزعيم السياسي الإيطالي بينيتو موسوليني، وهو القائل: "كلّ شيء مع الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة"، يبدو ترويج الحقائق السورية المشوهة، في أشكالها العُنفية الرمزية، عاملاً حاسماً في المشاركة السياسية، ورغم أنّ العالم ينظر إلى سوريا من منظور سياسي بحت، فإنّ نظام الأسد لن يحصد ثمار التغطية الإعلامية المشتهاة، مع هذا لا يزال يصرّ على استعمالها كدروع وخنادق يحتمي خلفها في إطار تسيير أعماله ضمن أدوار محددة ومنسقة.