"ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين يتبختر ويستشيط غضباً على المسرح، ثم لا يسمعه أحد، إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء".
أبدأ بمقطع من مسرحية ماكبث، لأشير إلى حكايتنا التي باتت مليئة بالصخب والعنف، والصمت أيضا، وأستعير عنوان رواية فوكنر "الصخب والعنف"، إذ ثمة دائما خيط إنساني، وزمن بلغ سنّ الجحود، مسلسل من الموت التراجيدي يعيشه السوري، ولا أحد يلتفت، فما نراه اليوم، من فوضى الحروب، وما نعيشه من مآسٍ، وصخب التكنولوجيا وتمييع المشكلات، والتي تعكس صورة من صور الانحلال الاجتماعي وفوضى القيم الإنسانية.
750 مهاجرا معظمهم ضحايا القارب الغارق قبالة شواطئ اليونان، منهم خمسون طفلا، تسع نساء، ومئات الشباب، صيف مأساوي، وربيع مرسوم بأزهار الموت.
انطلق القارب من مدينة طبرق الليبية باتجاه إيطاليا، انطلق محملا بالشباب والصبايا، بعد أن فقد معظمهم أي أمل في هذه الجغرافيا التي تتكلم اللغة العربية
العنف الإنساني الذي نعيشه ربما بلغ ذروته في المحرقة السورية، فبتنا مثل البدوي المترحل الذي ينزح من أرض إلى أخرى خوفاً من الهلاك، فهل نقول مع شتاينر: "للأشجار جذور، ولي ساقان أدين بحياتي لهما"، أم نقول لقد قُطّعت الجذور والأقدام معا؟
لن نقع باليأس، يكفي أن نكتب، وأن يروي كل شاهد صور المأساة، المأساة التي يسهم بها حتما كل من يصمت عن موت السوري، وهل نحتاج إلى معجزة كونية لكي ننجو، وإلى أي درجة بتنا مصابين باضطراب اللغة، وربما خرفها، فلا أحد يسمع أو يرى بأننا صرنا طعاما لحيتان البحر؟
انطلق القارب من مدينة طبرق الليبية باتجاه إيطاليا، انطلق محملا بالشباب والصبايا، بعد أن فقد معظمهم أي أمل في هذه الجغرافيا التي تتكلم اللغة العربية، حيث تغلق الحدود، أو تمارس العنصرية والترهيب، أو تفرض البطالة، فلا يبقى أمام هؤلاء سوى دفع آخر ما يملكون ليهربوا بطرق غير نظامية إلى الجهة الأخرى من المتوسط، باتجاه دول أوروبية.
نعم طرق غير شرعية، فالفيزا شبه مستحيلة، وليس أمامهم أي خيار سوى هذا الطريق الشائك المحكوم بسماسرة الحروب، والطائرات، والسفن، التي تتبع الفارين لتحمي حدودها، فأين المفر؟
في المركب، سوريون، ومصريون، وفلسطينيون، وأفارقة، ولكن الغالبية العظمى سوريون، بلاد تُغتصب، وشعوب تهيم على وجهها، تتسكع في المنافي، وربما تضع بعض أحلامها في مشاريع صغيرة تحمل أسماء وعناوين مدنهم وأمكنتهم التي تركوها وراءهم مرغمين.
السوريون الذين مضوا إلى السودان، يجدون أنفسهم وجها لوجه أمام حروب طائشة، فتضيق الخيارات، ولا يبقى أمامهم سوى اختيار تسكع عبثي آخر.
تجار الحروب يلعبون والناس يموتون، تراجيديا مروّعة، وضوء أمل بعيد، قصة تدور حول نفسها، أصوات أشبه بالقيامة، يحوم حولها طائر الموت، وكأن كل المآسي التي نعيشها تنير للمساكين الطريق نحو الموت، وصخرة الانتحار.
هذه النقلة من الحب إلى الحرب، كان الشباب ينتحرون في لحظة عمًى خوفا من فقد من يعشقون، اليوم يلحقنا حبل الحروب ولا نجاة، بالتأكيد فإن النصر ليس إلا من أوهام المجانين والحالمين، لأن الخراب ينتشر وينتصر، وكأن كورس الوجود والعدم يردد لقد رأيت البداية، والنهاية حرف أسود ومائل، حرف شائك، مكتوب على أرض مفخخة بالحروب والكراهية والطائفية والأسئلة الملجومة، ولا أحد.
أسئلة معلقة بالريح، سؤال ما مصير النازحين، وهل نطلب إذن الرجوع من مغتصب بهيئة قائد؟
ما مصير المعتقلين، لقد رأيت بردى بلون الدم، وشاهدت خنادق الموت في اليرموك، وقلت ليتني أصبت بالعمى ولم أر ما رأيت، المدن ركام وعتمة.
إنهم يسرحون ويمرحون، تجار حروب، ومخدرات، مافيات وأنظمة خراب، وسط كل هذا تضيق نوافذ الأمل، فتهديم ذاكرة يعني محو شعب، كلّ شيء معلّق في الفراغ، يا للهول نحن شهود على كل هذا الدم.
يعيش الإنسان حالة تشرذم وهروب جماعي دائم، وحسب "ماكس بيكارد"، فإن الحروب، وصعود الديكتاتوريات وما تبعها من خراب وتدمير طال الحضارة والإنسان، فإنه تجسيد حي لهذا الخلل فى التوازن بين عالم الإنسان الداخلي وعالمه الظاهري".
المجزرة تتناسل، وحدنا في المهب، أمام عالم أخطبوطي، المال العولمة التكنولوجيا، وحرب تفترس العالم، النفي والتهميش وامتداد ألسنة المحرقة تطول السوريين، لإقصائهم خارج الأنا، خارج الفردية والذاتية، ليس مهما رأيك بالقضايا الوطنية، أو المشاركة، وكأننا صوت صدى للهزيمة، وارتفاع موج الموت.
التراجيديا سوداء، ثمة من يمسح الدم وغبار المدن والحرب عن كرسي متهالك لايزال يجلس عليه مهرّج، يقهقه ويردد، فليذهب من ذهب إلى الطوفان، البحر، الزلزال، اللجوء، المعتقلات، وأكثر وأكثر لا أريد لاحد أن يبقى سواي.
في مشهد الغرق، تعلن اليونان الحداد ثلاثة أيام، في الوقت الذي تشار إلى قوات شواطئها أصابع الاتهام في غرق القارب
لقد فشلنا في الطفو على الماء، وغرقنا، يا للحيتان، حيتان البحر، حيتان الحروب، حيتان المال، حيتان التكنولوجيا هذا الحصار يدفعنا للقول البحر من أمامنا، والحرب وراءنا، فأين المفر؟
في مشهد الغرق، تعلن اليونان الحداد ثلاثة أيام، في الوقت الذي تشار إلى قوات شواطئها أصابع الاتهام في غرق القارب، وعلى طرفٍ آخر هناك من يرى ويضحك ولا يرف له جفن، فهل نردد المثل الذي يقال في أوج القيامة: "انجُ سعدٌ هلك سعيد"، ننجو بالكتابة، لأننا شهود على مجازر تتناسل.
هل نحتاج إلى راوٍ أبله يروي حكايتنا، يهلوس كما هو "كونتن"، بطل "الصخب والعنف"، فالزمن بكل ما يحمله من خيبات، لن يستطيع التغلب عليها، سواء كسرنا الساعة في معصم اليد، أو كسرنا زجاج الساعة، فلا نجني إلا جرح معاصمنا، وأرواحنا؟
يبدو أن المعركة مع الحياة خاسرة إلى حد ما، ما يدفع البعض إلى الانتحار، لا أبالغ بهذا الجنون، لأن قوارب الموت وراءها تجار، وبداخلها شباب محملون بالأحلام، فيدفعون كل ما يملكون ليصلوا إلى الجانب الآخر من الشمس، ولكن هيهات أن يجد العالم حلولا لقضايا معلقة، وأجساد يأكلها الموج والحيتان.