عندما كانت تُذكر مدينةُ حماة في الماضي فإنّ ذكرها كثيرًا ما كان يفتح كوّةً في جدار أريد له أن يكون سميكًا؛ سرعان ما نهرع إلى ردمها بالصّمت المتعمّد إيثارًا للسلامة، يغدو الأمر شبيهًا بإلقاء حجرٍ في بركة مياهٍ مجفّفةٍ عمدًا، لئلّا يحدث ذكرها أيّ دوائر محتملة قد تتسّع وتحيلك إلى مجزرة داميةٍ ألحقها نظام الأب المجرم بالمدينة في ثمانينيات القرن الماضي، وقد بذل كلّ ما بوسعه من إجرام لتكون المدينة التي فكّرت بالتمرّد عليه يومًا درسًا لا يُنسى للسوريين كلّهم، وعنوانًا لمرحلة لا صوت فيها يعلو إلّا القمع والدم والقتل الممنهج، تحت عباءة الحضارة والمدنيّة ومحاربة التطرّف، نعم! إنّها المدينة التي لقّن بها الأسد الأب السوريين جميعهم درسًا حرص ألّا ينسوه أبدًا.
نحن كجيلٍ وُلد إبان المجزرة لم نكن نمتلك معرفة كافية بما حصل في المدينة؛ مجرّد تفاصيل غائمة في حديثٍ عابرٍ لأهالينا يتقاطع في جزء منه مع المجزرة، أذكر المرّة الأولى التي أشارت فيها أمّي لأحداث فظيعة لحقت بالمدينة، لكنّها لم تصرّح بتفاصيل كثيرة، اكتفت بالحديث عن أحياء مهدّمة وخرابٍ كبير لحق بالمدينة رأته بعينها حين اضطرّت لمراجعة طبيبٍ في المدينة يلجأ الناس إليه في الحالات الصعبة، وكان ذلك بعد سنةٍ من الأحداث التي وقعت في المدينة والتي بدا أنّ آثارها الوحشيّة والمدمّرة ما زالت موجودة بشكلٍ واضحٍ وجليّ بالرغم من مرور سنةٍ كاملة على حدوثها.
كان هناك تواطؤٌ من قِبل الجميع على الصمت، ومحاولات لإسقاط ذاك الجزء المؤلم من الذاكرة
عندما قامت الثورة كُشف المستور، ورفع الغطاء جملة واحدة عمّا حصل في المدينة عام 1982 والذي أحيط بكتمان شديد من قِبل أهالينا، كنّا نسمع كثيرًا عبارة (الحيطان إلها آذان) فيما مضى، كان هناك تواطؤٌ من قِبل الجميع على الصمت، ومحاولات لإسقاط ذاك الجزء المؤلم من الذاكرة، لكن بعد عام 2011 وانضمام معظم الشباب إلى صفوف الثورة السورية كان الأهالي الخائفون من تكرار سيناريو الثمانينيّات يحذّرون أولادهم من الانضمام إلى تلك الاحتجاجات؛ إذ كانوا يكرّرون عباراتٍ مثل: "هل تظنّون أن نظامًا مجرمًا سيسقط ببعض المظاهرات والاحتجاجات"؟
قريبٌ لنا كان يعمل في إحدى الدوائر الحكوميّة في المدينة؛ يعود كلّ يومٍ ليروي لعائلته قصّة سمعها من أحد المراجعين الذين يعتقدون بعدم الجدوى ممّا يحدث، انفجرت ذاكرة الناس عن عشرات القصص، وكلّها تتّفق على أنّنا لن نستطيع مواجهة نظامٍ عريقٍ في الإجرام ومتمرّس بصنوفه، أحدهم روى له كيف نجا بأعجوبة من الإعدام رميًا بالرصاص؛ حين سقط الرجل الموجود جانبه برصاصة وتهيّأ هو لتلقّي الرصاصة المقبلة، سقط من شدّة فزعه قبيل وصول الرصاصة إلى جسده بلحظات ثمّ فقد الوعي، وحين استيقظ وجد نفسه بين عددٍ كبيرٍ من الجثث، تظاهر بأنّه ميت وبقي ساكنًا حتى حلّ الليل، ثمّ فرّ إلى المزارع المحيطة ومنها إلى قرية مجاورة بقي فيها حتى انتهت الأحداث، حرص ذلك القريب على رواية ما يسمعه من فظائع تُروى له عن أحداث الثمانينيات لأولاده ليحذّرهم من الانضمام للثورة وللاحتجاجات التي باتت تضرب المدينة بقوّة.
المثير للألم حقًّا أنّ ذلك القريب الذي حرص على الحياد التامّ وعلى تحذير أبنائه من الانخراط في الثورة، اعتُقل بسبب تشابه اسمه مع أحد المطلوبين للنظام ممّن شاركوا في المظاهرات والاحتجاجات السلميّة في المدينة، وما يزال مصيره مجهولًا حتى اليوم.
لقد كانت المرحلة التي سبقت الثورة مرحلة تعتيم وصمتٍ عن المجازر التي وقعت في المدينة في وقت سابق؛ تفلتُ بعض الشذرات بين الحين والآخر من شفاه من هم حولنا في لحظة بؤسٍ ويأسٍ أو بمحض الصدفة، كانت الناس في ذلك الزمن تتبع حرفيًا شعار: (الحيطان إلها آذان!) الذي بقي مسيطرًا بقوّة في خضمّ الأحداث الجديدة التي لم تقتصر على مدينةٍ سوريّة بعينها؛ خصوصًا في الدوائر الحكوميّة، كان الصمت تجاه ما يحصل حولنا من أحداث مُطبقًا ومبالغًا فيه.
أكثرُ ما كان يثير استغرابنا ويستفزّنا في المدرسة التي كنتُ فيها؛ هو إحدى المدرسّات التي كنّا نظنّها من المدينة نظرًا للهجتها التي لا يمكن لك حين تسمعها إلّا أن تظنّها كذلك، عندما اشتبكت مرّة مع أحد المدرّسين النازحين من مدينة الرقّة والهاربين من تنظيم الدولة؛ إثر شكواه من إيجار البيوت الذي يرتفع في كلّ شهر، لتبادره بلهجة متعالية وقاسية: "ليه قاعدين عنا؟ الرقة وتحررت، روحوا ارجعوا لبلدكم" وبعد جدالٍ صاخبٍ بينهما عن الحياة هنا وهناك، قبل وبعد؛ قالت له بالحرف الواحد: "كتّر خيره لحافظ الأسد عملكم خلق وبشر، الله يرحمه لحافظ الأسد"!
كان المدير قد حذّرنا جميعًا من الخوض في أحاديث تمسّ الوضع الراهن، نعم! يمكننا أن نخوض في أحاديث ونقاشات كثيرة، باستثناء الوضع الراهن؛ كأن نناقش أحداثٍ وقعت قبل خمسين عاماً مثلًا، بشرط ألّا تحتمل التأويل فتمكّن أحد المتصيّدين في الماء العكر التقاط زاوية معيّنة فيها، ليسقطها على ما يجري ويضعها في سياق معيّن يودي بصاحبها، يفضّل أن نتحدّث عن طبخة اليوم مثلًا؛ بشرط ألّا نتطرّق إلى الشكوى من الغلاء فنكون كمن ينتقد الأوضاع المعيشيّة، وهذا لا يمكن تأويله إلّا بالسخط وعدم الرضا عن الحكومة وتشكيك في قدراتها وأدائها لا سمح الله! يُفضّل أن نصمت وإن اضطررنا إلى الحديث وشعرنا بحاجةٍ ماسة للفضفضة تقرصنا، يمكننا الحديث عن حالة الطقس عندما يكون جيّدًا، يُفضّل عدم الحديث عنه عندما يكون غائمًا أو ممطرًا فقد يكون ذلك مدعاةً للتأويل أيضًا؛ كيف لنا أن ننسى أن إحدى المحطّات المغرضة انتهزت خروج الناس في سوريا ليشكروا الله على نعمة المطر، لتقول في أحد أخبارها العاجلة إنّ مجموعةً من السوريين خرجوا في مظاهرةٍ يطالبون فيها بإسقاط النظام!
غريبٌ فعلًا أن يطغى شعورك بالانتماء لنظامٍ مجرمٍ وألّا يبهت مع الزمن وأنت ترى مجازر جديدة تُرتكب بحقّ أهل المدينة المنكوبة من جديد
لم تعد الأحداث التي وقعت في المدينة سابقًا مجرّد فزّاعة يتولّى طرفٌ إخافة الطرف الآخر بها وترهيبه منها؛ بل أصبح المجرم الذي تولّى دفّتها، وصنع كاتلوك طغيانه الخاصّ والمتفرّد من خلالها؛ أيقونة حضاريّة، صانعٌ للحياة والمدنيّة وواهبٌ لها، وكأنّه لم يحفر بمعول وحشيّته قبور (40 ألفًا) من أهل المدينة، جيّد أنّ قرّت نفوسنا في مرحلةٍ لاحقة باكتشافنا عدم انتماء تلك المدرّسة للمدينة؛ وأن لهجتها المتقنة تلك اكتسبتها من طول إقامتها وسكناها المدينة، من الغريب فعلًا أن تسكن مدينةً وتحرص على إتقان لهجة أهلها والحديث بها، وفي الوقت نفسه تهمل إتقان صيغةٍ للتعاطف مع آلامِ أهلها وإن من باب الحياء، غريبٌ فعلًا أن يطغى شعورك بالانتماء لنظامٍ مجرمٍ وألّا يبهت مع الزمن وأنت ترى مجازر جديدة تُرتكب بحقّ أهل المدينة المنكوبة من جديد، والأكثر غرابةً ألّا تتوانى عن تبييض صفحته والإشادة بمآثره التي لا تخرج عن نطاق القتل وارتكاب المجازر واحدةً تلوَ الأخرى.
نعم! لم يكن أحدٌ ممّن شهد ذلك الموقف قادرًا على تصوّر وجود شخص ينتمي للمدينة المنكوبة، وعايش مجازرها القديمة والحديثة على حدّ سواء؛ يتحدّث عن المجرم حديثًا يجعله بمنزلة واهب الحياة لا منتزعها، يمتدح الأب القائد، المنعم المتفضّل الذي لم نكن لندخل طور الحضارة ونرتقي في مسالكها لولاه، ولولا أياديه البيضاء علينا التي لم تكن بالنسبة لنا سوى أيادٍ ملطّخة بالدم من كوعها إلى بوعها، لكنّ بعض العبيد يصرّون على التلاعب باللون وتصحيحه ليغدو أبيض نقيًّا لا شائبة فيه، ثمّ يريدون منا جميعًا ومن دون استثناء أن نطمس المجازر من ذاكرتنا، ونمحو أيّ أثرٍ لها لنرى الصورة كما يرونها هم؛ موغلة في البياض!