في ظلال الأخبار الوارفة

أتابع الأخبار من غير مخدر، مقنعًا نفسي أن متابعة أخبار غزة نوع من الرباط والمصابرة، ووجدت أن الإعلاميين يكررون جملة بعينها، وتعبيرًا "بأنفه"، هو "في ظل" الذي يستخدم في كل حين، فهو وعاء لكل بضاعة إخبارية أو وصفية، خذ على سبيل هذه العناوين: يخشى من اتساع الحرب في ظل اشتباكات حزب الله وإسرائيل.. و"في ظل" تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن كذا، وإنّ الجزيرة ترصد أخبار النازحين "في ظل" نقص الطعام والماء والدواء، وأنّ الناجين لا يزالون في ظل القصف من غير طعام أو ماء أو كهرباء، وإنّ الحوثي ركب الموجة في ظل سطوع نجم أبي عبيدة، وإنّ 60% من المباني غير صالحة للسكن في ظل مغول العصر، وإنَّ المستشفيات والمراكز الطبية تحولت إلى مخيمات لاجئين في ظل القصف الشديد، فالقصف له ظلال، والنيران لها ظلال، والظلال لها ظلال. وهي عبارة "عرنجية"، والعرنجية عنوان كتاب لأحمد الغامدي وللكتاب عنوان إضافي يبين عنوانه الأول، وهو: بلسان عربي هجين.

بل إنَّ المذيع ذكرًا أو أنثى، ما إن يقابل أسيرًا محررًا حتى يسأله: هل كنتم على اطلاع بما يجري من صفقات في ظل الأسر والسجن؟

لو كنت في غزة لسعيت في تقرير إخباري عن حيوانات غزة في حديقة الحيوان التي ذكر إعلامي أنها ماتت في ظل الجوع!

 ومن الأخبار أنَّ القصف مستمر في ظل الصمت الدولي والعربي، وقول الصحيفة: لماذا ترتفع أسعار النفط في ظلِّ الحرب على غزة، وإنّ أهل غزة يستخدمون عربات تجرها الحمير في ظل القصف والحصار، وهي حمير وبغال وخيول جائعة تظهر أضلاعها من تحت الجلد في ظلِّ الضنك والجوع والضوى، ولو كنت في غزة لسعيت في تقرير إخباري عن حيوانات غزة في حديقة الحيوان التي ذكر إعلامي أنها ماتت في ظل الجوع!

 وأنَّ أهالي الشهداء يبحثون عن جثامين أهلهم في ظل الهدنة تحت الأنقاض، وأن آلاف المحامين يتعهدون بالدفاع عن أهل غزة في ظل غياب العدالة الدولية، وأنَّ الصيادين في غزة عاجزون عن الصيد في ظل تدمير سفنهم وقواربهم، وأن بلديات غزة عاجزة عن إخراج جثامين الشهداء في ظل نقص البواقر والكباش..

ورأينا رئيس مصر في اليوم الثاني للهدنة وقد شبك يديه، على عادته، التي أرجو أن يتطوع لها عالم نفس فيكشف لنا تفسيرها وظلالها في قاموس لغة الجسد، يدعو إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح. يقول المثل: "من قلة الخيل ركبنا للكلاب سروج"، ولا أعرف إن كان أجدادنا ركبوا للكلاب سروجًا في الشمس أم في الظل؟

 ومن أقوالهم: إن هناك صعوبة في التدفئة في ظل الشتاء والبرد وانقطاع الغاز والكهرباء، والهدنة مستمرة في ظل تبادل الرهائن والمحتجزين، وإن لجنة عقدت في ظل القمة الإسلامية العربية، تتنقل بين البلدان للتعريف بمظالم الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال.

تأثرت بهذه العبارة حتى غلبت لساني، فأحجمت عن شراء الحاجات في ظل الحرب على غزة، واضطررت لشراء باقة هاتف لمتابعة الأخبار في ظل قيادتي للدراجة

أشهر كتاب للمنفلوطي عنوانه "في ظلال الزيزفون"، وله النظرات والعبرات، ولم ترد فيها عبارة في ظل إلا في العنوان، وفي مكانها الصحيح، ولن تجد هذه العبارة في المكتبة العربية القديمة إلا بمعناها أو ما في حكم الظل وظل الحكم، مثل: في ظل عرش الرحمن، في ظل شجرة، في ظل حائط، في ظل ناقته، ومنه قول النَّاس "أنا في ظِلِّكَ" أي: في ذَرَاك وسِترك، ومنه "ظل الجنة"، وظل شجرها إنما هو سترُها ونواحيها، وظلُّ الليل: سواده؛ لأنه يستر كل شيء، أي: في ستر ليل أسود، فكأن معنى ظل الشمس ما سترته الشخوص من مَسْقطها، والفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال فيء، وإنما سمي بالعشي فيئاً لأنه ظلٌّ فاء عن جانب إلى جانب، أي: رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق، لكن ظلال الظل اتسعت في أدبيات العصر اتساعًا عجيبًا كأن الشمس غائبة أو مكسوفة كسوفًا أبديًا.

وقد تأثرت بهذه العبارة حتى غلبت لساني، فأحجمت عن شراء الحاجات في ظل الحرب على غزة، واضطررت لشراء باقة هاتف لمتابعة الأخبار في ظل قيادتي للدراجة، واعتذرت عن عرض عمل، وهو نوع من العتالة في ظل وجع ظهري، فأنا أريد عملًا أستطيع في ظله متابعة الأخبار. واستزارني صديق فسألته في ظل أي ساعة تريد؟ وطالبني صديق بكتاب مستعار، فأخبرته أني ما أزال في ظل الصفحة 500، وسألت صديقًا إعلاميًا في الوطن عن حاجة لي وعد أن يقضيها، فاعتذر لأن الشمس طالعة، ويريد أن يتمتع "بظل الشمس" يقصد بنورها! أما أجمل علم تعلمته فهو مقولة حكيم غاب عني اسمه، في ظل خيانة الذاكرة، كان الملك قد استنصحه في أفضل طريقة يقيد الشعب في ظله، فتوقعت أن ينصحه بظلم الناس، ودفعهم إلى الحاجة، لكنه نصحه بتصغير صفحات القاموس وتقليل الألفاظ وإنساء اللغة، فيتقلص الدماغ وينكمش العقل وتنحسر الشمس ويفيض ظل سيف السلطان.