كان من اللافت أن عددا لابأس به من السوريين المكتسبين للجنسية التركية لم يهزموا ثقافة الخوف بعد كل ما حصل في بلدهم، ولم يعبروا بعد من دولة الرعية إلى ضفاف دولة المواطنة.. ولم يدركوا بعد أن تحولا جوهريا قد طرأ على كيانهم القانوني عندما اكتسبوا جنسية أخرى، وأن منظومة من الحقوق والواجبات الدستورية والقانونية الجديدة ألقيت على كواهلهم ويتعين عليهم التعاطي معها والاستجابة لموجباتها حتى يكونوا جزءا من المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه وحملوا جنسيته ويتمتعوا بحقوقهم الدستورية، ويمارسوا ولو بالحدود الدنيا واجباتهم الملقاة على عاتقهم التي من خلالها يستطيعون تدريجيا المساهمة بالحياة الحزبية والسياسية بما ينعكس إيجابا على مجمل أوضاعهم وأعمالهم والخدمات العامة التي تقدم لهم كمواطنين، وأوضاع أقرانهم من غير المجنسين.
لقد نأى - وفق ما توارد لي من معلومات – كثير من السوريين – الأتراك بأنفسهم عن العملية الانتخابية الأخيرة تحت ذرائع ومبررات واهية لكن أسوأها على الإطلاق كان خوف بعضهم من أن تحسب عليه تلك المشاركة لو علم بها النظام السوري(!).. لقد بلغ الذعر والرعب عند هؤلاء مبلغا يمسخ فيها كينونتهم البشرية وكأنهم بهذا الفعل يرتكبون جريمة خيانة عظمى بحق وطنهم الأم (!).
فهذا البعض اكتفى من الجنسية بجواز سفر يتيح له السفر والعودة لا أكثر وهوية تمكنه من التنقل الداخلي دون وجل من الترحيل وتستبدل له لوحة سيارته تجنبه التمييز المحتمل، لكنه ظل يعيش في عزلة عما حوله ضمن حيز يمكن تسميته بالغيتو السوري المشابه له في الانتماء المناطقي، مقطوع الصلة عن محيطه وعن قضاياه الأساسية على الأقل تلك التي أوجدته في سنة ما، ولحظة ما خارج حدود وطنه ينتظر الإله أن يوجد حلا سماويا لقضيته.
والبعض الآخر تراخى في التوجه لصندوق الانتخاب على الرغم من سلاسة الأمر وبساطة الإجراءات، فكافة المعلومات اللازمة لمعرفة المكان ورقم الصندوق الذي يتعين عليك التصويت فيه تصلك إلى جهاز هاتفك عبر نافذة الحكومة الإلكترونية (إي دولت) ولا يبقى سوى أن تغادر سقمك ولامبالاتك وتتوجه للمكان لأداء واجبك خلال عشر دقائق لا أكثر!
لم يعد مقبولا أبدا أن يهمش السوري – التركي نفسه بالطريقة التي كان يتعاطاها مع الحياة في بلده الأم بفعل ظروف الاستبداد والإقصاء والبطش الأمني والتفكير أو العمل خارج نطاق ما تحدده له السلطة
هذه الدولة لم تمنحك جنسيتها إلا لأنها افترضت أنك ستكون قيمة مضافة لها وتنتظر منك أن تكون مواطنا صالحا وإيجابيا لأنها آمنت أنها ستستثمر فيك وبعلمك وخبراتك أو استثماراتك أو وزنك الاجتماعي لتكون إضافة لها ولمجتمعها ومستقبلها، وليس لتجلس في ركن قصي على هوامش الحياة فيها.
لم يعد مقبولا أبدا أن يهمش السوري – التركي نفسه بالطريقة التي كان يتعاطاها مع الحياة في بلده الأم بفعل ظروف الاستبداد والإقصاء والبطش الأمني والتفكير أو العمل خارج نطاق ما تحدده له السلطة وما توجب عليه القيام به أو الامتناع عنه، فأنت اليوم لم تعد جزءا من دولة الرعية التي غادرتها والتي لا يكتسب فيها الإنسان حقوقا بقوة النص الدستوري المعطل ولا يشعر بالحماية القانونية المفترضة، وإنما أنت في دولة المواطنة التي تكتسب فيها بقوة الدستور حقوقا لم تعهدها من قبل فحري بك الانتقال عبر مركب القانون من دولة الرعية إلى دولة المواطنة التي تسوّيك كإنسان وتتعامل معك بتلك الصفة.
سيعاني الجيل الأول منّا بطبيعة الحال من ترسيخ نفسه كجزء من هذا المجتمع الذي اكتسب الانتماء الدستوري والقانوني إليه خصوصا في ظل ظروف النبذ والخطاب الشعبوي والسلوك العنصري الفاقع لدى قطاع لايستهان به من مجتمعك الجديد، لكن الانكفاء ليس حلا، ولا بد من البدء فعلا بالخطوات التي تسهل اندماجك ومشاركتك أكثر، لأن ذلك وحده ما يؤسس للجيل الثاني ويسهل عليه التكيف والعيش الآمن والقبول أكثر، وإذا كنت تفترض أن عيشك هنا مؤقت وعابر فهو ليس كذلك بالنسبة لأولادك وأحفادك الذين عاشوا ردحا من حياتهم هنا وولد بعضهم هنا أيضا لذلك فالأمر يستحق.
وما لم يعمل المجنسون اليوم على تنظيم صفوفهم وتشكيل رابطة بينهم تخلق لهم نطاقا للتشاور والتداول في السياسات والخدمات العامة التي قد تؤثر على شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية واتخاذ موقف بشأنها والتخاطب بشأنه مع القوى والمؤسسات المدنية والأحزاب السياسية والكتل البرلمانية، فلن يكون لهم أي وزن أو قيمة في مجريات الحياة العامة إطلاقا وهذا ما نعوله على الجيل الشاب الذي امتلك ناصية اللغة وتخرج من جامعات هذا البلد وخالط أطيافا شتى من المجتمع الجديد وخبر أكثر نمط الحياة والتفكير والثقافة فيه.
أنت تمتلك صوتك الذي سيحتاجه الآخر منك فلا تستهن بما تملك وإن عرفنا كيف نوظف ونستثمر هذا الصوت فسيتوسله ويتسوله الآخرون منك فلا تستهن به
لا شيء أبدا يدعو للخوف أو التردد فأنت اليوم مواطن في هذا البلد وتمتلك كامل الحقوق التي يتمتع بها ويكتسبها أي مواطن آخر فيها، وليس عليك سوى أن تمارس تلك الحقوق تحت سقف القانون وبحمايته وأن تطالب بها وتدافع عنها بالوسائل القانونية المشروعة عندما تشعر أنها تنتهك.. وما لم تجعل لنفسك قيمة ووزنا فلا تنتظر من الآخر أن يفعل لك ذلك.
أنت تمتلك صوتك الذي سيحتاجه الآخر منك فلا تستهن بما تملك وإن عرفنا كيف نوظف ونستثمر هذا الصوت فسيتوسله ويتسوله الآخرون منك فلا تستهن به، وليكن اليوم مرانا على التعاطي مع الشأن العام تمهيدا للانخراط فيه.. وعلينا جميعا أن ندرك أن الانخراط في الشأن العام ليس ترفا نسعى إليه، بل ضرورة للاندماج أكثر وخلق أفق مختلف لفرص عيش سوي ومتساو مع الآخر، بل ويعيد تأهيلنا ويسهل علينا عملية العبور الناجز نحو دولة المواطنة.