أخذ الطفل أزهي البالغ من العمر أربع سنوات يلهو بالقرب من مركز مؤقت للمهاجرين أقيم على الحدود البولندية-البيلاروسية، ثم جذب أمه من يدها لتساعده، وبعدها وضع ساقيه تحت أكوام من البطانيات التي قدمت كتبرعات.
ثمة برج مشيد من قضبان معدنية والهدف منه تدعيم السطح العملاق المصنوع من مادة الزنك. يتبسم أزهي الذي لفت جبائر حول ساقيه، وتتسع عيناه وهو يشاهد المنظر. من الصعب أن نصف كيف لاح شبح الموت أمام ناظري أسرة ذلك الصبي قبل أيام، إذ تخبرنا أمه شوكسان حسين البالغة من العمر 28 عاماً، فتقول: "نريد أن نصل إلى ألمانيا حيث يمكن لأزهي أن يخضع لعملية جراحية، فقد أخبرنا الأطباء بأنه بحاجة لها هناك قبل أن يصل إلى عمر الخامسة".
أسرة أزهي من بين مئات المهاجرين الذين حاولوا العبور إلى بولندا من بيلاروسيا خلال الأسابيع القليلة الماضية على أمل تقديم طلب لجوء في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، ولكن بعد مرور أيام على العيش في غابة بيلاروسية في ظل درجات حرارة تصل حد التجمد حيث تعرض المهاجرون للضرب وللحرمان من الطعام على يد القوات البيلاروسية، لم تعد الأسرة الكرّة في محاولاتها لقطع الحدود، فقد توفي عدد من الأشخاص في تلك الرحلة، في حين تقطعت السبل بالآلاف منهم في ظل ظروف لا إنسانية، إلا أن أسرة أزهي قد نجت من دون أن يمسها أي سوء.
وبعد مرور أيام على ذلك، عادت الأسرة إلى موطنها الأصلي في أربيل، التي تعدّ مركزاً تجارياً لكردستان العراق، وذلك على متن رحلة جوية أعادت المهاجرين العراقيين إلى بلادهم، بعدما حاولوا أن يرسموا طريقاً جديداً لهم في أوروبا، إذ يقول والد أزهي، علي رسول البالغ من العمر 26 عاماً، بعد وصوله إلى بلده أربيل: "لا مستقبل لابني في العراق، ولهذا أتت محاولة الوصول إلى أوروبا من أجل أزهي، إذ يجب عليّ أن أؤمّن مستقبل صغيري".
تحطيم دائرة الشقاء
أصبح الحديث عن الهجرة أمراً شائعاً في عموم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ بالرغم من أن أصوات الرصاص والبنادق قد خفتت في معظم مناطق النزاع في تلك المنطقة، فإن حالة التعاسة فيها لم تستكن. فالعنف الذي أغرق دول تلك المنطقة، وعلى رأسها سوريا وليبيا واليمن والعراق، قد غادر ليحل محله دمار اقتصادي توسع ليشمل دولاً أخرى، إذ يرزح اقتصاد معظم الدول في تلك المنطقة تحت وطأة آثار جائحة كوفيد-19 وموجات اللاجئين وانعدام الاستقرار على المستوى السياسي.
وتنحو باللائمة الكبرى في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على فساد الحكومات، بالإضافة إلى الاضطراب على المستوى الجيوسياسي، إذ كشفت دراسة استقصائية أجريت مؤخراً بأن واحداً من بين كل ثلاثة أشخاص من الشباب العربي البالغ تعداده 200 مليون يفكر بالهجرة، وقد كان الرقم في عام 2020 أعلى من هذا بكثير، إذ شمل نصف الشباب العربي حينئذ.
وتصبح هذه المشكلة أكثر حدة في المناطق التي شهدت نزاعات، حيث انقضت تلك النزاعات وأصبحت تلك المناطق تواجه حالة ركود اقتصادي، ناهيك عن الفساد الذي استشرى وانتشر. ففي سوريا، يرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأن نسب الفقر بلغت اليوم نحو 90% بزيادة تعادل 50-60% عما كان الوضع عليه في عام 2019، عندما كان العنف منتشراً في البلاد بشكل أوسع. كما زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي من 7.9 ملايين نسمة في عام 2019 إلى ما يزيد على 12 مليون نسمة في عام 2020.
وحول ذلك تحدثنا مسؤولة برنامج الأمم المتحدة في سوريا، رملاء خالدي فتقول: "إننا نتحدث عن أشخاص لديهم دخل وعن طبقة عاملة فقيرة، حيث ثمّة شخص واحد أو شخصان لديهم عمل ضمن الأسرة الواحدة، لكنهم لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء، وهذا يعني أنهم أصبحوا يلغون وجباتهم، وبأنهم يعيشون في دين، وبأنهم يستهلكون وجبات أرخص وأقل قيمة غذائية".
ذكر نحو 98% من الأشخاص بأنهم ينفقون جلّ ما يكسبونه على تأمين الغذاء، حيث تقول رملاء: "أصبحت الفواكه والخضر الطازجة رفاهية ولهذا أصبحوا يتخلون عن وجبات معينة ضمن الحمية التي يتبعونها".
ولقد تفاقمت حالة الفقر الهائلة والشديدة في سوريا بسبب الانهيار المالي الذي تعاني منه الجارة لبنان، والذي بدأ في عام 2019، إذ كان الاقتصاد اللبناني يعدّ في السابق بمنزلة شريان الحياة لدمشق التي تعاني من عزلة على المستوى المالي والدبلوماسي، فقد فرضت عقوبات قاسية على مناطق سيطرة بشار الأسد التي تشمل معظم مناطق البلاد، وازدادت تلك العقوبات وتضاعفت في ظل قانون قيصر الذي أقر في عام 2020، والذي يهدف لإعادة بشار الأسد إلى طاولة التفاوض التي تترأسها الأمم المتحدة، لكنه دمر الاقتصاد المتداعي أصلاً عوضاً عن ذلك، كما استمر بشار الأسد بحكم البلاد من دون أن يكترث لما يجري فيها من خراب.
فلقد اتهم النظام السوري غير مرة بارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية خلال السنوات العشر الماضية في ظل الحرب التي عصفت بالبلاد، ويشمل ذلك الهجمات التي شنها النظام ضد المدنيين باستخدام الأسلحة الكيماوية، فضلاً عن القصف العشوائي للمناطق المأهولة التي تخضع لسيطرة الثوار واستخدامه للذخائر التقليدية في عمليات القصف، إلى جانب مئات الآلاف من السجناء السياسيين الذين قضوا في سجون الأسد بعد تعرضهم لأشد العذاب ولمعاملة مزرية هناك.
أما في المناطق التي خرجت عن حكم الأسد، أي تلك التي يسيطر عليها الكرد في شمال شرقي البلاد، وكذلك في شمال غربي البلاد حيث تسيطر جماعة إسلامية أصولية من الثوار، فقد وصل الاقتصاد إلى حالة يرثى لها.
وعن ذلك يخبرنا هيد هيد وهو مستشار لدى دار تشيذم المتخصص بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيقول: "ذلك هو الشيء الوحيد الذي ما يزال الناس يتقاسمونه في سوريا، فالجميع يعاني على المستوى الاقتصادي بصرف النظر عمن يسيطر على المناطق".
وهذا الوضع دفع الكثير من القوى العاملة الماهرة لمغادرة البلاد، ما عمق من الأزمة الاقتصادية بحسب رأي رملاء خالدي، التي تعقب على ذلك بقولها: "لقد خسرت المشافي والمدارس والمصانع العمال المهرة بسبب محاولة كثيرين منهم الخروج من البلاد حتى لو كلفهم الأمر المخاطرة بأرواحهم" ولهذا أخذت رملاء تناشد الدول المانحة لتستثمر في "تدخلات التكيف" التي تهدف إلى تحسين مصادر الرزق في المناطق المدينية والريفية.
وتعقب رملاء على ذلك بقولها: "إنها أزمة لم يسبق لها مثيل من حيث تعقيداتها، فقد زاد حجم التمويل عاماً إثر عام، إلا أننا نشهد زيادة في الاحتياجات الإنسانية أيضاً، ولهذا أرى أننا بحاجة لتغيير هذا النمط عبر الحد من الاعتماد على المساعدات الإنسانية والتركيز على تمويل عملية إنعاش الاقتصاد بصورة أولية مع التركيز على جهود التكيف والتأقلم".
أما في دولة العراق الجارة التي طحنتها معارك عديدة كان من بينها تلك الحرب التي قضت على تنظيم الدولة، يسجل الاقتصاد أداء أفضل، إلا أن إحساساً بفقدان الأمل يخيم على المشهد، بعدما تم سحق حركة احتجاجية مناهضة للفساد قادها شباب العراق في تشرين الأول من عام 2019 بشكل دموي، كما تم تطويقها من قبل اللاعبين السياسيين الكبار، في الوقت الذي حقق فيه سياسيون مستقلون مكاسب غير مسبوقة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في هذا العام، تواصل المحسوبيات والفساد سيطرتها على المواقع السياسية والتجارية للبلاد بحسب رأي محللين، إذ تقول حفصة حلاوة وهي باحثة زائرة لدى معهد الشرق الأوسط في إشارة إلى منطقة كردستان العراق التي تتمتع بحكم شبه ذاتي في شمالي البلاد: "لا يمكننا الحديث عن كردستان أو عن عراق فيدرالي كشيء فعال لأنه ليس كذلك، لأن الحقيقة تكشف أن الخدمات العامة تأتي بصورة متقطعة، أما الفرص فهي صفرية، ناهيك عن الفساد والمحسوبيات والعنف الذي يستمر بصورة ممنهجة... وهنا يحدثنا شخص في 21 أو 22 من العمر عن مأساته فيقول: لا يمكنني أن أبقى هنا كما فعل والداي، بل علي أن أحطم هذه الدائرة، إذ يجب عليّ أن أغير الأمور من أجل الأسرة التي سأقيمها مستقبلاً، ومن أجل مستقبل أولادي"
وترى حفصة التي تحمل الجنسية البريطانية والعراقية والمصرية بأن الدافع الأساسي للهجرة هو اختفاء الآليات القانونية التي يتم بموجبها إدخال العمال المهرة إلى أوروبا، حيث تقول: "الشيء المذهل في نظري (عندما أتحدث عن مخطط الهجرة في المملكة المتحدة الذي أطلقته وزيرة الداخلية) بيتي باتيل هو أن والدي الجرّاح المتخصص الذي قدم خدماته للقطاع الصحي البريطاني على مدار 40 عاماً لم يعد يحق له الحصول على سمة دخول من أجل العمل في حال قدومه إلى هنا.. إن الآليات التي نتبعها في العالم المتحضر والتي سمحت للأشخاص بتلقي علومهم هنا ثم استبقائهم ليفيدوا المجتمع، لم تعد متاحة".
المحظوظ من غادر قبل أن يغلق باب الفرص دونه
أما المستشار هيد الذي تعود أصوله إلى سوريا فيعتبر نفسه من المحظوظين، إذ قبل خمس سنوات حصل على حق اللجوء في المملكة المتحدة، ولهذا يعلق على صور السوريين الذين يموتون وهم يحاولون عبور بحر المانش ويخبرنا بأنها تركت لديه مشاعر مختلطة من الحزن والراحة التي يحس بها على المستوى الشخصي، ثم يقول بأن هجرة السوريين ستستمر بلا هوادة، إذ يقول: "عندما بدأ الوضع في سوريا يزداد سوءاً بالرغم من تراجع العنف، عندئذ صُدم الناس بالحقيقة وهي أن الظروف لن تتحسن، ولهذا أصبح حتى من كان يرفض مغادرة البلاد في أثناء الحرب يشعر بأنه لا يوجد أي حل أمامه سوى الهرب، وذلك لأنه لم يعد يوجد نور في نهاية النفق، هذا كل ما في الأمر".
وفي الوقت ذاته يرى هيد بأنه استطاع الوصول إلى المملكة المتحدة في لحظة حاسمة، وحول ذلك يعلق بقوله: "تحس بأنك محظوظ لأنك وصلت إلى هنا قبل أن يغلق باب الفرص دونك للأبد"
وبالعودة إلى أربيل، تخبرنا شوكسان حسين وزوجها علي رسول بأن الممر القانوني الذي يصل إلى أوروبا مغلق على الدوام، فقد تقدم كل من الزوج الذي يعمل مديراً لشركة عقارية والزوجة التي تعمل مهندسة من أجل الحصول على سمة دخول لدى السفارة الفرنسية في مطلع هذا العام، من دون أن يصلهما أي رد من قبلها، ويعلق الزوج على ذلك بقوله: "أربيل أفضل بالنسبة لي ولزوجتي من أي مكان آخر في العالم، إذ لدينا سيارة جيدة ولباس جيد، ولكننا نفعل كل ذلك من أجل أزهي... فلقد سبق أن أجرينا له ثلاث عمليات هنا دون أن نحقق أي نتيجة تذكر، والمشكلة هي أن الأطباء يأخذون النقود منك دون أن يغيروا الوضع حتى بنسبة 5%... لذا إن طلبت مني أن أغامر بحياتي مئة مرة قبل أن أصل إلى أوروبا في سبيل تحسين حياة ابني وكذلك زوجتي فسأفعل، أي أنني سأعيد الكرة مئة مرة في هذه الرحلة".
المصدر: سي إن إن