لم يتخيل ريتشارد تريفيثيك المنشغل بإنجاز أول قاطرة بخارية مطلع القرن التاسع عشر ومن بعده جورج ستيفنسون مصمم أول قاطرة بخارية لنقل الركاب بين المدن بأن القطار سيصبح موضوعاً وأداة لا تقل طرقاً ولا استخداماً عن الحصان والريح والسفينة في الأدب العالمي كالشاعر الألماني ألبرتفون شامسون حين يقول في قصيدة (الحصان البخاري):
"يا حصاني البخاري..
سرقت سر الزمن
أرغمته على أن يتراجع بين الأمس والأمس"
أو أن يدخل بكثرة إلى العبارة اليومية والشعرية والغنائية في مصر التي عرفت القطار مبكراً، كقصيدة عبد الرحمن الأبنودي (سواق قطر في يوم العيد):
"مجنون أنا
مش صح ي ناظر؟
مجنون
كما قطر الحديد مجنون"
ومن ثم إلى ألسنة بقية العرب، وقد عرفوه من خط حديد الحجاز الذي نفّذته الدولة العثمانية في نهاياتها، مطلع القرن العشرين، فأصبح يستخدم في المباشرة والرمز واتسعت دلالته وازداد استخدامه، ومنه قول محمود درويش في قصيدة (مر القطار):
"مرّ القطار سريعاً
كنت أنتظرُ...
هنا وُلدتُ ولم أُولَدْ
سيُكْمِلُ ميلادي الحَروُنَ إذاً
هذا القطارُ
ويمشي حولِيَ الشَجَرُ"
أما أنا فحظيت بطفولة ملازمة لسكة حديد تمرّ حذاء قريتنا في ريف درعا الشرقي، وهي جزء من خط حديد الحجاز، حيث صارت مَعلماً جغرافياً أكثر واقعية من خطوط الطول والعرض، فقسمتْ الأراضي ما بين شرقي وغربي الخط، وأصبحت منتهى حذر الطفولة ومنطلق مجازفات المراهقة، واستمر القطار البخاري بالمسير من محطة القدم في دمشق إلى محطة درعا، بطيئاً وثقيلاً وصاخباً على سكة حديدية راسخة كأنها خط الزمن والعمر والطريق الصعب وسيف الوقت الذي قطّع أيام الصبا، فكنا نرشقه بالحجارة بفطرة صبيان الريف تجاه المعدن والضجيج والدخان انتصاراً للطبيعة والهدوء والأكسجين.
قبل سايكس بيكو كان ميل أهالي حوران للجنوب والغرب أكثر منه إلى دمشق، فهناك البحر والبحيرة والبيارات والحقول الخصبة، وامتد جزء من خط الحجاز ليصل بين درعا ومدينة حيفا في فلسطين ماراً بمزيريب وتل شهاب وغور الأردن، لكن هذا الحال لم يدم طويلاً بعد نهاية الحكم العثماني، وحيفا التي خضعت للانتداب الإنكليزي حوصرت في مثل هذا اليوم (21 من نيسان من عام 1948) بالمدفعية الصهيونية حتى سقطت المدينة وهُجّرت الغالبية العربية منها، ويستطيع المتابع تعقب أنباء تلك المعركة حتى تتراءى أمام عينيه وكأنها ما زالت جارية إلى الآن.
وكحال أي احتلال؛ عُمل على تغيير هوية المكان بإزالة معالمه العمرانية وإنشاء غيرها، في عملية اغتصاب حقيقي للتاريخ والثقافة، ونحن لا نتكلم هنا عن تحويل معبد من دين لدين أو طريقة صلاة لأخرى، بل نتكلم عن محو كامل للعمران، وهذه الفكرة ذاتها طرحها المسلسل المصري (أهو ده اللي صار)، حيث يدافع أحد الأحفاد عن قصر جده في الإسكندرية ضد رغبة أصحاب الطَّول والشأن بهدمه لإقامة بناء حديث في مكانه، ويستعرض أيضاً اجتهاد الأحفاد الأغنياء على تغيير صورة عوائلهم غير الحسنة من خلال محاولات تملّك القصر نفسه ونسْبه لجدودهم في تحريف سافر للحقيقة وطرح بديل مزوّر عنها، وهو فعل احتلالي بمعنى ما، وكانت حبكة المسلسل متماسكة لدرجة أن المشاهد يعتقد أن القصر حقيقي وقصص أبطاله كذلك، وهل فيما يطرحه أي غرابة عن واقعنا الهش المنتهك؟! لكنه كان مجرد ديكور مصمم خصيصاً لهذا العمل، إلا أنه شكّل مرآة حقيقية ودقيقة إلى حد بعيد عن الذي حصل في حيفا وما مارسه الاحتلال هناك، وإشارات كثيرة تدل على تشابه أكبر من كونه مجرد تصادف، فقصر نوار باشا في المسلسل يقابل قصر سليم الخوري في حيفا الذي تمترس به المدافعون عن حيفا مما أدى لاشتعال النيران في أجزاء منه، وكذلك عُمل على حرق قسم من القصر في المسلسل، ومن ناحية أخرى يطرح المسلسل شخصيات المغني والملحن والشاعر والفقيه، وما أكثرهم في فلسطين وحيفا، كغسان كنفاني صاحب (عائد إلى حيفا)، وفرج سليمان الذي يقول في إحدى أغنياته: "مين سرق عمر المكان؟"، والشاعر أحمد الحسين ابن حيفا الذي يقول في قصيدة (قراءات في ساحة الاعدام):
"أنا ليس لي علم، ولا سفَرٌ،
ولا شجرٌ أُعَلّق زينَة الأَحْزانِ فيه،
ولا أَنا شيءٌ سوى ما يحسب السجان،
فَاعترفي بِأنّك متِّ، وانصرفي!
سأكتب ما تيَسر من عَناوين القبور بدفتر الأَوقات،
إن القَبر أَشجى من معَلّقةٍ، وأَبقى من مدينة
لن يعرفوا حيفا إذا رجعوا،
فكيف يدلهم شعري إذا لم ينظروا في معجم النكَبات،
هذي الأَرض لا تَأْتي إلى أَحدٍ،
وَتقترب المَنافي في مساحات الفراق كَأنّها وطنٌ،
وفي الأَيام تختبئ المواعيدُ التي تتحيّن الأَقدام وَالطرقُ الهجينة".
والتشابه الأكبر كان في مؤرخ يطرحه المسلسل على أنه إنكليزي رفض الرحيل عن الإسكندرية بعد الاستقلال، وبتزوج من إسكندرانية ينجب منها ليصبح أبناؤه جزءاً من المجتمع، ولا أرى مصادفة في أن يكون اسمه جوني منصور على اسم المؤرخ الفلسطيني جوني منصور ابن حيفا الحاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة سانت بطرسبرغ، ورفض إلا أن يعود لفلسطين وحيفا، فشكلت كتبه مرجعاً مهماً وثّق فيه للتاريخ الفلسطيني وحيفا على وجه الخصوص بعوائلها وأحداثها وعمرانها ومنها خط حديد درعا-حيفا، وما جوني منصور المسلسل إلا جزء من جوني منصور حيفا.
(كان قصر الخوري مقرّ إدارة سكة الحديد في حيفا حتى 1948، وهُدم في الثمانينيات وبُني مكانه بناء مكاتب ومجمع تجاري "ميجدال هنفيئيم"). لكن المسلسل كان أكثر تفاؤلاً فحقق أحلام الشخصيات في الحفاظ على القصر في الإسكندرية وتحويله إلى معلم تاريخي ومركز للفنون، هذه الأحلام التي لم نرها تتحقق على أرض الواقع في الدولة العربية الحديثة، لكن رسالة المسلسل كما أقرؤها واضحة بأن نظام الحكم العربي جاء كشكل احتلالي لا يختلف بالأساليب والمؤدى عن الاحتلال الصريح، والجنوب الذي كان يشير إليه الطرف الآخر من سكة حديد درعا-حيفا صار أبعد مما مضى، وكأن خط الحجاز بقي علامة عصية على النسيان المبكر لتذكرنا دائماً أن بوصلة القضية دائماً نحو الجنوب.