نهاية سايكس بيكو ستكون في إيران

إن تطورات الأحداث في المنطقة وتسارع التصعيد المفاجئ بين إدارة الرئيس ترامب والإدارة الإيرانية، يشي بشيء من التوجس حول كيفية تطور وتصاعد الأمور في الشرق الأوسط، ويوحي بنظرية الدومينو السريعة التي باتت تتخاطف بلدان الشرق الأوسط الخارجة من فساد القرون السابقة والرافضة للاندماج مع المستقبل، فبعد تصاعد الموجة الأولى من الربيع العربي التي أسقطت أنظمة البلدان الثورية العربية في كل من ليبيا واليمن وسوريا ومصر وتونس وقبلها العراق في 2003 ولبنان في 2005، جاءت الموجة الجديدة لتشمل بلداناً مثل الجزائر والسودان وموريتانيا ولتدق أبواب جيران العرب في إيران وجنوب السودان.

ولكن لن تكون هذه هي النهاية وإنما بداية لموجات ستتلاحق، يعيد فيها التاريخ ترتيب مصائر شعوب أبت حكوماتها أن تدخلها في المستقبل الحقيقي وليس المستقبل الذي تراه هي، مستقبل يشمل حق العشوب بتقرير مصيرها وحرية التعبير عن النفس والديمقراطية حيث تحكم الأغلبية السياسية وتضمن بشكل حاسم حقوق وكرامات الأقليات الثقافية والعرقية والدينية.. حيث لا مكان للعنف والقسر والقهر ..

عبر كل هذا المخاض غير المنتهي، يبرز الاحتدام الإيراني الأميركي، على ما تبقى من الشرق الأوسط، حيث أرسلت إدارة ترامب مجموعة طلبات للإيرانيين ترغب عبرها في تقليص وتقليم نفوذهم وسلوكهم غير المنضبط في هذه البلدان، فبعد تخلي إيران عن فكرة تصدير الثورة وتبنيها فكرة تصدير المليشيات والأحزاب التابعة لها، في البلدان المفككة والتي يسهل اقتحام توازنها عبر تسليح وشحن عناصر معينة في تلك البلدان لتصبح دولاً داخل الدول.

بعد تخلي إيران عن فكرة تصدير الثورة وتبنيها فكرة تصدير المليشيات والأحزاب التابعة لها، في البلدان المفككة والتي يسهل اقتحام توازنها عبر تسليح وشحن عناصر معينة في تلك البلدان لتصبح دولاً داخل الدول

ولكن هل كانت الولايات المتحدة بغافلة عن التمدد الإيراني في المنطقة وهي التي أفسحت المجال لإيران في التوغل في كل من العراق وأفغانستان بعد احتلال الأخيرتين من قبل إدارة جورج بوش الابن؟. بل على العكس كان كل شيء مدروساً ومبرمجاً من قبلها كي تستنزف المنطقة عبر الوحش الجديد الذي ظهر كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي، في حجم العنف والتوسع والأذى لشعوب المنطقة، كما ترى جامعة الدول العربية في بيان قمتها الأخير، فإيران وعلى ناظر الدول الأوروبية باتت تملك قدرة صاروخية كبيرة بديلاً عن الطموح النووي الذي برعت في بازاره مع الدول الخمسة زائد واحد حتى وصلت في عهد باراك أوباما لصفقة رأتها جيدة، لا بل ممتازة لدرجة جعلت وزير خارجتها جواد ظريف يضحك لأسابيع أمام الكاميرات العالمية.

ومع انعدام الغطاء الجوي العسكري لدى إيران بسبب سنوات العقوبات الطويلة ضدها، وقوة القدرة الجوية العسكرية في بلدان الجوار العربي في كل دول الخليج دون استثناء، بحيث بات التفوق الجوي العربي واضحاً مقارنة بالواقع العسكري الجوي الإيراني، حيث تقول مجلة الاستراتيجيا الفرنسية بأن دولة الإمارات وحدها قادرة بسلاح طيرانها على السيطرة على الأجواء الإيرانية خلال ثلاث ساعات فقط، إيران وعت جيداً لتلك الهوة، فعاجلت لتطوير سلاح البحرية لديها بحيث بات عدة وعديداً قادراً وعبر عملياته الرسمية وغير الرسمية على السيطرة على الخليج العربي وحتى مضيق هرمز وخليج عمان وبحر العرب، سفن حربية ركب لها الحرس الثوري قدرات صاروخية، وزوارق مسيرة عن بعد أشبه بالانتحارية وسفن برجية قادرة على ضرب طوربيدات.

قول مجلة الاستراتيجيا الفرنسية بأن دولة الإمارات وحدها قادرة بسلاح طيرانها على السيطرة على الأجواء الإيرانية خلال ثلاث ساعات فقط، إيران وعت جيداً لتلك الهوة، فعاجلت لتطوير سلاح البحرية لديها

كل هذه الحشود العسكرية من الطرفين، مضاف إليها وجود الأسطول الخامس الأميركي بمقره في البحرين و قاعدتي السيلية والعديد في قطر والقواعد في الكويت وعمان والعراق والإمارات وجيبوتي والأردن وسوريا وتركيا، بمقابل المليشيات الإيرانية و قواعدها المنتشرة في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان أفغانستان والصومال.. تجعل من فكرة المواجهة الأميركية الإيرانية عسكرياً عبارة عن فتح لأبواب الجحيم في الأوسط المتهاوي والمنهك أصلاً من نصف قرن من الحروب والاقتتال الأهلي.

فما هي التكتيكات التي سيأخذها النزاع اعتماداً على هذه الأرضية؟ كلا الطرفين يعلم بأن أية مواجهة عسكرية بينهما ستفضي إلى سقوط النظام الإيراني حكماً في نهاية المطاف، ولكن كلا الطرفين أيضاً يعلم بأن ثمن إسقاط النظام سيكون سقوط عدد كبير من دول الشرق الأوسط في هاوية هذه الحرب، ومن سينجو منها سيكون عليه دفع كلفة إعادة إعمار الخراب الذي ستصدره إيران لها نتيجة القبول بتلك الحرب، مثل دول الخليج، حيث أن سياسة الدفاع الإيرانية اعتمدت منذ سقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003 على فكرة خوض حروب الدفاع عن النظام على أراضي الغير وليس على التراب الإيراني، وهذا ما حصل في لبنان والعراق وسوريا والبحرين واليمن وصولاً إلى ليبيا و السودان وأفغانستان، معارك كسب رقع الشطرنج مع المعسكر المضاد كسبت في أشواط فيها إيران وخسرت في أشواط، على رغم من أن تلك السياسة تبدو ناجعة إلا أنها انقلبت لتصبح مصيدة لها.

فالعقوبات الاقتصادية المتشددة قللت القدرة المالية الإيرانية على الصرف على تلك الميليشيات التابعة لها، بحيث أصبحت تلك الميليشيات عبئاً اقتصادياً ونفسياً على النظام في طهران في مواجهة شعبها الذي يرزح تحت صعوبات اقتصادية غير عادية

فالعقوبات الاقتصادية المتشددة قللت القدرة المالية الإيرانية على الصرف على تلك الميليشيات التابعة لها، بحيث أصبحت تلك الميليشيات عبئاً اقتصادياً ونفسياً على النظام في طهران في مواجهة شعبها الذي يرزح تحت صعوبات اقتصادية غير عادية مست لقمة عيشه، و لكن في حال حدوث الصدام العسكري فإن واشنطن أوصلت تحذيراتها لجميع الدول الخاضعة للنفوذ الإيراني بعدم التدخل نهائياً لا رسمياً ولا ميلشياوياً ضد المصالح الأميركية أو مصالح حلفائها، والكل يعلم بأنه في حالة حدوث صدام فإن أول من سيطلق النار دفاعاً عن طهران هي نيران الميليشيات في الدول الأربعة، والتي ستكون نتيجتها فتح باب الجحيم على تلك الدول التي ستتعرض من كل بد إلى دمار هائل سيؤدي إلى تفكيكها وعودتها إلى حالة ما قبل اتفاقية سايكس بيكو ،1917، وعلى رأسها العراق الذي سيقسم مباشرة إلى ثلاثة دول وسينتهي العراق الذي عرفناه طوال القرن العشرين، وكذلك اليمن ،الذي بات أمر تقسيمه رهناً بالسلوك الإيراني فقط، أما سوريا ولبنان فإن دخلتا المعركة فستكون لهما حسابات أخرى تتعلق بجوارهما لإسرائيل التي ستفرض شروطها على مصير الدولتين في نهاية الحرب.

هكذا سيكون مصير المنطقة في حال حصول حرب مع إيران، فمع كل دمار ستتعرض له المصالح الأميركية ستكون التصريف السياسي لتلك الخسائر هو في إعادة تشكيل تلك الدول المساندة للحلف الإيراني، في تجربة مكررة لما حصل عقب الحرب العالمية الأولى، معاهدة فرساي، والحرب العالمية الثانية في اتفاقية يالطا وتقاسم النفوذ بين المنتصرين، هكذا يتحدث التاريخ وتتحدث السياسة الأميركية عن توزيع وتقاسم الغنائم عقب الحروب الكبرى التي لا نتمنى أن تحصل أبداً.