في خضم الأحداث التي نشاهدها ونقرأ عنها اليوم تستعيد ذاكرتنا مرحلة إشكالية من تاريخ المنطقة العربية وأنظمة الحكم فيها، وتجربتها في الوصول إلى السلطة، وممارستها لنمط من أسوأ أشكال الحكم في التاريخ المعاصر، حيث شهد النصف الثاني من القرن العشرين حركات انقلابية تصدَّرت ساحة الحكم في عدد من البلدان العربية، استندت هذه الحركات إلى مرجعية عسكرية، وإلى مجموعة من المرتبطين بمصالح مع هذه الفئة، مستغلةً حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلدان التي لم يمضِ على نيل استقلالها من سلطة الوصاية الأوروبية وقت طويل.
كان المشهد السياسي آنذاك بعيداً كلَّ البعد عن الممارسة الحقيقية للفعل السياسي، حيث ترافقت هذه الحركات الانقلابية مع حملات اعتقال طالت المعارضين، فمارست سياسة تكميم الأفواه، وتكسير الأقلام، ورفضت الآخر، وامتنعت عن الحوار معه، وشوَّهت الحقيقة، حتى امَّحت الأصوات جميعها ولم يبقَ إلا صوت واحد هو صوت الحاكم وأتباعه.
يعاني الخطاب السياسي الرسمي في البلدان العربية من إشكالية حقيقية تتمثَّل بعدم انسجام أركان هذا الخطاب، وعلى الرغم من ذلك، يتمُّ طرحه على أنَّه خطاب تاريخي، ومصدر للقيم الأخلاقية، وملهم للفعل السياسي في حركته التطورية، ولتفصيل هذه الإشكالية لابدَّ من العودة للحديث عن تلك الأركان بشكل يختصر التناقض الفعلي مع ذكر التباين والتناقض في كل ركنٍ منها، ولنبدأ بـ:
- أطراف الخطاب: يمتلك الخطاب السياسي بناءً على نظرية التوصيل طرفين متقابلين (المرسل والمتلقي)؛ ويتمثَّلان هنا بـ (الحاكم والشعب).
وفي الحالة العربية يكون الخطاب من إنتاج طرف واحد وهو (الحاكم) في حين أنَّ الطرف الآخر (الشعب) يكتفي بالتلقي من دون إظهار أيِّ فاعلية نقدية أو تشاركية، ويقتصر التفاعل على مجموعة من ردود الأفعال التلقينية التي تعظِّم وتبجِّل هذا الخطاب وتظهر أهميته التاريخية وضرورته الاجتماعية، هذه العلاقة المصطنعة بين طرفي الخطاب تؤكد هيمنة السلطة واستبدادها؛ لأنَّها تقوم بجعل الآخر مجرد وعاء لما تطلق عليه خطاباً معرفياً، إذ إنَّ أساس إنتاج أيِّ نص خطابي ينبغي أن يُبنى على المعرفة، وهذه المعرفة هي ركيزة تأويل النص من قبل المتلقي ومشاركته للمرسل (الحاكم).
لجأ الحكَّام العرب في السنوات الأخيرة لتقديم خطاب رسمي يزعم أنَّه يتماشى مع حاجات الشعب، وقد بدا في كثيرٍ من الأحيان خطاباً مبتذلاً لدرجة أنَّه تحول لمادة سخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي
ففي إحدى خطابات رأس النظام السوري بشار الأسد، وفي معرض رفضه تسمية الثائرين على حكمه بالثوار، يقول: "لو كان لدينا فعلاً ثوَّار حقيقيون بالصورة التي نعرفها لكنت أنا وأنتم وكل الشعب الآن نسير معهم"، وهو الخطاب ذاته الذي وجَّهه الرئيس الليبي السابق معمر القذافي لشعبه حين ثاروا عليه، ، إنَّ محاولة استشفاف ردَّة فعل الشعب مسبقاً وتقرير ردَّة فعل معين هي محاولة للسيطرة على الشعب من خلال الأحكام المسبقة والتي تتجاهل رأي الآخر وتقزِّم وجوده، على اعتبار أنَّ الحاكم دائماً على حقٍّ، وهذا ما يخلق الخلل في أهم ركن من أركان الخطاب لانعدام التفاعل والتواصل بين الطرفين.
- لغة الخطاب: إنَّ اللغة المستخدمة في إنتاج الخطاب السياسي الراهن لغة أيديولوجية تعاني من تضخُّم في مفرداتها؛ لأنَّها من صناعة السلطة، تمجِّد الحاكم وتقدِّسه، وتعبِّر عن تماهي الحاكم مع الدولة وتلازمهما معاً.
فيغدو الدفاع عن الحاكم دفاعاً عن الوطن، والعكس صحيح. إنَّ لغة هذا الخطاب بعيدة عن العلمية، وتحتوي على تناقضات في بنيتها، وتتَّسم بالشمولية، كما أنَّها لغة حماسية تحاكي المشاعر، وغير قابلة للنقاش أو التعليق عليها، هدفها الرئيس ليس الحوار؛ بل الانصياع والخضوع والطاعة، على الرغم من اشتراك الآخر (الشعب) مع السلطة في اللغة والثقافة والتاريخ.
في الأول من شهر آب/ أغسطس، 2022، قال الأمين العام لـ "حزب الله" (حسن نصرالله) في خطابه حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني، إنَّ الله قد كلَّفه باتخاذ القرار عن اللبنانيين، فحمل الخطاب رسالة إلى اللبنانيين الرافضين لاستيلاء الحزب على السلطة والتحكُّم بلبنان والتحدث باسمه، حيث مثَّلت لغة الخطاب مفردات الاستيلاء والهيمنة، فكانت متعالية على الشعب وتطلعاته، لاسيما في اختيار الأمين العام للغة الخطاب الديني السياسي ذي الصبغة المقدَّسة التي تؤثر في الذهنية الشعبية الأوسع، كلُّ ذلك ليضمن الانصياع وعدم ظهور أيِّ معارضة لخطابه، ولضمان أكبر عدد من المناصرين الذين يخضعون للغة الخطاب التي لامست مشاعرهم الدينية لا أقل ولا أكثر.
- آلية التواصل: تختلف وسيلة التواصل لإبلاغ الخطاب السلطوي باختلاف الزمان أو المكان أو حتى المناسبة.
ولكن يمكننا القول إنَّ الوسائل في عصرنا الحاضر باتت أكثر تنوعاً وسرعة ممَّا كانت عليه سابقاً، فقد تطورت لتصبح معتمدة على تكنولوجيا الاتصالات التي تستخدم الصوت والصورة في الخطاب بدلاً من الرسائل المكتوبة سابقاً، إذ يقوم التواصل الخطابي السياسي على تثبيت الحكم واستمراريته فيساوم الخصوم والمنافسين ويهاجم المعارضين، ويمرُّ الخطاب عبر محطات إذاعية وتلفزيونية فضائية، تمثِّل فيها السلطة دور البطل المستهدف من الخارج، فتحوِّل وسيلة التواصل لفضاء للمناورة ووسيلة للإقناع بأيديولوجيتها الممارسة عبر إعلامها ووسائل التواصل التي تمتلكها أو تسيطر عليها، ثمَّ تبدأ بالدفاع عن منظومتها الفكرية عبر وسائل تواصل خارجية أو وسائل لها سمعة ومتابعون على مستوى العالم، بهدف تصدير منظومتها الفكرية، وكسب الرأي العام، من دون أن تخلو ممارستها من عنفٍ كلامي أو لفظي، كما هو الحال في برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة، الذي يستقبل ضيفين مختلفين أيديولوجياً لحدِّ التصادم الشخصي، فيترافق اللقاء بعنف لفظي حادٍ، كما حدث مثلاً في الحلقة التي كان موضوعها (الجيش السوري في نظر السوريين)، والتي بُثَّت بتاريخ الرابع عشر من شهر شباط/ فبراير، 2012م، وقد يتطور مستوى الخطاب إلى العنف الجسدي كما حدث في بعض الحلقات الأخرى.
- الظرفية: وهي جملة الظروف الزمانية والمكانية المتصلة بعملية التخاطب، وقد أشار باتريك شارودو، أستاذ علوم الخطاب في جامعة باريس، إلى هذه المسألة فبيَّن أنَّ الخطاب منتوجٌ خاصٌّ يرتبط بمتكلِّم خاصِّ، وبظروف إنتاج خاصَّة.
فالخطاب السياسي يمتاز بالحساسية، إذ يلعب فيه المتكلِّم أو المرسِل دوراً في الدعاية للسلطة، بهدف استمرار تطمين مؤيديه، وتفنيد مزاعم معارضيه، ففي ثورات الربيع العربي وبمراجعة الخطاب الأول لكلِّ حاكم تعرَّض لموجة احتجاجات كانت الظرفية الزمانية إجبارية في تقديم الخطاب، وهذا ما فعله قادة الأنظمة العربية بعد حركات الاحتجاج في بلدانهم، فهي ظرفية تتطلَّب الظهور السريع، في حين أنَّ الخطاب الدعائي يكون أكبر وأكثر تركيزاً على المنجزات (الوهمية على الأغلب) في المناسبات الوطنية والاحتفالات الرسمية، التي يتمُّ الاستعداد لها بشكلٍ أفضل.
وقد لجأ الحكَّام العرب في السنوات الأخيرة لتقديم خطاب رسمي يزعم أنَّه يتماشى مع حاجات الشعب، وقد بدا في كثيرٍ من الأحيان خطاباً مبتذلاً لدرجة أنَّه تحول لمادة سخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أقسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أحد خطاباته (25 تشرين الأول/ أكتوبر 2016م)، وفي معرض حديثه عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر مؤخراً، بأنَّ "ثلاجته" كانت خالية تماماً إلا من المياه لمدة عشر سنوات دون أن يتذمَّر أو يشتكي!، وفي سوريا أوقف بشار الأسد خطابه أمام أعضاء مجلس الشعب (12 آب/ أغسطس، 2020م)، ليتظاهر بأنَّه متعب، وبعد عودته لمتابعة الخطاب، بيَّن أنَّ السبب يعود لعدم تناوله الطعام من بعد ظهر أمس، فحصل هبوط في الضغط، كما أضاف: "تناولت القليل من السكر والملح حتى ارتفع الضغط. حالة طبيعية تحصل".
ختاماً: في تاريخ الفلسفة استعمل السفسطائيون الخطاب كوسيلة لتضليل الناس وخداعهم وإقناعهم بمسائل غير أخلاقية، وتكريس المغالطات ونشر أيديولوجيتهم، ولم ينته استغلالهم هذا إلا بعد قيام نسق فلسفي وفكري متكامل مؤسَّس على المنطق والاستدلال العقلي، ونحن اليوم في حالة زيف الخطاب السياسي العربي الذي تنتجه سلطة مستغلة ومستبدة، والذي يقوم على أسس ميتافيزيقية – حسب المفهوم الكانطي- أي خطاب موضوعه التصور المجرد، يقوم على الأقوال لا الأفعال، ولن ينتهي ما لم يظهر محلَّه نسق ثقافي وفكري مستند إلى ثورة معرفية تتحلَّى بالمبادئ والقيم.