في تأمل صورة وممارسات نظام الأسد الحاليتين، بعد عقد وعام من الثورة ضده، واندلاع حرب ضروس على الأرض السورية، واحتلال لأجزاء كبيرة منها من قبل قوى مسلحة وجيوش دول عظمى وإقليمية، سيرى المراقب الذي لا يدري ماذا حصل، وماذا جرى من كل ما سبق، أن لا شيء تغير في البلاد، إذ ما تزال الوزارات تتلكأ في عملها، فتجعل حيوات السوريين جحيماً عاماً، وما برح قصر الأسد يستقبل ضيوفاً، لا أحد يهتم بأوزانهم وفعاليتهم السياسية، وما انفك رأس النظام يمنح الأوسمة لخدم حكم عائلته الأوفياء، وما تزال زوجته تظهر على الشاشات، لتلقي كلمات تحاكي فيها حكمة زوجها!
وأيضاً لا بأس من أن تقوم القوات المسلحة بتنفيذ مشاريع تكتيكية برفقة القوات الروسية، بدلاً من أن تقضي الوقت في العطالة والبطالة، والنهب والسلب!
كسب النظام معركته لجهة إبعاد الشأن السوري عن واجهة الاهتمام، لا لقدرته على التحكم بالآخرين، بل لمراهنته على الزمن، في عصر يتحول وتتبدل الأدوار والشخصيات والمصالح فيه بسرعة كبيرة
ما يريد سدنة النظام إظهاره للعالم، وبعد كل ما سبق، يتلخص بالقول أن سوريا الممانعة باقية، وأن العالم كله قد انفض عن فكرة إسقاط الأسد، وها هو يعود إلى مكانه بين القادة العرب معززاً مكرماً، ومشاهد افتتاحه لمشروع هنا وآخر هناك، ستنتقل بعد فترة من الحيز المحلي إلى الآخر العربي، ليراه العالم يزور البلدان الأخرى ليشارك قادتها أفراحهم!
لقد كسب النظام معركته لجهة إبعاد الشأن السوري عن واجهة الاهتمام، لا لقدرته على التحكم بالآخرين، بل لمراهنته على الزمن، في عصر يتحول وتتبدل الأدوار والشخصيات والمصالح فيه بسرعة كبيرة.
الأمر بسيط، ضع نفسك ومن تحكمهم في ثلاجة، وحافظ على حياتك، وإن بالحد الأدنى، واخرج للعالم بعد فترة، ستجد أن التغييرات قد عصفت بالجميع إلا أنت!
لكن الانتصار الذي يظهر في الصورة، بمقوماته الفعلية، لن يكون مبسطاً كما توحي هذه الممارسات؛ فالحرب لم تضع أوزارها بعد، حتى وإن غابت المعارك الكبرى عن الواجهة، لا بل إن مواجهات السيطرة على الأرض والقرار، ماتزال محتدمة بين القوى المسلحة والفصائل في الشمال وفي الجنوب، ولعل نتائجها بوصفها محاولات عنفية للتغيير لن تكون مخفية، بل ستظهر أمام الجميع، فأي مكان خارج عن سيطرة النظام، يحتمل أن تعصف به تغييرات من نوع ما، وبينما تتركز الأنظار على السياق العسكري، ثمة أحداث أخرى جرت وستجري، تتعلق بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية، فرغم سوء الأحوال المعيشية في كافة المناطق الأخرى، إلا أنها لا تقارن بفداحة فقر وحرمان السوريين الذين بقوا تحت سلطته!
وحدها أجهزة الأسد الأمنية تساير تطور الجميع فتتبعهم كظلالهم، وتعتقل الناشطين، وتتحرى المعارضين في الداخل والخارج على حد سواء، وتمارس دورها في التصفيات وعقد التحالفات وإبرام الصفقات، وكأن شيئاً لم يحصل سوى تغير قادتها بشكل دوري وتضخم ملفات الجميع، لتحتوي تفاصيل غير معهودة قبل الثورة، من مثل أن يكتب المعارضون مقالاتهم في الخارج دون خوف، وأن يظهر البعض بالصوت والصورة يومياً ليتحدثوا عن فجائع نصف قرن من حكم العائلة والطائفة، وأن يتداول صناع المحتوى الأفلام الساخرة من كل شيء بما فيه تفاصيل النظام وشؤونه المقدسة!
إذاً، نحن أمام زاويتي رؤية، لتأمل ما يجري، واحدة مقعرة، متخلفة، جامدة، لا يمكن أن تحتوي على ما يبعث على التفاؤل، إلا إن كنا سُذجاً وصدقنا ما نراه على السطح، وتركنا العمق، وهذه زاوية النظام وإعلامه، الذي يكذب في سرد أبسط التفاصيل!
لقد كانت سوريا طيلة نصف قرن متروكة في مستودع معتم، لا تنهض فيه أي حياة ذات ديمومة
وزاوية أخرى، تبدو أوضح، رغم رداءاتها، وهي متعددة، ليس لأسباب إيجابية في تكوينها، بل لكونها غير قابلة للسيطرة من قبل طرف محدد، وهي تكشف عما يجري، فلا يغيب عن متابعيها أي شيء، وهذه زاوية كل من خرج عن سيطرة النظام!
لهذا كله، يبدو من الصعب على داعميه وحلفائه، وكذلك على الراغبين ببناء علاقات معه، إقناع الآخرين بأنهم يقومون بإحياء جسد قابل للعيش!
لقد كانت سوريا طيلة نصف قرن متروكة في مستودع معتم، لا تنهض فيه أي حياة ذات ديمومة، وقد خرج منها أقوام رأوا ما يجري تحت الضوء، وصار من المستحيل أن يعادوا إلى حيث الأغلال والقيود!
ولعل المصيبة الأكبر التي ابتلي بها كل من يحلم ببقاء الأسد، تكمن في أن الكيان الذي يدعمونه غير قابل للعيش أو الاستمرار إلا بسرعته هو نفسه، فهو لا يملك أي مقومات للتسارع وفق إيقاع العالم الراهن، مع الإدراك الراسخ بأن أي انفتاح له على الخارج يعني نهايته!
وسط هذا كله، لا يمكن لسوريا التي تظهر في شاشات النظام، وفي عدسات مؤيديه أن تستمر إلا منكوبة به، خاضعة لخرابه!
وهذا في المحصلة إقرار طبيعي بأن التاريخ لا يعود بنا إلى الوراء، وأن عصوراً مظلمة قد تستمر، لكنها في النهاية تنتهي، والسوريون يخرجون إلى فضاءات رحبة، يعيشون فيها يبحثون عن حرياتهم ويتعلمون بأسرع من المتوقع، وهذا أقل ما تصنعه الثورات!