لا يمكن للمرء أن يخلق دليلاً لنفسه، قاعدة قانونية متعارف عليها في القوانين والتشريعات، لكن ذلك لا يمنع أن يخطئ المجرم ويتورط في الاحتفاظ بأدلة تدينه، وقد يستمر بالعودة إلى مسرح جريمته مراراً وتكراراً.
المجرم في القضية السورية لم يحتفظ بالأدلة عن طريق الخطأ وإنما من باب المفاخرة بهزيمة الطرف الآخر، إنه لم يغادر مسرح جريمته ولم تزعزعه المحاولات المختلفة لإزاحته، منذ اندلاع الثورة السورية مروراً بالمآسي المختلفة التي عانيناها كسوريين لإثبات أحقيتنا في التمرد ضد طاغية وسفاح لم يشهد العصر مثله.
لم يأخذ القَتَلة في سوريا فترة استراحة كانت الأفرع الأمنية والآلة العسكرية مستمرة بالتنكيل في الناس والجثث من دون كلل، فيما كان البقية يُهجرون ويُعتقلون من دون حساب، فلم يكن منا في مواجهة التخلّي العالمي عن دعم الثائرين، وتحت وابل الصواريخ والبراميل التي تستهدف المدنيين وبعد النزوح من آلة القتل السورية وشركائها، سوى أن نلجأ إلى جمع الأدلة وتوثيقها وتوثيق أسماء المعتقلين والشهداء والمفقودين لغاية تقديمها للمحاكم المختصة لتكون بارقة الأمل الأخيرة في سبيل تحقيق العدالة.
كان ذلك استحقاقاً رئيساً بعد أن جهدت وسائل الإعلام والمنظمات على تشويه صورة الثورة وتحويلها إلى حالة حرب داخلية ونزاع أهلي، وإسقاط صفات الثورة ضد الاستبداد عنها في محاولة لإلباسها ثوب الحرب الأهلية، بحيث يتساوى الأطراف وتنتفي أحقية المطالب السياسية والإنسانية التي خرج السوريون لتحقيقها.
يبدو وكأن المتورطين في عمليات القتل والتعذيب واثقون من قدرتهم على الإفلات من العقاب، ما يمنحهم الجرأة في أن يرتكبوا مثل تلك الفظائع
في الوقت الذي جهد الناشطون ومكاتب التوثيق للبحث عن أدلة تدين الأسد والأجهزة الأمنية المتورطة في دم السوريين لجمعها وتقديمها للمحاكم الدولية بهدف الانخراط في مسار قانوني يحقق العدالة ولو بجزء منها، كانت عناصر هذه الأجهزة توثق جرائمها وكأنها في احتفالية نصر ويتناقلونها ويعيدون مشاهدتها بفخر ونشوة من دون أدنى اعتبار لما قد يحصل لو أن تلك الوثائق وصلت إلى يد الطرف الآخر.
قد يبدو سلوك المجرم الذي يوثق جريمته مرَضيّاً وبحاجة إلى تحليل علم نفس المجرم للتأكد من سلامته العقلية والنفسية، لكن الأمر هنا يبدو مختلفاً إذ يبدو وكأن المتورطين في عمليات القتل والتعذيب واثقون من قدرتهم على الإفلات من العقاب، ما يمنحهم الجرأة في أن يرتكبوا مثل تلك الفظائع، فلا يتوانون عن إطلاق خطاب كراهية والدعوة إلى تجريد من يخالفونهم الرأي من جنسيتهم، أو توزيع شهادات وطنية أو سحبها بحسب ما يناسبهم، ولا يوجد رادع يمنعهم من الذهاب إلى الحدود القصوى في تعذيب خصومهم.
الروايات التي يعرفها الباحثون والمهتمون والرأي السوري العام عن ممارسات الجهاز الأمني والتشكيلات التابعة له مع المعتقلين، تشي بكم الوحشية المتعمدة في أقبية الموت، فأولى ممارسات التعذيب وأخفها وطأة أن يجعلوا المعتقلين يستمعون إلى صرخات المعتقلين الذين يعذبون في غرف أخرى، لمحاولة التأثير نفسياً عليهم، ثم تتدرج المراحل حتى الوصول إلى أقصاها.
يبدو استخدام التعذيب أمراً منهجياً في المعتقلات السورية أو خارجها وليس سلوكاً فردياً أو حدثاً قد يحصل مصادفة، كما يبدو انتفاء وصف التعامل الإنساني بداية منذ منح المعتقلين أرقاماً بدلاً من أسمائهم، وقد يتمادى المحققون بحيث يجبرون المعتقل على قتل الآخر وحمل جثته لدفنها أو حرقها في مكان ما.
وإذا أردنا تكثيف الفكرة فالنظام السوري لا يهتم بأنه من باب الحكمة بألا يحتفظ الجاني بدليل على هذه الجريمة التي اقترفها، بل قد يتعدى الأمر ذلك بحيث يفاخر القتلة بكم الجرائم التي اقترفوها وقد يعتبرونها معيار بطولة، حتى أنهم مرتاحون بفعل القتل والتعذيب وكأن العالم قد منحهم رخصة لاقترافها وحصانة ضد العقاب بسببها.
لم تغير كل الوثائق والمستندات المرئية والمسموعة التي جمعتها مكاتب التوثيق من سلوك العالم تجاه القضية السورية كما لم تجعل المجتمع الدولي يتخذ قرارات حاسمة تجاه سفاحي وقتلة الشعب السوري، وهذا بدوره أثّر على تكرار السلوك من دون أدنى خوف لظهور مثل هذه الأدلة للعالم أو تقديمها للقضاء الدولي، لأنهم يعرفون أن لعبة توازنات السياسة قد تجعلهم في موقع المنتصر حتى وإن كان على حساب الضحايا.
وإلا فلماذا لم تؤثر شهادات الناجين والناجيات في الملف السوري وهم الأكثر دراية بالممارسات الوحشية وقد عايشوها؟ أو لماذا لم تسهم الصور والمشاهد الموغلة في العنف والدموية بتغيير فكرة الرأي العام العالمي عن الثورة السورية والاعتراف بها على أنها حق للسوريين في مواجهة الموت اليومي المتكرر، لماذا لم يسحب المجتمع الدولي الشرعية من نظام الأسد أو عمل على ردعه عن وحشيته على أقل تقدير؟؟
لم يعد السوري منا ينتظر إجابة لهذه الأسئلة فهو يعرف علم اليقين أن في جعبة المجتمع الدولي بمنظماته المدنية وتشكيلاته القضائية ما يمكن أن يدين النظام بالدليل القاطع ويجعله معزولاً دولياً ويعرضه لأقصى العقوبات، لكن وبما أن التجاذبات السياسية في المنطقة لم تحقق التوازن المرجو منها بعد، فإن الورقة السورية ما تزال قابلة للاستخدام ما يعني أن المحاسبة لا يمكن انتظارها على المدى القريب وقد تأخذ وقتاً أطول مما اعتقدناه أو حلمنا به.
لقد كانت المجاهرة بالعنف هي الجريمة الأكثر وضوحاً لدى النظام السوري المستبد
لقد كانت صور قيصر فضيحة عالمية ثم مجزرة التضامن، استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة والحولة، مآسي مهجري الخيام، واكتشاف مقابر جماعية تدل على الهولوكوست السوري، لكنها لم تغير في مسار الملف السوري وأخذت حصتها من الإعلام ثم تلاشى أثرها مع الوقت، فهي لم تؤثر في الضمير العالمي شيئاً ولم تحدث انعطافة تاريخية في الملف السوري، ولم تنصف الثورة السورية في الوصف.
لقد كانت المجاهرة بالعنف هي الجريمة الأكثر وضوحاً لدى النظام السوري المستبد، ففي حين يحاول كل مجرم إخفاء أي أثر يدل عليه ويجعله عرضة للعقاب والحساب، كان النظام في دمشق لا يخشى في العنف لومة لائم ولا يهمه أن يُساق به إلى أروقة المحاكم الدولية أو إدانته بالإبادة الجماعية.