في النقاش حول العلاقة بين الديمقراطية والشورى، ثمة مقاربة براغماتية في هذا الخصوص، حيث لا تجادل أولئك الذين يسعون إلى إيجادِ أساسٍ دينيٍّ/ إسلاميٍّ للديمقراطية لطمأنةِ الآخرين، وأنفسهم، بأنّ الديمقراطية إسلاميةٌ، وأن الإسلام ديمقراطيٌّ، وأنّ تبنّي الديمقراطية نظريًّا، وممارستها عمليًّا، لا يعني الخروج عن الإسلام أو عليه.
ويمكن لمحاولة تجنّب مناقشة هذا التوّجه الأيديولوجي أن تتأسس على القناعة بأنّ الوصول إلى الثمار المنشودة أهم أو أكثر أولويةً، في هذا السياق، من اختلاقِ الخلاف مع الناطور أو النواطير. في المقابل، يمكن المحاججة بأنَّ طرح الشورى بديلًا عن الديمقراطية غير مناسبٍ، لا معرفيًّا ولا سياسيًّا، أو أيديولوجيًّا حتى. ولا يوجد في النصوص الإسلامية التأسيسية، ولا في ممارسات المسلمين التاريخية ما يسمح باعتبار الشورى بديلًا ممكنًا أو مناسبًا، في هذا الخصوص. فهي من ناحيةٍ أولى غير ملزمةٍ على الإطلاق؛ ومن ناحيةٍ أخرى، غير واضحة المعالم النظرية، ولا الأدوات أو الطرائق العملية للتطبيق، بوصفها نظامًا سياسيًّا أو رؤيةً نظريةً/ عمليةً في الحكم.
ليس ثمة مشكلةٌ في "أسلمة الديمقراطية"، طالما أنّها بقيت ديمقراطيةً، ولا في دمقرطة الشورى، طالما أن ذلك التوفيق/ التلفيق لا يؤدي وظيفةً سلبيةً، من الناحيتين الأيديولوجية العملية والفكرية النظرية.
انطلاقًا من ذلك، رأى محمد عابد الجابري أنّ الممارسة الفعلية للشورى وللحكم النموذجي والأمثل، من منظور المرجعية التراثية، هو ذلك الذي يمارسه "مستبد عادل". ومن ثم، تبدو فكرة الشورى أقرب إلى الاستبداد (العادل) منها إلى الديمقراطية. وينبغي عدم اعتبار ذلك انتقاصًا من الشورى أو إشادةً بالديمقراطية. فإذا كانت "الشورى غير... والديمقراطية غير"، كما يقول الجابري، محقًّا، في عنوان النص الذي يتناول فيه مسألة العلاقة بين الديمقراطية والشورى، فلأن السياقات التاريخية لكلٍّ منهما مختلفةٌ، لدرجةٍ تجعل المقارنة بينهما غير مفيدةٍ، ولا مناسبةٍ، لا معرفيًّا ولا أيديولوجيًّا. والأمر لا يتعلّق بفكرة الشورى، تحديدًا أو خصوصًا، أو بإسلاميتها أو عربيتها. فحتى الديمقراطية اليونانية تبدو غير ديمقراطيةٍ، بالمقارنة مع الديمقراطية (الليبرالية) المعاصرة؛ لأنّها مختلفةً عنها، اختلافًا كبيرًا وجذريًّا.
***
إذا اختزلنا الديمقراطية في عملية الانتخابات، كما يفعل كثيرون، من إسلاميين وغير إسلاميين، يمكن القول إنّها يونانية الأصل بامتيازٍ. ففي اليونان، وليس في أيًّ مكانٍ آخر، جرى التوافق على اختيار المواطنين لمسؤولين بالانتخاب أو الاقتراع. لا شك أنّ التصويت في انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهةٍ أمرٌ جوهريٌّ وأساسيٌّ في أيِّ ديمقراطيةٍ، كما يرى صموئيل هنتنغتون، محقًّا، مع كثيرين، لكنَّني وكثيرين آخرين، أرى مع أمارتيا سِن، أنّ ذلك التصويت ليس الجوهر الأوحد أو الكافي للديمقراطية. فإلى جانب التصويت أو الانتخابات، ثمّة عناصر أساسيةٌ لا تقل أهمية ومركزيةً عن عنصر الانتخابات. وانطلاقًا من هذا الفهم أو المفهوم الموّسع للديمقراطية، يعرّف سِن الديمقراطية بأنّها "حكمٌ بالنقاش". ولهذا التعريف ميزاتٌ كثيرةٌ، فهو يمنع اختزال الديمقراطية في الانتخابات، ويبيِّن وجود عناصر وقيم ومبادئ في مفهوم الديمقراطية لا تقل أهميةً عن تلك المرتبطة بمسألة التصويت أو الانتخاب. يضاف إلى ذلك أنّ هذا الفهم، أو المفهوم للديمقراطية، ينفي المقاربة المستندة إلى المركزية الأوروبية أو المعزّزة لها في فهم الديمقراطية. فالديمقراطية، بوصفها "حكمًا بالنقاش"، ليست ذات أصولٍ يونانيةٍ أو أوروبيةٍ فقط، بل لها جذور في كلّ الحضارات أو الثقافات، أيضًا، بقدر ما تبنته تلك الحضارات أو الثقافات من أفكارٍ وقيمٍ ومبادئ تُشجّع على الحريات والتعدّدية والتشاور والتوصّل لحلولٍ وسط لتجاوز الاستقطابات الإقصائية وحلِّ الاختلافات والتعامل مع الخلافات ... إلخ. ووفقًا لهذا المفهوم، يمكن، بالتأكيد، للشورى الإسلامية، بوصفها مبدأ أو فكرةً عامةً، أن تكون إحدى العناصر الأوّلية في صيرورة تبلور الديمقراطية المعاصرة.
ثمة إيجابيةٌ كبيرةٌ في إصرار بعض (المفكرين) الإسلاميين على الاستعانة بالمفردات والمفاهيم الحديثة في التعبير عن رؤاهم الإسلامية. وهذا ما نجده، على سبيل المثال، في إصرار طه عبد الرحمن والمعجبين الإسلاميين بفكره، على إطلاق اسم "فلسفة" على فكره الفقهي أو الديني. وليس ثمة مشكلةٌ في "أسلمة الديمقراطية"، طالما أنّها بقيت ديمقراطيةً، ولا في دمقرطة الشورى، طالما أن ذلك التوفيق/ التلفيق لا يؤدي وظيفةً سلبيةً، من الناحيتين الأيديولوجية العملية والفكرية النظرية. أمّا المقاربات التي تتناول هذه المسائل من "منظارٍ استغرابيٍّ" يرى أنّ "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدًا"، فهي ذات آثارٍ سلبيةٍ قويةٍ، رغم هشاشتها وسذاجتها المعرفية.
***
ثمة حاجةٌ ضروريةٌ وملِّحةٌ لتجاوز منطق الاستغراب، بوصفه استشراقًا معكوسًا. فمن المهم تجاوز الفقر والإفقار المعرفيين المحايثين لكل تضخمٍ وترهلٍ أيديولوجيٍّ، وهو ما يبدو بارزًا في الصيغ المبتذلة من الأيديولوجيات الاستشراقية والاستغرابية على حدٍّ سواء. والأوضاع السياسية والصدامات والاعتداءات العسكرية وما ينتج عنها من ضحايا ودمارٍ، كل ذلك وما يتعلق به، يعزز التفسيرات الثقافية والثقافوية المتبنية للرؤيتين الاستشراقية والاستغرابية، ويترك آثارً سلبيةً ومديدةً قد تترك ندوبًا يصعب الخلاص منها بسهولةٍ أو سرعةٍ. وفي مواجهةٍ هذا الإفقار المعرفي والتضخم الأيديولوجي للرؤية الأحادية او المثنوية للعالم، ثمة حاجةً لرؤيةٍ أكثر توازنًا وإنصافًا، لا تتبنى المنظور الأخلاقوي المثنوي الذي ينسب الحق والخير إلى طرفٍ والباطل والشر إلى طرفٍ آخر، ولا تتبنى المنطق الهووي الذي يشكل انحيازاته وانتماءاته وولاءاته، وفقًا لمنطق العصبية "الابن خلدوني". وفي هذا السياق، وغيره، تكون الحكمة ضالة المؤمن وغير المؤمن. ويمكن للاقتراب أو الابتعاد من تلك الحكمة ان يكون معيارًا للتوافق أو الاختلاف او الخلاف بين الناس بغض النظر عن نسبهم الديني والمناطقي والثقافي.
وصرف النظر هذا هو الذي يسمح بتجاوز الأيديولوجيات الاستشراقية والاستغرابية، ويسمح بتبني الديمقراطية بمعزل عن كونها غربية او شرقية، وبغض النظر عن علاقتها الفعلية أو المزعومة بالشورى (الإسلامية). وعلى هذا الأساس، ينبغي للديمقراطية ان تكون ضالة المؤمن وغير المؤمن، في الوقت نفسه، بقدر ما تكون الحكمة ضالة الطرفين المذكورين.