كان عقد الثمانينيات من القرن الماضي، هو عقد تحوّل طغيان حافظ الأسد، من الطريقة التي تحترم ظاهريا القانون، وبعض الحيثيات الشكلية، إلى صيغته المعلنة والفاجرة والوحشية، وفيه تمكّن الأسد الأب من القضاء على كل أشكال المعارضة المنظمة له، ليس هذا فحسب، بل وتمكّن أيضاً من ترسيخ فكرة العجز لدي قسم كبير من الشعب السوري، وأنه لا إمكانية حقيقية لنشوء معارضة فعّالة له، وأصبح المشهد السوري بالغ القتامة، فالأجهزة الأمنية أصبحت قادرة على إحصاء أنفاس المواطنين، وقادرة على استباحة أي حق، مهما صغر أو كبر، لأي مواطن سوري.
إذا كان عقد الثمانينيات هو عقد القمع العاري، المتوحش والمعمم، فإن عقد التسعينيات، كان عقد التأسيس لتوريث الحكم، فبعد أن اطمأن حافظ الأسد على إحكام سيطرته على المجتمع، وبعد سحقه لكل احتمالات نشوء تحديات حقيقية لسلطته وسلطة عائلته، انتقل لخطوته التالية، والمتمثلة بتوريث السلطة لابنه "باسل" من بعده، كانت عملية التهيئة تجري بسلاسة، وبلا أي اعتراض من أي جهة، سواء في المجتمع، أو في داخل المؤسسة الحزبية لحزب البعث الحاكم، أو في المؤسسات الأمنية أو العسكرية، لكن القدر كان له رأي آخر، عندما أنهى حياة الوريث بحادث سير على طريق مطار دمشق الدولي.
رتّب حافظ الأسد قبل موته، عملية إزاحة كل الشخصيات التي قد تشكّل إعاقة ما في توريث السلطة إلى ابنه بشار
لم تتراجع فكرة التوريث عند حافظ الأسد، بعد موت ابنه المؤهّل للوراثة بنظره، ورغم قناعة عائلة الأسد ومن يحيطون بها أن "بشار" هو غير كفؤ، وأن فكرة توريثه مليئة بالخطورة، إلا أن حافظ الأسد لم يكن يرى في سوريا إلا مزرعة، هو من صنعها، وصاغها كما يشاء، وبالتالي فإن له كامل الحق بتوريثها، وإن كان هناك من خوف على هذا التوريث فإن مصدره سيكون فقط من رجالات الصف الأول، الذين قد يفكرون بأحقيتهم في استلام سلطة ساهموا في الوصول لها، وفي ترسيخها، وهكذا رتّب حافظ الأسد قبل موته، عملية إزاحة كل الشخصيات التي قد تشكّل إعاقة ما في توريث السلطة إلى ابنه بشار.
تمت مهزلة التوريث كما خُطط لها، ومن وافقوا على عملية التوريث بدؤوا يخططون لعلاقات مختلفة، وعلى أسس جديدة مع الرئيس الجديد، فهو ليس مثل والده، وإذا كان حافظ الأسد قادراً على ضبط النهب والفساد وسرقة أموال الدولة، وتحجيمه كلّما تمدّد أكثر مما يريد له، فإن الوريث القاصر، عديم الخبرة، والذي اعتقد أن سوريا منصاعة حتى نقي عظامها، لن يكون قادراً.
استطاعت الحفنة المحيطة ببشار الأسد أن تقنعه بعبث الشعارات التي أطلقها عند توريثه، وأن والده ما كان ليحكم سوريا إلا بالقمع الوحشي، لكن ما غفل عنه بشار الأسد ومن حوله، هما عاملان مهمان:
- العامل الاقتصادي: فالاقتصاد السوري كان يترنّح بشدة، بعد العقود الثلاثة التي حكم بها حافظ الأسد، وإن الدولة التي أتخمت بأعداد هائلة من الموظفين غير المنتجين، أو ما عرفوا بالبطالة المقنّعة باتت حملاً ثقيلاً على اقتصاد منهك، سيما وأن ركائز الاقتصاد السوري الإنتاجية كانت تنهار، وتصبح هي الأخرى خاسرة، بسبب الفساد والإهمال (مصانع ومؤسسات القطاع العام)، وكانت الزراعة قد تراجعت كثيراً، بعد أن ابتلعت الدولة ومؤسساتها أعداداً كبيرة ممن كانوا يعملون بها، أو تسبّب الجفاف وتدني الجدوى الاقتصادية، بهجرة واسعة من الريف إلى المدينة.
الحد الأدنى للمعيشة تراجع كثيراً، وازداد الفساد إلى حدود باتت تشكّل عبئاً يومياً ثقيلاً، على المواطن السوري ذي الدخل المتدني أصلاً، وبازدياد معدلات البطالة، وتمادي فئة قليلة من المحيطين ببشار الأسد في سيطرتهم وسطوتهم على اقتصاد ومقدرات البلد، إلى درجة أن أصبح 100 رجل في سوريا يستحوذون على 60% من النشاط الاقتصادي السوري، وهو ما صرّح به رامي مخلوف، وكيل عائلة الأسد في مشاريعهم الاقتصادية، وهذا ما أدخل سوريا في نفق لم يعد الخروج منه ممكناً، إلا بكسر المعادلة كلّها، واستبدالها بمعادلة جديدة.
- العامل السياسي والاجتماعي: يمكن القول باختصار إن تفتيت المجتمع السوري، وتراجع قيم المواطنة، والحقوق، ومعنى الدولة ودورها، وتعزيز حضور العصبيات الطائفية والعشائرية وكل ما هو متخلف في معايير الدولة الحديثة، إنما تم تكريسه في عهد الأسد الأب، ولم يكن له – أي الأسد الأب – أن يحكم سوريا طوال ثلاثة عقود، لولا أنه حطم المجتمع وقواه السياسية، لكن الحماقة التي ارتكبها بشار الأسد، ودفع السوريين إلى انفجارهم ضد سلطته، تمثلت في أنه أغلق في وجوههم كل منافذ الحد الأدنى للحياة، تلك المنافذ التي حاول والده أن لا تغلق تماماً.
لم يلجأ بشار الأسد إلى الحلول المعروفة عادة في مثل هذه الحالات، وأدار ظهره تماماً للتداعيات الخطيرة التي بدأت تفتك بالمجتمع السوري
كان يُمكن لبشار الأسد أن يعيد بعض الحياة السياسية إلى المجتمع السوري، وأن يُحافظ على مستويات لا بدّ منها من حماية القانون للمواطن، وأن يكبح جشع الحيتان التي تحاول ابتلاع كل نشاطات الاقتصاد السوري، وأن يفتح مساحة صغيرة لإعلام حر، وهذا ما انتظره السوريون، ورغم أن هذا لن يحمي سوريا من حتمية تغيير تفرضه الحياة، وقوانين التاريخ والمجتمعات، إلا أنه ربما كان بوابة لبداية تغيير بطيء، يجنبها هذا الانفجار بالغ الخطورة، سيما وأن كل مقومات صمود المجتمع السوري والدولة السورية، كانت قد سُحقت في عهدي الأسد الأب وابنه، وبالتالي كان بديهياً أن يكون أي انفجار داخل هذه البنية الضعيفة كارثياً، وها نحن، وبعد أكثر من عقد، لا تبدو في الأفق أي بوادر لنهاية هذه الحالة.
لم يلجأ بشار الأسد إلى الحلول المعروفة عادة في مثل هذه الحالات، وأدار ظهره تماماً للتداعيات الخطيرة التي بدأت تفتك بالمجتمع السوري، ولم يستمع لأصوات الاقتصاديين والسياسيين السوريين، الذين نبّهوا إلى خطورة ما يجري، وسلم سوريا لحفنة الطفيليين، الذين تسابقوا في نهش مقومات سوريا الاقتصادية عبر السمسرة والوساطة، وكانت الفرصة مؤاتية لتغلغل أطراف دولية داخل مفاصل الدولة والمجتمع مثل إيران، وتسببت بإفلاس قطاعات واسعة فيه، وهكذا وبعد عقد واحد فقط من حكم الوريث القاصر، باتت سوريا مكشوفة سياسياً واقتصادياً، وبدأت كل مقومات الدولة تتداعى وتنهار.
يمكننا اليوم أن نرى بوضوح بالغ، كيف أوصلت عقود حكم عائلة الأسد سوريا إلى هذه الكارثة.