تكمن أهمية الحكم الذي أصدرته المحكمة الإقليمية العليا في مدينة "كوبلنز" الألمانية بحق الضابط المنشق عن النظام الأسدي، أنور رسلان، في قيمته الرمزية الكبيرة بالنسبة للضحايا السوريين وذويهم، وفي مبانيه ومعانيه المتعددة، التي تجد تجسيداتها في أن تحقيق العدالة يتجاوز الحدود والجنسيات، وأن الانتهاكات والجرائم لا تموت بالتقادم، وبالتالي لا يفيد تغيير الصفوف وتبديل رايات المجرمين في الإفلات من العقاب، إضافة إلى كونه أول حكم قضائي، صدر عن محكمة في دولة أوروبية، بحق أحد ضباط المنظومة الأمنية لنظام الأسد، تطبيقاً لمبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي تعتمده المحاكم الألمانية، ويسمح بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بصرف النظر عن جنسياتهم، وعن مكان وزمان الجرائم التي ارتكبوها، إلى جانب استناده إلى قانون الجنايات الدولية والقانون الجنائي الألماني وقانون العقوبات الألماني، وذلك على خلفية إدانة رسلان بارتكابه جرائم قتل 58 سورياً وتعذيب 4 آلاف معتقل سوري، في الفترة الممتدة من أبريل/ نيسان 2011 حتى سبتمبر/ أيلول 2012، وذلك خلال ترؤُّسه قسم التحقيق في "الفرع 251"، المعروف باسم "فرع الخطيب" الأمني الواقع في مدينة دمشق.
المطلوب من المنظمات والهيئات الحقوقية السورية هو أن تسعى إلى تحويل حكم محكمة كوبلنز إلى سابقة لها ما بعدها، بحيث يمكن البناء عليها قانونياً وسياسياً
وبصرف النظر عن المماحكات والخلافات بين كثير من السوريين حول المحاكمة وحيثياتها، فإن المطلوب من المنظمات والهيئات الحقوقية السورية هو أن تسعى إلى تحويل حكم محكمة كوبلنز إلى سابقة لها ما بعدها، بحيث يمكن البناء عليها قانونياً وسياسياً، وبما يشكل مرتكزاً لجهود وأعمال حثيثة، من أجل السعي إلى تحويل ملف جرائم النظام الأسدي برمته إلى المحاكم في مختلف دول العالم، وخاصة الدول الأوروبية، كون الحكم الذي صدر ضد أرسلان، يعدّ أول وثيقة رسمية صادرة عن جهة قضائية معترف بها، ولا أحد يمكنه التشكيك في شرعيتها، وتتضمن توصيفاً قانونياً لجرائم ضد الإنسانية ارتكبها أحد ضباط نظام الأسد ضد السوريين، الأمر الذي يعطيه قيمة رمزية ستؤثر بدورها على أي محاكمة مقبلة لرموز نظام الأسد في المحاكم الأوروبية وسواها.
وعلى الرغم من أن الحكم على أنور رسلان يخص متهماً واحداً من أفراد النظام السوري، مثله مثل الحكم الذي صدر من نفس محكمة كوبلنز على إياد غريب في 24 فبراير/ شباط الماضي، فإنه يسهم في فتح باب محاسبة أفراد آخرين من نظام الأسد، ويعطي دفعة قوية للمساعي العديدة في عدة دول أوروبية، الرامية إلى إجراء محاكمات لأشخاص متهمين بارتكاب جرائم ضد السوريين خلال سنوات الثورة السورية، ويدخل ضمنها محاكمة "طبيب التعذيب"، علاء موسى، الذي انطلقت جلسات محاكمته في مدينة فرانكفورت فور صدور حكم محكمة كوبلنز على رسلان، حيث يواجه تهماً بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، من بينها القتل العمد والتعذيب والعنف الجنسي ضد سجناء في مستشفيات عسكرية في سوريا، الأمر الذي يسلط الضوء على ممارسات أجهزة النظام الأسدي داخل المستشفيات والسجون الكثيرة، التي حولها إلى معتقلات تعذيب، ويظهر مدى تنوع الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ضد السوريين.
وإن كان الحكم على رسلان لا يقتصر على الآثار القانونية والمعنوية له، وهي ليست قليلة، إلا أن الأهم هو الآثار السياسية التي يجب أن تبنى عليها، في وقت تحاول فيه روسيا تلميع نظام الأسد وإعادة تأهليه، في حين تهرول بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع معه، حيث ينبغي على القوى السياسية والمنظمات الحقوقية والمدنية السورية في مختلف بلدان أوروبا وأميركا الاستفادة من حكم المحكمة الألمانية، من أجل الدفع بملف جرائم النظام نحو المحاكم الوطنية الأوروبية وسواها، بالتعاون مع القوى السياسية والمنظمات الحقوقية الفاعلة فيها. إضافة إلى أهمية مواصلة الجهود المنظمة للجمعيات والمنظمات الحقوقية السورية، للضغط على حكومات الدول التي تحترم حقوق الإنسان، من أجل اتخاذ خطوات لإظهار التزامها بحماية حقوق الإنسان في سوريا، ووضع حد لانتهاكات نظام الأسد لها، وبالتالي تكتسي أهمية خاصة مطالبات منظمات حقوقية سورية إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بإعطائها "الدعم الكامل للمنظمات التي تعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والفظائع الجماعية، والدفع على أعلى المستويات من أجل مساءلة نظام الأسد وغيره من منتهكي حقوق الإنسان، والاستثمار السياسي المتجدد في قيادة قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المعتقلين والمفقودين في سوريا للإفراج عن جميع المعتقلين".
أسباب صمت الائتلاف لا تخرج عن الحرج الذي يعتري بعض أعضائه، أولئك الذين سارعوا إلى الترحيب بانشقاق رسلان، دون أي دراسة عنه
ولعل من اللافت أن ترحب منظمات حقوقية سورية ودولية عديدة بالحكم على أنور رسلان، في حين صمت الائتلاف السوري المعارض تماماً، ولم يصدر عنه أي شيء، الأمر الذي يشي بأن هذا الكيان السياسي بات غائباً تماماً عن أحداث القضية السورية، في حين أن من المفترض أن تبذل هيئاته السياسية والحقوقية، وخاصة لجنته القانونية، جهوداً مكثفة من أجل الدفع بمحاكمة مجرمي النظام في كل المحافل الدولية.
ويبدو أن أسباب صمت الائتلاف لا تخرج عن الحرج الذي يعتري بعض أعضائه، أولئك الذين سارعوا إلى الترحيب بانشقاق رسلان، من دون أي دراسة عنه، أو تمحيص بماضيه في المنظومة الأمنية للنظام، وبما ارتكبه من جرائم ضد المعتقلين السوريين، ثم قاموا بالتقرب منه إلى درجة ضمه إلى الوفد الاستشاري العسكري للائتلاف خلال مفاوضات جنيف عام 2014.
ولا جدال في أن عطالة الائتلاف وتخلفه عن القيام بدوره، لن تثني المنظمات الحقوقية والناشطين السوريين عن البحث في مسارات يمكن العمل عليها للسير في طريق تحقيق بعض العدالة للضحايا، وذلك في ظل عدم إمكانية إحالة ملف جرائم النظام الأسدي برمته إلى محكمة الجنايات الدولية، بسبب الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي، لكن بانتظار أن تطول يد العدالة كل رموز الإجرام الأسدي وسواهم، فإن من المهم إبقاء الضوء مسلطاً على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري.