ينتمي فيلم "البرابرة" للمخرجة والممثلة الفرنسية جولي ديلبي إلى نمط كوميدي خفيف، يسعى أصحابه إلى معالجة قضايا مجتمعية معروفة، دون أن يثقلوا المتفرج بعناء الاستغراق الإيهامي، ومحاكمة الشخصيات، والغوص في أعماقها، بل يفضلون عوضاً عن ذلك، إضاءة قبسات إشكالية متفرقة، على هامش الحكاية المسلية، وترك المشاهدين يمارسون رياضة التفكير بها، دون أن يُملوا عليهم تفضيلاتهم الأخلاقية.
الأمر هنا، أشبه بدعوة لشرب الشاي في المقهى، تمضية فترة قصيرة، ثم العودة إلى الأشغال المعتادة.
السؤال الذي يجول في رأس أي صانع للأفلام، وهو يفكر بإنتاج عمل مسلٍ، دون أن يدير ظهره للقضايا الإنسانية المكرسة، وللأحداث الراهنة، لا بد أن يتمحور حول اختيار الثيمة المناسبة، وعما إذا كان عليه أن يشتغل على قصة مركبة؟
وفي إطار الإجابة، لا بد من التوقف عند الخيار الذي مضت فيه جولي، الممثلة المعروفة عالمياً، من خلال اشتراكها في ثلاثية "قبل" مع إيثان هوك، وإخراج ريتشارد لينكليتر، والمقصود بالطبع أفلام: قبل الشروق (Before Sunrise) - 1995 وقبل الغروب (Before Sunset) – 2004 وقبل منتصف الليل (Before Midnight) 2013.
فهنا تستعير ثيمة معروفة في عالم الدراما عموماً، تُسمى غالبًا "الاضطراب القادم من الخارج" أو "الوافد المثير للاضطراب". وهي جزء من ثيمة عامة أكبر تُعرف بـ "توازن المكان المفقود"، حيث يكون هناك هدوء ظاهري في المكان، ولكن تحت هذا الهدوء تكمن توترات وصراعات خفية، تنتظر شرارة لتتفجر، ومن الأمثلة العربية المعروفة عن استخدام هذه الثيمة، يمكن التذكير بمسرحية معروفة هي (ميس الريم) للأخوين رحباني، والتي أدت شخصيتها الرئيسة (زيّون) المطربة فيروز.
جولي ديلبي سعت، منذ مطالعة الجمهور للإعلانات الأولى عن الفيلم، إلى تحفيز المشاهدين، على عدم الاستكانة لما يعرفونه، عبر جعلهم أمام المفارقة بوصفها مفتاح الكوميديا، وهي هنا الصدمة التي تقع على رؤوس سكان قرية بامبون الصغيرة في منطقة بروتاني غرب فرنسا، حيث كان من المفترض أن يستضيفوا لاجئين من أوكرانيا، لكنهم سيصدمون بأن ضيوفهم الذين ينزلون من الحافلة تواً هم لاجئون من سوريا! وللمشاهد طبعاً أن يتخيل الفرق الراسخ في العقلية الأوروبية البسيطة أي عقلية الناس العاديين، عن الأوكرانيين الشقر، وبين السوريين السمر، بين أولئك المسيحيين وبين هؤلاء المسلمين، وفق الصور النمطية المعتادة!
لعبة المخرجة هنا، تتفق مع أسلوبها السردي الحكائي، فمنذ البداية تكتب له للمتفرج: "حدث ذات يوم بامبون" أي أنه سيشاهد قصة بالطريقة ذاتها التي تروى فيها حكايا ما قبل النوم، للأطفال.
كل هذه التنويعات الأسلوبية، تهدف بشكل أو بآخر، إلى جعل المشاهد الفرنسي يتقبل وجود شخصيات ذات دوافع عنصرية، في المجتمع المحدد في الحكاية، ودون أن يجد نفسه في مواجهة مع شر محض، بل مع شخصيات تعاني من أعراض، يجب أن تُعالج، ليس من خلال التمدد على سرير في عيادة نفسية، بل عبر الصراع بينها وبين الشخصيات الغريبة، المتهمة، وهي هنا عائلة سورية، وجدت نفسها ككل اللاجئين في فرنسا، أمام مجتمع مختلف، تواجهها فيه اعتقادات نمطية غير متوازنة، حيث يغلب على أصحابها الاعتقاد، بأن السوريين سمر البشرة، ونساؤهم بالضرورة محجبات، وأنهم في المحصلة أصحاب نزعات دينية متطرفة، وهم على الأغلب "دواعش"!
يذهب الفيلم -دون أن نقوم بحرق قصته أمام القارئ- إلى جعل الجميع يخرجون من الصراع منتصرين، طالما أن قوى الخير، أي تلك الفئات اليسارية المعتدلة في المجتمع، تظل مُصرة على إدماج اللاجئين في البيئة الجديدة، واكتشاف أهم ما لديهم من مواهب ورغبات بالمشاركة، دون الانزواء وراء ستار متوهم، يفرق بين القادمين والسكان المحليين. غير أن استتباعات الثيمة لا تكتمل، دون أن يؤدي وجود الغرباء إلى كشف المجهول والمخفي والمسكوت عنه، في حيوات القرويين المحليين، وضمن هذا الإطار، لن يكون مستغرباً، أن ترى تماسك الأسر مهدداً بنزوات بعض أفرادها، وأن يكون رفض اللاجئين، متعلقاً بصراع سياسي، بين جهات تحاول كسب الجمهور، في صناديق الاقتراع.
الذكاء في المعالجة لدى جوليا ديلبي يبدأ أولاً من أنها تريد صنع فيلم للفرنسيين، لا يحكي عن السوريين كأصحاب مأساة، ويضع نقطة وراء ذلك، بل إنها تريد ألا تجعل من ذلك، فرصة للبكاء على أحوالهم، بل تنهج إلى دفع الجمهور للتفاعل معهم، في واقعهم الحالي، أي في مسعاهم إلى الاندماج، والحصول على فرصة جديدة، من أجل بناء حياة مختلفة، عما عاشوه في وطنهم المدمر.
يُعتبر هذا الفيلم نموذجًا للكوميديا الجماعية التقليدية الفرنسية، وقد بدأ عرضه في صالات السينما، قبل أقل من شهر، بعد مشاركة في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في أيلول/سبتمبر، وحاز على انتباه الجمهور، والتفت إليه عديد من نقاد السينما الفرنسية، فكتب محرر السينما في موقع francetvinfo يقول: "تطرح القصة سؤالاً جوهرياً: من هم "البرابرة"؟ هذا هو جوهر القصة البسيطة، التي تمزج بين البراءة والنقد الاجتماعي، مستخدمة أسلوباً ساخراً في تقديم الأحداث. حيث يُظهر الفيلم، بطريقة ساخرة، أنه حتى "البرابرة" يمكن أن يغيروا آراءهم عندما يكتشفون ما يكمن حقاً وراء مخاوفهم وتصوراتهم. علاوة على الرسالة السياسية، تُغني هذه القصة الحادة عن الحياة، حيث تنتهي بميلاد طفل، وهو حدث يرمز غالباً إلى نهاية الصراعات. هذه اللمسة تُضفي على الفيلم شعوراً بالأمل والتجدد بعد التوترات الاجتماعية".
ولعل أهم نقاط القوة في هذه الحكاية الممتعة جاءت من الأداء المتميز لمجموعتي التمثيل، الفرنسية وعلى رأسها جولي ديلبي في شخصية جويل المدرسة المثالية ذات النزعة الإنسانية، وكذلك لوران لافيت في شخصية هيرفي ليو سباك القرية العنصري، وساندرين كيبرلين في شخصية آن صديقة جويل.
والمجموعة العربية، التي تنوعت منابت ممثليها، من الفلسطيني زياد بكري في دور مروان، إلى اللبنانية داليا نعوس في دور المصممة الفنية لونا، إلى مواطنتها ريتا حايك التي قدمت شخصية الطبيبة ألمى، وصولاً إلى النجم فارس الحلو وبحضوره اللافت في شخصية الجد حسان فياض الشاعر الغاضب والحالم في آنٍ معاً.