قد تكون من آفات الفكر العربي عملية الإقصاء الفكري الممنهجة وتنحية العقل الفردي غير المتأثر باللاوعي الجمعي عن عملية التفكير.
يعود هذا الأمر لأسباب متعددة، منها ما هو تاريخي وآخر اجتماعي. لكن بلا شك، عند تشخيص الحالة السورية، يمكن أن نشير إلى البعد السياسي، إذ حُرم الشعب السوري من حق التعبير ومن حرية البوح بما يجول في عقل الفرد السوري.
ولعل فلسفة أي نظام مستبد تقوم على العنف والدعوات المستمرة والمدروسة للقتل والإقصاء والاعتقال. تدور هذه المصطلحات كلها في فلك العنف، الذي يتنافى مع فطرة البشر كما اعتقد جون لوك وجادل لأجله في فرضية العقد الاجتماعي، مندداً بنظرية توماس هوبز واللفياثان الذي نبذه العقل الوضعي الأوروبي عندما قرر الانفكاك عن عصوره الظلامية ومكافحة التعصب بكل أشكاله، خاصة نظرية "الكل ضد الكل"، والانفتاح على العالم.
حالة النهضة الفكرية عاصرت مجتمعات عديدة، منها الإسلامية والمسيحية، وقبلهما اليونانية.
احتاجت أوروبا ما لا يقل عن قرن كامل لتتصالح مع ماضيها، وخاصة مجزرة "سانت بارتيملي"، وبدأت تستوعب صدمة النهضة والتنوير الذي سماه أنصار التطرف "هرطقة". بدأ التنوير مع شخصيات لا يتجاوز عددها العشرة في مطلع القرن السابع عشر، وكان حصاده الأول بعد مئة عام تقريباً في القرن الثامن عشر الذي شهد تحولات سياسية واجتماعية وطفرة معرفية كبيرة. تعرض هؤلاء العشرة لأبشع أنواع الإقصاء والتمييز والتكفير. ومن أبرز الأمثلة على تلك الحقبة، قصة سبينوزا، الذي ارتد عن أفكار يمينية متطرفة في اليهودية وحصر الدين بالأخلاق في كتابه "مقال في اللاهوت السياسي".
هذا لا يعني أن التنوير كان محصوراً في أوروبا وحدها، فحالة النهضة الفكرية عاصرت مجتمعات عديدة، منها الإسلامية والمسيحية، وقبلهما اليونانية. وبلا شك، كما يعتبر العرب ابن رشد حالة نهضوية معرفية متقدمة، لا يمكن إنكار أن ابن عربي الذي دعا للحب والتسامح هو شخصية تنويرية بحد ذاته. لكن ما جعل التنوير الأوروبي مميزاً هو قدرته على تحويل النقاش الفلسفي الطويل عبر التاريخ إلى تطبيق عملي للأفكار؛ أي التحول من حالة النقل إلى العقل.
لم يكن هذا النقل اعتباطياً، بل ناقش موضوعات مهمة في علم السياسة وظواهرها، والتي نتج عنها مصطلح الدولة الحديثة، الذي تميز به فلاسفة العقد الاجتماعي وماكس فيبر في معالجته الشهيرة لمفهوم "احتكار العنف الشرعي" وتفسيره لبيروقراطية أجهزة الدولة؛ مع نزوعه نحو حفظ الحريات الفردية التي تتناسق مع التنوير. ولربما كان أبرز ما ابتدعه العقل الأوروبي هو مبدأ أو مفهوم المواطنة. أقول عنه مبدأ لأنه قدم إجابات عميقة حول كيفية تجاوز العنف نحو التعايش السلمي بين الأفراد المختلفين في المعتقد.
هذا التفسير ساعد في دفع أوروبا ومجتمعاتها للوقوف مع الذات والتاريخ، وإيقاف الحروب على "الهوية الدينية". وما أشبه ذلك اليوم الأوروبي بيومنا في الوطن العربي، لا سيما في ظل المتغيرات السياسية الجديدة في المنطقة عقب 7 أكتوبر والربيع العربي، حين اكتشف العرب أنفسهم أمام حالة تاريخية مشابهة: ثنائية التسليم المطلق بمركزية الحكم المستبد والاحتلال، أو الحروب الطائفية التي قد تستمر لقرون.
اختار الأوروبيون الثورات التي فتحت الباب أمام الفرص، لأن الحرب والظلم والعنف تجعل المسلمات المرتبطة بالأمان ذات قيمة صفرية، مما يخلق تلك الحروب فرصاً لإنهاء سبب ونتيجة الاستبداد، وفتح المجال أمام إعادة النظر في مفاهيم الخوف والحرية، كما جاء في كتاب جون لوك "رسالة في التسامح".
أهم ما أثاره الأوروبيون في جدل الإنسان إبان التنوير هو الأخلاق وضمير الفرد، والدعوة إلى فهم إرث هذا الكائن باعتماد الفلسفة اليونانية. بدأت محطات عبور التنوير عند الفلسفة السفسطائية التي فتحت الباب نحو العلم والتعليم، وانتزعت هذه المجالات من الحالة الأرستقراطية، ممهدة لأفكار نقاش العقل والدين والتعليم مع سقراط وأرسطو.
من مقومات الاستبداد الحكم على الفرد كما حكم عليه هوبس كشرير، لإرضاء السلطات الثيوقراطية في إنجلترا وأوروبا، متخذًا الحرب الإنجليزية نموذجاً لفرضيته.
اعتبر جان جاك روسو أن التعليم هو أهم مفرزات العقد الاجتماعي، واصطلح عليه بمصطلح "الإرادة العامة"، خلال محاولته لفهم الإرادة الشخصية الحرة التي دافع عنها جون لوك في نظريته حول أصل الإنسان وسماته الإنسانية التي تميل نحو الخير لا الشر، في حوار مونولوجي مع الذات أو الضمير. من أفكار روسو نتجت النظرية السياسية للفكرة الديمقراطية والثورة الإنسانية العاطفية غير الجامدة.
هذا القسم من التنوير يشبه الحالة السورية عندما عبرت من الاستبداد نحو الثورة على الطغيان. مصطلح الطغيان نفسه يشمل ظواهر وعادات وتقاليد وقوانين ومسلمات اجتماعية وغيرها، وكل مستوى منها يبدأ من الفرد السوري الذي تحرر أخيرًا، ليس جسدًا فقط، وإنما عقلاً عندما عاد للتفكير وأعلَى شأن المعرفة غير الجامدة، كما أكد عليها "ديكارت" فيلسوف العقل الفرنسي. وقد ميّز جورج هيغل هذه المعرفة العقلية في تفصيله بين العقل التجريدي والعقل الحي، مشيراً إلى أن المشاعر تلعب دوراً مهماً في منظومة الأخلاق، التي تناولها سبينوزا في إشارته لنبذ أنانية الحضارة. فما فائدة التقدم الحضاري العقلي دون أخلاق إنسانية؟ هنا يتميز روسو بأنه جعل من كلمة "شعب" مقدسة لأول مرة.
من مقومات الاستبداد الحكم على الفرد كما حكم عليه هوبس كشرير، لإرضاء السلطات الثيوقراطية في إنجلترا وأوروبا، متخذًا الحرب الإنجليزية نموذجاً لفرضيته. وكما حكم الحكام المستبدون على شعوبهم بقلة الوعي وانعدام الضمير، قال الأسد: "السوريون لا يستحقون الديمقراطية". حتى أن بعضهم ينقل تلك الفرضية الملازمة لمفرزات الاستبداد كحالة تسليمية وحكم قيمة على الشعب السوري بعد ثورته. هذا ما يجعل فقه الثورات والتنوير يحمل أشكالاً عديدة من التشابه في الظواهر والخطاب، فما زال التنوير الفرنسي يستحضر ما قاله المستبد لويس السادس عشر: "لقد دمر فولتير وروسو فرنسا".
وكما ركز التنوير على تحرير العقل، حررت الثورة السورية الإنسان السوري، وأطلقت العنان لاستعادة كينونته الفردية في الحق والكرامة والضمير. فتحت الثورة المجال العام على مصراعيه لإعادة تعريف "الأنا السورية" و"نحن السورية"، وفق منطلقات جديدة بعيدة عن "مملكة الصمت" كما سماها ميشال سورا، وقريبة من فهم مي سكاف لسوريا العظيمة على مضض.
العقل السوري لن يحترق بعد اليوم كما حرق الأسد حلب، إلا إذا اختار السوريون الإذعان لنماذج استعادة الأسد كظاهرة مستبدة لم تعرفها سوريا في تاريخها المعاصر.
ولأن تحرير العقل السوري هو أهم مكتسب إنساني، قد يكون من الصعب القول إن الثورة السورية فشلت، بقدر ما يمكن القول إنها لم تنتهِ بعد. أي أن تفاعلاتها باتت أقرب إلى احتكاك واشتباك الفرد السوري نفسه ضمن وسطه الاجتماعي، الذي يزاحم تغيرات كبيرة في مسائل كان مجرد التفكير بها من المحرمات والممنوعات.
لم تقدم الثورة السورية للسوريين ما اعتقدوه من مسؤولياتها ومفرزاتها. على العكس، قدمت منطق الثورة نفسه للسوريين، الذي ربما أدركوه لاحقًا عندما حررت الإنسان السوري. لكن مسؤولية تحرير العقل هي مسؤولية ذاتية. لا شك أن الثورة تفسح المجال أمام وعي الفرد بهذه المسؤولية، عبر تفكيك الاستبداد من الداخل تمهيدًا للقضاء عليه. قد تجلب الثورة استبدادًا أكبر من سابقه إن لم تتحلَّ قواها بمسؤولية البناء بعد الهدم والتحرير، وقد تكون أصعب مراحل البناء هي العودة إلى الحالة الطبيعية. سبق أن فهمها فولتير في مصطلح "المستبد المستنير"، مشيرًا إلى حالة المملكة المتحدة في نظامها الملكي الديمقراطي، التي تمزج بين الحريات الفردية والنظام السياسي المتماسك، في دلالة على أهمية الدولة القوية والحريات الفردية الواسعة.
فككت الثورة السورية أكثر الأنظمة استبدادًا في تاريخ المنطقة، وجعلته ساذجًا أمام شعوب المنطقة. أظهرته قاتلاً لا بطلاً ولا مقاوماً، مكشوفًا، ونموذجًا لتفكيك الاستبداد وصناعته. دفعت الثورة نحو استعادة سوريا بريقها في صراعات عميقة متحركة، بأهمية صراعات الكتل الوطنية لحظة الاستقلال. لحظة سورية من لحظات الاستقلال في أربعينيات القرن المنصرم قد تكفي وتفي بغرض الثورة.
أما سؤال "ماذا بعد الثورة؟" فلا بد أن يفتح الأبواب على مصراعيه لفهم سوريا الجديدة واستحقاق البناء، الأصعب في تاريخ الأمم. لكن حتمًا، إن لم تحرر الثورة السورية الإنسان السوري، فهي أطلقت العنان لعقله، الذي دأب الأسد على اغتياله كلما فكّر في استعادة عافيته. العقل السوري لن يحترق بعد اليوم كما حرق الأسد حلب، إلا إذا اختار السوريون الإذعان لنماذج استعادة الأسد كظاهرة مستبدة لم تعرفها سوريا في تاريخها المعاصر.
وأول خلاص لسوريا سيكون عندما تبني دولة المواطنة الجديدة التي يُحترم فيها حق الإنسان السوري في التعبير. لدرجة أن يموت مدافعًا عن ذلك الحق، كما أحب فولتير في رسالته عن التسامح أن يفهم الاختلاف والحرية. فولتير الذي لم يعد موجودًا، لكن فكرته عن الإنسان المتسامح والحر ما زالت حاضرة في وجدان الإنسان الحر.