أغرت الأزمة الاقتصادية الكبيرة في لبنان وحالة الجمود السياسي لفترة طويلة عشرات من الشباب في لبنان بمستقبل واعد ينتظرهم عند انضمامهم لتنظيم الدولة. إذ خلال الأشهر الماضية، وُعد شبان ورجال عاطلون عن العمل من "الطائفة السنية" التي تعيش في أفقر المناطق بلبنان بالحصول على رواتب محترمة، وذلك عبر مروجين لتنظيم الدولة، والذين أغروا هؤلاء بالانضمام إلى تلك الجماعة وتكثير عدادها.
وبعض من هؤلاء الرجال الذين فروا من لبنان إلى سوريا والعراق لينضموا إلى التنظيم، سبق لهم أن سجنوا لفترة من الزمن في أحد السجون اللبنانية أو بسبب اتهامهم بوجود علاقة تربطهم بجماعة متطرفة ما أو تعاطفهم معها. إلا أن غالبيتهم أتوا من مناطق عضها الفقر بنابه في لبنان، فضلاً عن التنافس الطائفي القائم فيها بين السنة والشيعة.
خلال ذروة الحرب السورية، انضم المئات من شباب المناطق ذات الأغلبية السنية بلبنان، مثل طرابلس وعكار وعرسال للثوار السوريين، الذين كانت بينهم جماعات جهادية إسلامية مرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، ونفذ هؤلاء كثيرا من الهجمات الضارية داخل البلاد، شملت تلغيم سيارات، كما حملوا في بعض الأحيان ذلك العنف إلى بلدهم لبنان. ففي عام 2015، قتل انتحاري من تنظيم الدولة أكثر من 40 شخصا وتسبب بجرح 200 آخرين في هجوم بمنطقة برج البراجنة، تلك الضاحية ذات "الأغلبية الشيعية" القريبة من العاصمة بيروت.
ثم إنهم قاموا في معظم الأحيان بصب جام غضبهم في الداخل اللبناني على جماعة حزب الله، إلا أن الجيش اللبناني تمكن من كبح جماح المتطرفين في الشمال اللبناني بسرعة. ففي عام 2017، وفي عملية مشتركة نفذها مع حزب الله، أخرج الجيش اللبناني المئات من مقاتلي تنظيم الدولة وعائلاتهم والمتعاطفين معهم وأرسلهم عبر منطقة عرسال الحدودية إلى دير الزور في سوريا.
وبعد مرور سنوات من الهدوء منذ هزيمة تنظيم الدولة في المناطق التي احتلها داخل سوريا والعراق، ظهر تصعيد في العنف الذي تمارسه تلك الجماعة مؤخراً، إذ خلال الشهر الماضي، وبعد يوم على محاولة تنظيم الدولة اقتحام سجن في مدينة الحسكة الواقعة شمال شرقي سوريا، بما أن هذا السجن يؤوي قرابة ثلاثة آلاف مقاتل تابع للتنظيم، اقتحمت مجموعة من المقاتلين قاعدة للجيش العراقي في منطقة الأعظمية شمالي بغداد، وقامت بإطلاق النار على 11 جنديا أردتهم جميعاً قتلى وهم نيام. وفي غضون أيام، عثرت القوات العراقية على من نفذوا تلك المجزرة وأخذت بثأرها منهم، حيث شن العراقيون غارات جوية على أحد المخابئ وقتلوا تسعة مقاتلين لتنظيم الدولة، بينهم أربعة لبنانيين على الأقل، بالرغم من أن الإعلام اللبناني ذكر أن خمسة لبنانيين قتلوا في تلك العملية.
أسباب اندفاع الشباب اللبناني إلى الانضمام لتنظيم الدولة
يعتقد مسؤولون أمنيون لبنانيون أن الانهيار الاقتصادي وما يرافقه من تدهور في مستوى المعيشة يعتبر السبب الرئيسي الذي يدفع بالشباب للخروج من البلد والتوجه نحو تلك الجماعة الجهادية. فقد تحولت المناطق الفقيرة في لبنان، مثل طرابلس، إلى بيئة مناسبة لتجنيد الشباب ضمن صفوف تنظيم الدولة. يضاف إلى ذلك ما حدث للعملة اللبنانية التي فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها منذ عام 2019، ما أدى إلى غلاء أسعار الأغذية بنسبة فاقت 600%. بل حتى قبل الأزمة الاقتصادية، كان 60 في المئة من سكان طرابلس يعانون الفاقة.
بالرغم من أن وزير الداخلية اللبناني ذكر أمام الإعلام أن 37 رجلاً قد رحلوا من طرابلس للانضمام إلى تنظيم الدولة، إلا أن الناشطين المحليين يعتقدون أن العدد أكبر من ذلك بكثير، إذ تحدثوا عن نحو مئة رجل غادروا البلاد مؤخراً بهدف الانضمام لتنظيم الدولة.
بينما ذكر مسؤول أمني كبير تحدث إلى فورين بوليسي بشرط عدم الكشف عن اسمه أن من يقومون بتجنيد الشباب ضمن صفوف تنظيم الدولة يستميلون عادة الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-24 وذلك عبر إغرائهم براتب شهري يتراوح ما بين 500-600 دولار، وعلق على ذلك بالقول: "أتوقع أن يغادر المزيد من الشبان البلد لينضموا إلى تنظيم الدولة في حال استمرار ذلك الإغراء المالي، ولكن مصرع ما لا يقل عن خمسة لبنانيين في العراق قد يثبط عزيمتهم ويدفع الآخرين لإعادة النظر بالموضوع".
ضحايا لا متطرفون
زعمت أمهات أربعة مجندين لبنانيين لدى تنظيم الدولة قتلوا في غارات جوية عراقية متفرقة أنهن لا يعتقدن أن أولادهن متطرفون بل ضحايا للبطالة، ولوصمة العار التي تلحق بمن يتعاطف مع الجماعات المتطرفة، وللتدقيق المستمر الذي تمارسه الدولة بحقهم". ثم إن ثلاثة من بين هؤلاء الشبان كانوا قد تقدموا لخطبة فتيات من أجل الزواج، وكان يقلقهم أمر عدم تيسر دخل بين أيديهم، وأحدهم، وهو زكريا العدل معروف عنه في منطقته بأنه هرب من الفقر خلال الصيف الماضي، وكان من المفترض أن يستقل قارباً ليصل إلى أوروبا، غير أنه وقع بأحضان تنظيم الدولة في العراق بدلاً من ذلك.
أما الشاب عمر سيف فقد كان يحاول الهرب من أمن الدولة في لبنان، بعدما أدين بسبب ارتباطاته بجماعة متطرفة وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، ولكن حتى بعدما أمضى تلك المدة في السجن، ظل قيد الملاحقة من قبل الجهات الأمنية، ولم يتقبله المجتمع بسبب ذلك، وتحدثنا أمه عما جرى له فتقول: "ما حدث لعمر أتى نتيجة لضغط لا يحتمل تعرض له من قبل الدولة بعد خروجه من السجن، إذ ظلوا يعتقلونه ويعذبونه بين الفينة والأخرى من أجل التحقيق".
يحدثنا الجنرال إلياس فرحات، وهو مسؤول متقاعد من الجيش اللبناني ومحلل سياسي بأن صرامة أمن الدولة وحدة التوتر الطائفي "ليسا بمبرر" للانضمام إلى تنظيم الدولة، ويضيف: "تقوم الجهات الأمنية على الدوام بتعقب المشتبه بهم، دون أن تقوم بمطاردتهم، بل تقوم باستدعائهم لتحقق معهم بخصوص احتمال تورطهم". كما شرح أن الخلايا النائمة النشطة وفلول تنظيم الدولة في المنطقة ما تزال تمثل مشكلة حقيقية، وهذا ما عبر عنه بالقول: "بعد هزيمة تنظيم الدولة في لبنان وتوجه جبهة النصرة نحو إدلب، ما يزال يرجح وجود كثير من الخلايا النائمة في طرابلس وعكار وغيرها من المناطق، إذ تنضم عناصر من تلك الخلايا لتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة من حين لآخر، إذ خلال السنة الماضية اقتحمت مخابراتنا خلية لتنظيم الدولة في عكار".
طرابلس المظلومة
إلا أن السنة في طرابلس يشعرون بالظلم من جراء استهدافهم من قبل الأجهزة الأمنية، ويشتكون من عمليات القمع التي تطول المتشددين. ولذلك أطلق ناشطون محليون حملة مناهضة لاعتقال الآلاف من السنة دون محاكمة فقط لمجرد الاشتباه بوجود علاقات تربطهم بالجهاديين.
وبالعموم، يعبر سنة لبنان عن استيائهم من صعود حزب الله، ويشعرون بالتهميش من قبل القيادة السياسية في بلدهم، بعدما تخلى رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري الذي يعتبر أكبر زعيم سني في البلاد عن أداء دوره عندما أعلن عن توقفه عن السياسة بشكل مؤقت، ثم ذكر أنه لن يترشح للانتخابات القادمة التي ستجري في شهر أيار المقبل، حيث قال: "إنني على قناعة بعدم وجود مجال لأي فرصة إيجابية بالنسبة للبنان في ظل النفوذ الإيراني". إلا أن منتقديه يخشون من أن خروجه قد يزيد من قبضة حزب الله القوية على السياسة كما يمكن أن يعزز حظوظ تلك الجماعة وحلفائها في المنطقة.
سلاح يحسب له ألف حساب
بنهاية الحرب الأهلية الطويلة التي أغرقت لبنان بالدماء، قامت سائر الجماعات الطائفية بتسليم سلاحها، باستثناء حزب الله الذي تذرع بأن الهدف من احتفاظه بسلاحه هو حماية لبنان من إسرائيل، إلا أن غالبية الشعب داخل البلاد باتت تخشى من حاميها المزعوم، ففي شهر تشرين الأول من عام 2021، في الوقت الذي كان فيه مؤيدو حزب الله يتظاهرون ضد القاضي الذي يحقق بأمر تفجير مرفأ بيروت، تعرضوا لإطلاق نار في أحد الأحياء المسيحية، فرد حزب الله عبر استخدام رشاشات AK-47 وبالقذائف الصاروخية، ما حول الشوارع إلى ساحات حرب خلال دقائق معدودة.
تحجج مؤيدو حزب الله بأن الحزب لم يكن البادئ في القتال، ولكن ثمة إحساس حقيقي وعارم بانعدام الأمن في البلاد، وهذا ما أدى إلى زيادة في الإقبال على شراء الأسلحة والذخائر، حيث قام كثيرون بشراء بنادق ورشاشات لحماية أموالهم التي لم تعد لديهم أية رغبة بإيداعها في المصارف، فيما يحاول آخرون أن يستعدوا لحماية أنفسهم في حال قيام عنف سياسي أو أعمال شغب طائفية.
ويقوم المسؤولون في لبنان بالتنسيق مع نظرائهم العراقيين، ويقولون إنه بالرغم من قلقهم حيال تزايد أعداد من انضموا من أبناء شعبهم إلى تنظيم الدولة، إلا أنهم يسيطرون على الوضع تماماً والذي ما يزال دون المستوى المقلق الذي وصلت إليه البلاد في عام 2014. بيد أن وجود هذا الثنائي أي الفقر وحالة السخط على المستوى السياسي يمكن أن يجعل من فكرة الانضمام إلى الجماعات المتطرفة أمراً مغرياً بالنسبة لغالبية اللبنانيين الذين تعود أصولهم لبيئات محافظة دينياً وممن لديهم صلات بالأصل مع الجهاديين، كما هي حال البعض منهم.
المصدر: فورين بوليسي