فلنتحدث عن "الحرب"

2024.06.24 | 05:48 دمشق

آخر تحديث: 24.06.2024 | 05:48 دمشق

althwrt_alswryt.jpeg
+A
حجم الخط
-A

خيّب عدد وافر من المثقفين السوريين آمال كثير ممن كانوا يظنون بهم ثورة حين امتنعوا عن تأييدها يوم قامت، ولجأ بعضهم إلى اللجلجة لتجنب اتخاذ موقف واضح، فيما تورط آخرون في ترويج رواية النظام، بل الوقوف على يمينه والمزاودة على موقفه أحياناً.

لا عتب على النمط الأخير من "مثقفي" السلطة فهم أبناء مؤسساتها التي صنعتهم؛ من حزب البعث إلى وزارة الإعلام ومنابرها الرسمية إلى اتحاد الكتاب العرب وغيرها. لكن المفاجأة كانت في مواقف مثقفين مستقلين، أو معارضين في الأساس، وربما سجناء سياسيين سابقين لأعوام طويلة.

فقد فتحت غلبة المنتج الأدبي على الثقافة السورية لهؤلاء باب هروب سهل يتقنه المثقف ولم ينسَ آليات استخدامه المغبرة بعد. وهو مزيج من استخدام الرموز والمجازات تفادياً لمقص الرقيب وسكّينه، ومن التعالي على الناس وعدم الاكتراث للتفاعل معهم والتأثير فيهم. فاستعاد المثقف، أو استأنف، التحليق في سماوات تخصّه وبعض صحبه، منطلقاً من مرتكز إنساني مزعوم يدين "الحرب" الدائرة في البلاد.

لنتحدث عن الحرب إذاً. فهي تتيح لنا أن نبكي الدم دون أن نعرّفه، وأن نرثي الضحايا بلا النظر في وجوههم، وأن نطلّ على "طرفي الصراع" من منصة قاض لا قوانين بين يديه ولا ملف للقضية، بل فقط الطاولة المهيبة والباروكة..

لنتحدث عن الحرب إذاً. فهي تتيح لنا أن نبكي الدم دون أن نعرّفه، وأن نرثي الضحايا بلا النظر في وجوههم، وأن نطلّ على "طرفي الصراع" من منصة قاض لا قوانين بين يديه ولا ملف للقضية، بل فقط الطاولة المهيبة والباروكة.

تتيح لنا الحرب أن نزعم تناسل نصوصنا من تراث أدبي عالمي يدعو إلى السلام ويُدين طحن البشر بعضَهم في وقائع كارثية خلّفت ملايين الضحايا ودماراً كبيراً، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، مما يمكّننا من أن نُلحق بها أوصافاً مستقرة في اللغة، داعمة واستنادية. فهي حرب قذرة، أو مجنونة، أو عبثية... إلخ. وإن كانت بين "الإخوة"، أي أبناء البلد الواحد، منحتنا فرصة أن نمعن في الميلودرامية وأن نصطنع مشاهد يتواجه فيها شقيقان أو صديقا طفولة أو جاران نشأا في حب ووئام قبل أن تفرقهما الخنادق التي صنعها غرباء أوغروا الصدور وغسلوا الأدمغة.

لم تمنح الثورة السورية هذه السعة في التدليس في شهورها الأولى، إذ لم يكن فيها طرفان متحاربان بل محتجون وسلطة قامعة. ولم يكن فيها غرباء يمكن أن نعلّق عليهم آثامنا ونبرّئ ذاتنا الوطنية المنزهة افتراضاً عن الدم، كانت مرحلة عصيبة على المثقف المتأتئ، حار فيها في استنباط الحجج المتحذلقة ريثما أمدّته التطورات بما يثلج صدره.

تسلّح المحتجون وبدؤوا القتال؛ أتى الغرباء من كل فيافي الأرض بأفكارهم المتشددة؛ تمايزت الصفوف لتستقر على احتراب طائفي يكاد يفقأ العين بصراحته؛ شاعت في "المناطق المحرّرة" فوضى السلاح والإدارة والسياسة وأنشئت السجون وقمعت الحريات. فوجد هذا المثقف نفسه بالضبط في البيئة المناسبة لحياديته الزلقة، حتى دعا إليها من سبق وأخذه الحماس من زملائه فأيّد الثورة، ليعود إلى حضن التقلب الرغد وراحة عدم التعيين وحرية التهويم. وقد تزامن ذلك مع انكسار قوات الثورة وانحسار مناطق سيطرتها ودخولها في تيه سياسي، مما شجّع على اللجوء إلى الخلاص الفردي، جنة المثقف الأثيرة.

ولم تنزلق الثورة السورية إلى حرب فقط، بل إلى "حرب أهلية". وهي ملعب التعالي المصطنع والمتأنف عن "سفك الدم السوري"، في تمييز غير منطقي عن سواه، وبالتالي أمكن لنا، الآن، أن نترجم أدبياً ما سبق لقنوات النظام الإعلامية أن بثته منذ الأيام الأولى، مِن أن مَن يقمعك ما هو إلا أخ أو ابن عم أو خالة. مَن المسؤول إذاً؟ لا أحد على وجه التعيين، إنها الحرب!

هل تدخل قوات النظام في تحمل جزء من المسؤولية عن "حرب الإخوة"؟ لا جواب. ولا يأتي الامتناع عن تقديمه لأسباب تتعلق بالسلامة الشخصية فقط، بل كجزء من بنية التعمية والبناء للمجهول.

قد يعتقلك "أخوك". هذا مؤسف غير أنه من طبيعة الأشياء في العالم الثالث. قد يهينك، لكنه مجرد برغي في آلة ضخمة. قد يضربك، لا غرابة فقد أفهموه أنك من أعداء الوطن. قد ينكّل بك، لا بأس فالمسؤول هي الطغمة التي أفقرته ودفعته إلى التطوّع في أجهزتها بحثاً عن لقمة عيشه. قد يقتلك في المظاهرات، ما أفجع ذلك لكنه جندي يتلقّى الأوامر ولا يملك إلا تنفيذها. أما إن رددت عليه فستكون قد دشّنت حرب الإخوة، وشطبت بالمشرط جسد البلاد الموجوعة!

يكمن في جذر ذلك انفصالٌ بين السياسة والثقافة بدأ في السبعينات وتكرّس في الثمانينات، فقد مخضت أحداث كثيرة جرت وقتئذٍ صفوف المعنيين بالمجال العام وشطرتهم إلى قسمين؛ انخرط الأول في نشاط سياسي معارض أوصله إلى السجن في أكثر الاحتمالات، وانكفأ الثاني إلى أعمال أدبية وفنية شبه محايدة في الظاهر، مع تحميلها ما يسمح به الوضع من "رسائل"..

يكمن في جذر ذلك انفصالٌ بين السياسة والثقافة بدأ في السبعينات وتكرّس في الثمانينات، فقد مخضت أحداث كثيرة جرت وقتئذٍ صفوف المعنيين بالمجال العام وشطرتهم إلى قسمين؛ انخرط الأول في نشاط سياسي معارض أوصله إلى السجن في أكثر الاحتمالات، وانكفأ الثاني إلى أعمال أدبية وفنية شبه محايدة في الظاهر، مع تحميلها ما يسمح به الوضع من "رسائل"، يتساهل تجاهها الرقيب لأنه يعلم أنها لن تصل بعد كل هذا التغليف.

وكان من الطبيعي أن يتكرّس هؤلاء، بغض النظر عن نواياهم، كتاباً تلو آخر وأمسية وراء ندوة. وأن يُشيعوا في البيئة أن من سمات المثقف أن يبتعد عما وصفوه بالعمل السياسي المباشر، سابحاً في ملكوت اللوحة سارحاً في ناسوت القصيدة. وأن تنشأ بعدئذ أجيال من المشتغلين بالشأن الثقافي وفي ذاكرتها البعيدة حكايات القمع المفرط وفي حاضرها مخرَج شائع ومجرَّب فاتخذته سبيلاً. ولما قامت الثورة كان منجياً من اتخاذ أي موقف "سياسي" قد يتقاطعون فيه مع حشد من العوام المقلقين بعفويتهم الهلامية.

ينغّص على هؤلاء أحياناً ما يقرؤون عنه من انحياز صريح لبعض الكتّاب والفنانين العالميين في مسائل أخلاقية لا تحتمل المغمغة، لكنه يهربون إلى قواعدهم سالمين بالزعم بأن تلك القضايا واضحة بينما أصبح الوضع "معقداً" في سوريا، التي لم تصبح أرضاً للإفلات من العقاب فقط، بل ومن التعرض لصحوة الضمير كذلك.